{سورة الحجرات مدنية، الآية 6}

{بسم الله الرحمن الرحيم}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)}.

ملخص معاني الآية الكريمة:

(1) ليحافظ المسلمون على قواهم الجهادية، ولا يضيعوها في مواقع خاطئة.
(2) لا يتقاتل المسلمون ظلماً.
(3) يجب المحافظة على الأمن العام لتحقيق النجاح في الجهاد.
(4) إن جاء فاسق بنبإ يستدعي قتال المسلمين، فليتبيّنوا، مخافة أن يصيبوهم بأذى من قتل وغيره، ثم يندموا على ما فعلوا.
(5) من أسرار قوة المسلمين وجمع كلمتهم أن لا يلتفتوا إلى الشائعات.

آداب الجماعة:

ذكر في سورة محمد غايات الجماعة، وفي سورة الفتح «الجماعة وصفاتها». والآن في سورة الحجرات يبيّن طريقة المحافظة على الجماعة ووحدة كلمتها، وتنظيم العلاقات بين أفرادها، والمحافظة على توحيد الصف، كل هذه وتلك تذكرها سورة الحجرات. (والله أعلم بالصواب)

الساعون إلى إشعال الفتنة:

لاشك أن القرآن الكريم ليس إلا كتاب الفطرة، فهو لا يمنع من شيء إلا لأنه ممكن الوقوع، فليحذروه. ومن هنا عرفنا أن جماعة المسلمين مهدّدة بالذين يشيعون الأخبار المضللة والشائعات الكاذبة بغية الإفساد بين أفرادها. حتى جاء القرآن بالضوابط التي تضع حداً لها، فقد وجّه المسلمين إلى عدم اتخاذ اجراءات عسكرية ضد قوم بدون استبيان الحقائق، وهذا حكم الأفراد أيضاً، فلا يجوز لهم محاربة أحد بدون التحقيقات. إلى جانب ذلك ذكرت الآية عددا من الضوابط العسكرية، ومنها:
(1) المحافظة على القوة: يترتب على استخدام القوة العسكرية ضد أفراد القوم أنفسهم تفكك الجماعة وإضعاف بنيانها.
(2) ترتيبات استخبارية معتمدة: لا يمكن المحافظة على الوحدة والجمع بدون اعتماد ترتيبات استخبارية قوية، ولابد أن يتم اختيار أفراد صالحين صادقين، ليمكن إجراء التحقيقات بشأن الشائعات، ومراقبة الأوضاع في المناطق النائية.
ففي التفسير العثماني:
«معظم الخلافات والنزاعات تنشب من أخبار صغيرة غير مهمة، لذلك أرشد في بداية الأمر إلى سدّ باب النزاع والتفرقة بعدم قبول خبر بدون تحقيق، نفرض أن رجلا فاسقا ضارا مغلوب الحال متحمسا لشيء اشتكى قوما، فلا تثوروا ضدهم بدون إجراء تحقيقات، لأنه قد يبدو لكم فيما بعد أن ما فعلتموه كان خاطئا، فتندمون عليه، كما قدّروا الآثار المدمرة التي تترتب بسببه على جماعة المسلمين». (العثماني)
وقال الشيخ أحمد علي اللاهوري رحمه الله:
إن جاءكم خبر عن أولئك الإخوة الذين يقيمون في البلاد النائية، فلا تستعجلوا في اتخاذ القرار، بدون إجراء تحقيقات. (اللاهوري)

حكم الآية عام:

