{سورة الأحزاب مدنية، الآية 9}



{بسم الله الرحمن الرحيم}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)}.

ملخص معاني الآية:
(1) بداية معركة الخندق أو الأحزاب.
(2) يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم في وقت الحرج.
(3) نصر الله المؤمنين يوم الأحزاب بريح وجنود.
(4) كان الله بصيرا بما يعملون من حفر الخندق والثبات للقتال والاستقامة في أوقات الحرج، وقد اُعجب بها، ونصرهم الله.
تفسير يسير:
{يا أيها الذين آمنوا} {اذكروا نعمة الله عليكم} في وقت الحرج لمّا نصركم على أعداءكم بدون قتال، وأجبر الكفار على الهروب من ساحة القتال يجرون أذيال الخزي والعار رغم زيادة عددهم وعُدتهم، ولا يكرم الله بتلك النِعَم إلا من كان يتوكل عليه، يصدقون في عهودهم، بحيث لا يقلدون المنافقين ولا يتبعونهم، لا يخافون أحداً إلا الله، ولا يطيعون غيره. {إذ جاءتكم جنود} من قريش مكة وغطفان وكنانة وبني قريظة وبني النضير، تحالفت لغزوكم وللقضاء عليكم. {فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها} فاقتلعت خيامهم وانفلتت خيولهم، وانطفأت نيرانهم، وانهالت الأتربة على وجوههم وأفواههم، ففزعت الأحزاب وتزلزلت أقدامها فتهربت، وهذه العاصفة كانت قد أحاطت بهم بحيث لم تتجاوز مكان تواجدهم رغم شدتها وقوتها.
(كما في رواية حذيفة عند ابن كثير. وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا) (ابن كثير) كما يشير إليه لفظ {فأرسلنا عليهم ريحاً} بحيث لم تتجاوز العاصفة إلى غيرهم، وسلم منها المسلمون، ثم أنزلنا جنودا لنصر المؤمنين لم تروها، وجنود الملائكة لم تقاتل مثل بدر، لكنها ألقت الرعب في قلوب المشركين، وأحاطت بالجنود تُردّد «الله أكبر» بصوت عال. (كما في روح المعاني) أدى ذلك إلى تزلزل أقدام المشركين، وأضحى كل زعيم يقول للناس: اذهبوا اذهبوا اهربوا من هنا حتى قال بعضهم مذعورين: لقد سحركم محمد، لا مقام لكم هنا، فارجعوا. {وكان الله بما تعملون بصيرا} فأهلك بالعاصفة أعداءكم، وحافظ على الأحباء والأصدقاء من الصحابة وغيرهم، ومن هنا وجب عليكم شكر نعمته. (معارف القرآن للكاندهلوي)
كما يرى الله أعمالكم إذ كنتم تحفرون خندقا طويلا وعريضا وعميقا ببذل جهود عظيمة، وتَثَبَّتُّم أمام العدو  بالمثابرة، ففرحنا بها وأمددناكم بالنصر. (بيان القرآن)
ألفاً من الملائكة:
{وجنودا لم تروها} وهم الملائكة وكانوا ألفاً.
وقال النسفي رحمه الله:
«بعث الله عليهم صبأ باردة في ليلة شاتية فاخصرتهم، وأسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأناب واطفأت النيران، وكبّرت الملائكة في جوانب عسكرهم فانهزموا من غير قتال». (المدارك)
وفي التفسير المظهري:
{ريحا} هبت من المشرق، والطقس كان باردا، والليلة شاتية، فجاءت عاصفة شرقية باردة، فأقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، واطفأت النيران، وانكفأت القدور، وانفلتت الخيول من عُقُلها.
{جنودا} من الملائكة (أرسلهم الله لنصر المؤمنين) يكبّرون ويهللّون في جوانب العسكر، فأدخلت الرعب في قلوب المشركين، فخافوا، وقام سيد قبيلة ونادى أفرادها حتى اجتمعوا حوله، فقال: اهربوا اهربوا، فهربوا ولم يقاتلوا أحداً. الملائكة لم تباشر القتال في هذه المعركة (وكان الغرض من إرسالهم تسلية المؤمنين وتشجيعهم وإلقاء الرعب في قلوب المشركين). (المظهري)
ريح منصورة:
الريح التي بعثها الله تعالى على المشركين يوم الأحزاب، قال المفسرون هي «صبا».
قال مجاهد: هي الصبا. (القرطبي)
وقال النبي ·: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور». (البخاري ومسلم)
وقال القرطبي: وكانت هذه الريح معجزة للنبي ·، لأن النبي · والمسلمين كانوا قريبا منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها ولا خبر عندهم بها. (القرطبي)
وعلى كل حال، فالريح والملائكة أحاطت بالجنود وصرعتهم وأدخلت في قلوبهم الرعب، حتى لاذوا بالفرار، أما الذي جاء لحسم النزاع فقد هرب وهو يقول: «ارجعوا ارجعوا» . لاشك أن نصر الله ينزل في الجهاد بشتى الطرق.



