بسم الله الرحمن الرحيم
{فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا
وأقاموا الصلاة وأتَوُا الزكوة فخلُّوا سبيلهم. إن الله غفور رحيم}.
ملخص معاني الآية:
إن انقضت الأشهر المؤجّلة، فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم، وألقوا القبض عليهم، وقوموا بمحاصرتهم، واقعدوا لهم كل مَرصد، فإن
تابوا عن كفرهم وشركهم، وأقاموا الصلاة، وأتَوُا الزكاة، فلا تتعرضوا لهم، إن الله
غفور رحيم.
الأشهر الأربعة:
قال بعض أهل العلم: أراد بها الفترة ما بين
العاشرة من ذي الحجة إلى العاشر من ربيع الثاني، سمّيت بالأشهر الحُرم لأن الله
عزوجل أمهل المشركين فيها، ونهى عن قتالهم. لاحظوا فيما يلي بعض النصوص والمراجع
المتعلقة بها، التي تُساعد في فهم معاني الآية الكريمة:
1- إن تمت الأشهر الحُرم بداية من عشرة ذي
الحجة إلى استكمال أربعة أشهر، فاقضوا عليهم حيث وجدتموهم، وإن أسلموا فخلوا
سبيلهم. (حاشية اللاهوري)
2- الأشهر الحرم الأربعة هذه من العاشر ذي
الحجة إلى العاشر ربيع الثاني. (في ظلال سورة التوبة)
القول الثاني:
القول الثاني أن المشركين الذين نقضوا العهد،
اُمهلُوا إلى نهاية محرم، فمعنى الآية أي قاتلوهم بعد انقضاء الأشهر الحُرم، وذلك
من أول صفر. ومصدر هذا القول سبق بالإحالة إلى ابن كثير وغيره. ولاحظوا مزيدا من
عبارات أهل العلم:
قال الأصم: أريد به من لا عقد له من المشركين،
فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الأشهر الحرم، وهو مدة خمسين يوما على ما ذكره
ابن عباس، لأن النداء كان بذلك يوم النحر. (القرطبي)
عبارة جامعة:
قال مجاهد وابن أسحاق: أراد بالأشهر الحُرم ما
ذكر في أول السورة، فالذين عاهدتم معهم ولم تضربوا له أجلا، أو الذين لا عهد بينكم
وبينهم، فلهم المهلة إلى أربعة أشهر، أما الذين نقضوا العهد، كقريش، فلهم المهلة
لأربعة أشهر من عشرة ذي الحجة إلى استكمال شهر محرم. هذا الذي كتبه صاحب معالم
التنزيل، ومثله فعل صاحب مدارك التنزيل، وأيده صاحب روح المعاني، وقال: لا يراد من
الأشهر الحُرم تلك الأشهر المعروفة عند العرب في الجاهلية، (وهي ذو القعدة وذو
الحجة ومحرم ورجب، كانوا يمتنعون عن القتال فيها في الجاهلية وصدر الإسلام) وسببه
أنه لم يبق وقت الإعلان إلا عشرون يوما من ذي الحجة وشهر محرم بكامل أيامه، أما
رجب فلا يأتي إلا بعد خمسة أشهر، وعند اعتدادها تطول المدة، مع أن أحداً لم يُمهَل
لأكثر من أربعة أشهر. أمر في الآية الكريمة بقتال المشركين حيث وجدتموهم عند
انقضاء الأشهر الحرم، وخذوهم واحصروهم. ومعنى حصرهم كما قال ابن عباس: احبسوهم في
الحصون، وامنعوهم من الخروج منها، واقعدوا لهم كل مقعد، أي في طرقات مكة، فلا
تسمحوا لهم بالدخول فيها.
{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتَوُا الزكاة
فخلّوا سبيلهم} ليدخلوا مكة ويؤدّوا مناسك حجهم، {إن الله غفور رحيم} بعد توبتهم
عن كفرهم ودخولهم في الإسلام تهدمت الذنوب والمعاصي كلها، فلا مؤاخذة عليهم.
{واحصروهم} فيها إشارة إلى جواز فرض الحصار عليهم. {واقعدوا لهم كل مَرصد} فيها
إشارة إلى إنشاء نقاط التفتيش داخل الدولة الإسلامية بغرض الحماية من العدو والحذر
منه. (أنوار البيان)
البيان العثماني:
أي لا عهد بينكم وبينهم بعد نقضهم للعهد، ويمكن
لكم الآن محاربتهم بدون توجيه إنذار مسبق، والذي يمنع من ترتيب هجوم عليهم هو دخول
الأشهر الحرم. إمّا لأن ابتداء القتال في الأشهر الحرم كان ممنوعا عند ذلك الوقت،
أو رعايةً لمصلحة وقتية، إذ القتال كان محرما عند الجميع في ذلك. وعلى كل فقد اُمهلوا
حتى تنقضي الأشهر الحرم ويتمكنوا من اتخاذ الترتيبات اللازمة لمغادرة المنطقة،
وعند انتهاء الأجل لا مفر من الحرب (بما فيها من قتل وأخذ وحصر وكر وفر والقعود في
المراصد) لتطهير أرض الجزيرة من دنس الشرك
والكفر. أما إن تابوا من الكفر، ودخلوا في الإسلام، وقاموا بأداء الصلاة والزكاة
والصوم، فخلوا سبيلهم، ولا يجوز التعرض لهم، هذا باعتبار الظاهر، أما باعتبار
الباطن فأمرهم مفوّض إلى الله تعالى، وليس للمسلمين إلا النظر إلى ظاهر أحوالهم.