وحكم الآية الكريمة عام، إذ العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب. (الحسن البصري، روح المعاني)
وفي التفسير الحقاني:
«حكم الآية عام، لكن شيئا حدث في عهد الرسول ·، وينطبق عليه حكم الآية، والذي يسمونه سبب النزول». (الحقاني)
وفي بيان القرآن:
لم يتسرع النبي · في اتخاذ قرار فيما أبلغه وليد بن عقبة رضي الله عنه، رغم عدم نسبة الفسق إليه، عرفنا الحكم الشرعي أنه لا يجوز اتخاذ قرار بناء على خبر بدون إجراء تحقيقات، خصوصا إن كان المخبر فاسقا خبيثا، فلتحققوا من صدق خبره قبل القيام بعمل ضده. (مفهوم بيان القرآن)
كتب المفسرون تحت سبب نزول الآية قصة الوليد بن عقبة، وهي باختصار إن النبي · بعثه إلى جهة لجمع أموال الصدقة، فخرجوا لاستقباله، وكانت بينه وبينهم عداوة سابقة، فظن أنهم ما خرجوا إلا لقتله، فعاد إلى المدينة وأبلغ النبي · أنهم ارتدوا وكفروا. فأرسل النبي · خالد بن الوليد لتقصّي الحقائق، وأمره أن ينظر في أمرهم، فإن كانوا قد ارتدوا وكفروا بالله فقاتلْهم، وإن استقاموا على الإسلام فلا تقاتلهم، فتوجه إليهم خالد بن الوليد، وقام بالتحقيقات في سرية تامة، فوجدهم ينادون للصلاة ثم يصلون. وكان النبي · قد عمل بحكم الآية قبل ذلك، لكن الله جعله أصلا عاما للمستقبل، أما ما يتعلق بالوليد بن عقبة رضي الله عنه فقد قال عنه القاضي أبو يعلي رحمه الله:
الرضا صفة من صفات الله تعالى، ولا يعلن برضائه إلا لمن سبق علمه أنه لا يتوفى إلا على موجبات رضاه، حتى إن أحدا من الصحابة لو صدر منه خطأ، ثم تاب عليه، تاب الله عليه، إذ التوبة تزيل المعاصي.

الآية تُنادي:

مجتمعنا غارق اليوم في الأخبار المضللة الكاذبة، وسائل الإعلام المتنوعة والجرائد والصحف لا تبيع إلا الأخبار الكاذبة، التي أفقدت ثقة المسلمين بعضهم ببعض، فليس بين المسلمين إلا العداوات والقتل والنهب، والقُوى المعادية للإسلام تستخدم الشائعات والأخبار الكاذبة كسلاح للإيقاع بين المسلمين، أما الآية الكريمة فتدعو المسلمين إلى تطبيق ضوابط الحب والثقة والتحقيق، إن عمل المسلمون بهذه الآية في شئوونهم الشخصية والجماعية، لاستفادوا من بركات كثيرة، وتوقف مسلسل القتل الظالم. والواجب على المجاهدين خاصة قبل اتخاذ اجراءات عسكرية العمل بهذه الآية بكاملها، وإلا ندموا وتأسفوا. (والله أعلم بالصواب)

وقف الحرب بين المسلمين مهم جداً:

وفي التفسير الكبير:
هذه السورة تُعلّم المسلمين مكارم الأخلاق، تُعلمهم كيف يتعاملون مع ربهم؟ وكيف يتعاملون مع الرسول ·؟ وكيف يتعاملون مع إخوانهم المسلمين؟ والمسلمون على قسمين: (1) مطيعون (2) عصاة فُساق. والمطيعون على قسمين: (1) الموجودون بين أيديهم (2) الغائبون عنهم.
فبيّن فيها حقوق الأصناف الخمسة:
(1) حقوق الله.
(2) حقوق الرسول ·.
(3) حقوق المسلمين الحاضرين.
(4) حقوق المسلمين الغائبين.
(5) التعامل مع الفُسّاق.
في أول السورة بيّن حقوق الله تعالى، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}.
ثم بيّن حقوق الرسول · فقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)}.
ثم بيّن ما يتعلق بالفاسق، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)}.
ثم بيّن حقوق المسلمين الحاضرين، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}.
ثم بيّن حقوق المسلمين الغائبين، ومنعهم من إساءة الظن فيهم والتجسس والغيبة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}.
وهنا قد يتساءل أحد: كيف قدّم ما يتعلق بالفسّاق على ما يتعلق بالطائعين؟ أجيب عنه بأن الآية قدّمت الأهم فالأهم، فحق الله أولى من جميع الحقوق، ثم حق الرسول ·، ثم الأهم وقف الحرب بين المسلمين أنفسهم، فقدّم ما يتعلق بالفاسق حتى لا تكون حرب بينهم، أما السُخرية والغيبة وغيرها من الرذائل لا شك أنها تضر بالمسلمين، لكنها لا تجلب الحرب، ومن هنا عرفنا أن ترتيب القرآن من أفضل التراتيب. (مفهوم ما جاء في التفسير الكبير)