المنورة
غزوة الأحزاب
شوال 5هـ
تناولت الآيات من 9 إلى 25 من سورة الأحزاب قصة غزوة الأحزاب. لاحظوها فيما يلي باختصار.



غزوة الأحزاب
شوال سنة 5 للهجرة
قصة غزوة الأحزاب
متى كانت غزوة الأحزاب؟ قيل: في شوال سنة 4هـ. وهذا الذي اختاره البخاري، وقال محمد بن إسحاق: كانت في شوال سنة 5هـ. وعليه إجماع أئمة المغازي والسير، وقال الذهبي وابن القيم: هذا هو الصحيح المعتمد. وقال ابن سعد والواقدي: كانت في ذي قعدة سنة 5هـ.
وقد أيّد الإمام البخاري ما قاله موسى بن عقبة بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «عُرضتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردّني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني». فصح أنه لم يكن بين اُحد والخندق إلا سنة واحدة فقط، وأن اُحد وقعت سنة ثلاث من الهجرة، فثبت أن الأحزاب وقعت سنة أربع من الهجرة.
وقد أجمع جمهور أئمة المغازي على أنها وقعت سنة خمس من الهجرة، حتى قال البيهقي: لا يستبعد أن لا يكمل ابن عمر السنة الرابعة عشر يوم اُحد، فقد يكون في أول السنة الرابعة عشر، واكتملت له خمس عشرة سنة يوم الخندق، فالفاصل بينهما سنتان كاملتان وفق هذا الاعتبار.
وكان أَبَو سُفْيَان قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ أُحُد : مَوْعِدكُمْ الْعَامَ الْمُقْبِلَ بِبَدْرٍ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ إِلَى بَدْرٍ ، فَتَأَخَّرَ مَجِيءُ أَبِي سُفْيَانَ تِلْكَ السَّنَةِ لِلْجَدْبِ الَّذِي كَانَ حِينَئِذٍ ، وَقَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّمَا يَصْلُحُ الْغَزْوُ فِي سَنَةِ الْخَصْبِ ، فَرَجَعُوا بَعْدَ أَنْ وَصَلُوا إِلَى عُسْفَانَ أَوْ دُونَهَا ، ثم عاد من القادم بعشرة آلاف جنود، وهذا ما يسمى الأحزاب أو الخندق، ودل على أن الفاصل بين اُحد والخندق سنتان. وهذا ما يؤيد موقف جمهور علماء السير. (فتح الباري باب غزوة الخندق)
وَالأَحْزَابُ جَمْعُ حِزْب أَيْ طَائِفَة ، سميت بها لتآلف جماعات المشركين على محاربة الرسول ·، بغزو المدينة المنورة. فَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا الْخَنْدَق فَلأَجْلِ الْخَنْدَقِ الَّذِي حُفِرَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وظل المشركون يهاجمون على المسلمين منذ أن هاجر النبي · من مكة، وكانت من أهمها وأشدها وأعنفها غزوة الأحزاب التي خاضوها بإرادة قوية وتحالف واسع، فكانت من أكثر الغزوات وطأة على المسلمين، إذ كان قوام جيش المشركين يربو على اثني عشر ألفا، وقيل خمسة عشر ألفا، والمسلمون لا يتجاوزون على ثلاثة آلاف، وكانوا يعانون من قلة المعدات القتالية، في زمن الشتاء، ذكرها القرآن في ألفاظ مرعبة فقال: {زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} {وزُلزلوا زلزالا شديدا}. لكن ترتبت عليها آثار إيجابية وانتصارات تفوق الخيال، بحيث قصمت ظهر المشركين واليهود والمنافقين، كما أنها أنهكت قواها بحيث لا تقدر على مهاجمة المسلمين، فكانت آخر غزوة بين الكفر والإسلام من الحيثية المذكورة، التي دارت رحاها على أرض المدينة المنورة سنة أربع أو خمس للهجرة.
وكانت بدايتها أن عشرين يهوديا من بني النضير وبني وائل من اليهود قدموا مكة، وكانوا يُكنّون عداء شديدا للنبي ·، واجتمعوا مع زعماء المشركين وحرّضوهم على محاربة المسلمين، وكان المشركون يزعمون أن اليهود لا يرضون بهم مثل المسلمين، لعبادتهم الأوثان، لذلك لا يرجون منهم توافقا وتحالفا، حتى سألوا اليهود فقالوا: أنحن خير دينا أم المسلمون؟
الكذب أمر عادي في المسرح السياسي:
فأجابهم اليهود بما يخالف علمهم وضميرهم، وقالوا: أنتم خير دينا منهم، حتى هدءوا قليلا واتفقوا على أن خمسين رجلا من المشركين يخرجون إلى الكعبة يرافقهم وفد اليهود وهم عشرون رجلاً، ويلصقون صدورهم بجُدران الكعبة ثم يتعاهدون على قتال النبي · ما بقي منهم رجل.