ومن هنا عرفنا أن أحداً إن نطق بكلمة الشهادة، ثم لم يصل، ولم يؤد الزكاة، جاز منع
سبيله، وقال الإمام أحمد والشافعي ومالك رحمهم الله: من مسئوليات الحكومة
الإسلامية قتل تارك الصلاة إن رفض التوبة. (فعند أحمد لارتداده، وعند مالك
والشافعي حداً وتعزيراً) وقال أبو حنيفة: يُسجن فيُضرب ضربا شديدا حتى يموت أو
يتوب. (ولا يُخلّى سبيله عند أحد من الأئمة). ومن منع زكاة أمواله، تؤخذ منه
بالقوة، وإن رفض إلا القتال، تُقاتله الحكومة، فقصة قتال مانعي الزكاة مشهورة في
كتب الحديث. (التفسير العثماني)
كلام بركة:
الذين عاهدتموهم، ولم يغدروكم، وحافظوا على
مواثيقهم، والذين لم تعاهدوهم، فلهم المهلة لمدة أربعة أشهر. وقد قال النبي ·: لا
يعلم البواطن إلا الله، فمن أسلم في ظاهره فهو مثل بقية المسلمين، ومن علاماته
إشهار الإسلام، والتوبة عن الكفر، وإقامة الصلاة وأداء الزكاة. وبناءً عليه فمن
ترك الصلاة فقد حُرم من الأمان، وكان أبو بكر الصديق يقتل مانعي الزكاة كما كان
يقتل الكفار والمشركين. (موضح القرآن)
وفيها إشارة إلى عدم إيمان تارك الصلاة، لكنهم
الآن انتصبوا لحكم البلاد الإسلامية، ويصرّون على أنهم ناصحون لهذه الأمة. وإلى
الله المشتكي.
هذه آية السيف:
هذه الآية تُسمّى بآية السيف عند أهل العلم،
حيث قال ابن كثير:
«وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال
فيها الضحاك بن مزاحم إنها نسخت كل عهد بين النبي · وبين أحدٍ من المشركين، وكل
عقد وكل مدة» (تفسير ابن كثير)
منح النبي ·
أربعة سيوف:
عن علي بن أبي طالب قال: بُعث النبي · بأربعة
أسيف:
(1) سيف في المشركين في العرب. وذلك في قوله
تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (تفسير ابن كثير)
(2) وسيف في أهل الكتاب، وذلك في قوله تعالى:
{قاتِلُوا الذين لا يؤمنون} (التوبة 29).
(3) وسيف في المنافقين، وذلك في قوله تعالى:
{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} (التوبة 73، التحريم 9) (تفسير ابن كثير).
(4) سيف في المنشقّين، وذلك في قوله تعالى:
{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات 9) (تفسير ابن كثير)
وعلى كلٍ، من يأنف القتال في سبيل الله، عليه
أن يتفكر في هذه السيوف الأربعة، وينظر في سيرته · الطيبة، ليعلم كيف استعمل هذه
السيوف، وكيف عمِلَ بهذه الآيات.
الإصرار على القتال:
الأمر بالجهاد ليس بأمر سطحي في الإسلام، إنما
هو أمر قطعي كتبه الله على عباده، بيّنه الله بكل بسط وشرح. والدليل عليه أن الله
لم يقل: قاتلوا المشركين واقتلوهم عند انتهاء الأشهر الحرم، إنما وجّه إليهم
تعليمات شاملة وتوجيهات محكمة ترشدهم إلى خوض حرب حاسمة مع المشركين. وهي:
(1)
اقتلوهم حيث وجدتموهم
(2) اقتلوهم كيف شئتم (واجتنبوا عن المُثلة) (3) خذوهم واحبسوهم (4) احصروهم إن
اختبئوا في الحصون والقلع. (5) واقعدوا لهم كل مرصد، وأقيموا نقاط التفتيش عند
الممرات الرئيسية، وقوموا بالترتيبات العسكرية التي تضمن قبض كل واحد منهم وقتله،
وأقيموا نقاط التفتيش في الصحراء والأسواق.
قال الإمام الرازي:
(2)
أولها: {فاقتلوهم حيث
وجدتموهم} وذلك أمر بقتلهم على الإطلاق في أي وقت وأي مكان.
قال المفسرون: المعنى اقعدوا لهم على كل طريق
يأخذون فيه إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة. (التفسير الكبير)
{واقعدوا} ليس معناه حقيقة القعود، بل المراد
ترقبهم وترصدهم (روح) واحصروهم أي امنعوهم عن الخروج إذا تحصنوا منكم بحصن (روح عن
ابن عباس) (التفسير الماجدي).
طلب بسيط:
أرجو من الإخوة المسلمين الذين أخرجوا الجهاد
في سبيل الله من مسار حياتهم أن يقرءوا هذه الآية بعيونهم التي في قلوبهم،
ويلاحظوا الترتيبات الحربية التي وردت فيها، سواء كان بنية التأويل، أو لغرض آخر،
ثم يسأل نفسه، ويقول: هل أنا مسلم؟ خاصة أولئك الذين لم يجدوا أنفسهم جاهزة لتلقي
هذه الأحكامات الربانية. فأستغفر الله، ثم أستغفر الله، ثم أستغفر الله. (والله
أعلم بالصواب).