من عجائب كرم الله وحلمه:
أعداء الله يلصقون صدورهم بجدران الكعبة ويتعاهدون على محاربة رسول الله ·، وينصرفون بقلوب يملأها الحماس والشجاعة، لاحظوا كرم الله وحلمه هنا. ثم تتطّلعون على مصير تعاهدهم بأنهم جميعا لاذوا بالفرار يوم الأحزاب.
ثم توجه وفد اليهود إلى غطفان إحدى القبائل العربية الشرسة، وقالوا: لقد اتفقنا نحن وقريش على استئصال هؤلاء دعاة الدين الجديد (الإسلام)، وندعوكم إلى الدخول معنا في التحالف، وعرضوا عليهم ثمار نخيل خيبر لسنة كاملة، وفي بعض الروايات لنصف سنة، فوافق عيينة بن حصن سيد غطفان على العرض، ورضوا على خوض الحرب معهم. فخرج جيش قريش في أربعة آلاف مقاتلين وثلاثمائة فارس وألف بعير من مكة يقودهم أبو سفيان بن حرب، حتى نزل بمرّ الظهران، فانضم إليهم قبائل أسلم وأشجع وبنو مُرّة وبنو كنانة وفزارة وغطفان، حتى بلغ عددهم عشرة آلاف مقاتلين، وقيل اثني عشر ألفا، وقيل خمسة عشر ألفا.
أكبر هجوم على المدينة المنورة:
كان جيش المشركين يوم بدر مكوّنا من ألف رجل، ويوم اُحد من ثلاثة آلاف رجال، ويوم الأحزاب كانوا أكثر عددا وعُدّة إلى جانب تحالف اليهود وغطفان وسائر قبائل العرب.
تجهيزات المسلمين للقتال:
(1) التوكل على الله.
(2) التشاور.
(3) توفير الوسائل المادية حسب الطاقة.
لمّا بلغ النبي · خبر تحركات التحالف الكبير كانت كلمة «حسبنا الله ونِعم الوكيل» أول كلمة انطلقت على لسانه، ثم دعا ذوي الرأي من المهاجرين والأنصار، لاشك أن صاحب الوحي لا يحتاج إلى التشاور، إذ يعمل في ضوء التعليمات الربانية التي يتلقاها مباشرة بطريق الوحي، لكن التشاور لا يخلو عن فائدتين: الأولى: تعليم سنة التشاور لعامة أفراد أمته. الثانية: بعث عوامل الترابط والتوافق والتعاون والتكاتف في قلوب المؤمنين. ثم درسوا جوانب الحرب المادية من سلاح وعتاد، وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه بين الحضور، وقد تحرر من ربق عبودية يهودي مزوّرة، فأشار على المسلمين أن ملوك الفُرس يحفرون الخنادق للحيولة دون تقدم الجيوش المهاجمة في مثل هذه المواقع الحرجة، فاستحسن النبي · رأيه، وأمر بحفر الخندق، وشارك فيه بنفسه القدسية.
حفر الخندق:
وقد تقرر حفر الخندق بشمال المدينة المنورة خلف جبل السلع الذي كان من المتوقع قدوم الأحزاب منه، فخَطَّ النبي · خطوطا طول الخندق وعرضه، أوله قلعة الشيخين، وآخره الجانب الغربي من جبل السلع، ثم زادوا فيه حتى وصل إلى وادي بطحان ووادي راتونا، طوله ثلاثة أميال ونصف تقريبا، ولا يُدرى شيء من عمقه وعرضه بالروايات الصحيحة، لكن الذي يبدو أن العرض والعمق كانا بشكل معقول بحيث لا يمكن للعدو عبور الخندق.
وجاء في الروايات أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان يحفر يوميا خمسة أذرع طولا ومثلها عمقا. (المظهري) ومن هنا يمكن القول بأن عمقه كان خمسة أذرع.
قوام الجيش الإسلامي:
لم يكن يتجاوز الجيش الإسلامي على ثلاثة آلاف مقاتل وستة وثلاثين خيلاً.
تحديد خمس عشرة سنة للبلوغ:
خرج مع الجيش الإسلامي عدد من الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم وامتلأت قلوبهم بالعاطفة والحماس، فأرجع النبي · من كان أقل من خمس عشرة سنة، وأذن للباقي، وكان من بينهم عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وبراء بن عازب رضي الله عنهم. فلما تجهّز الجيش للخروج بات المنافقون المختلطون بالمسلمين يتسللون، حتى تمكن بعضهم من الخروج مُستتراً، واستأذن بعضهم بأعذار واهية، فكانت فتنة ظهرت من الداخل. (القرطبي)
الوحدة الإسلامية وتقسيم القومية:
أعطى النبي · راية المهاجرين في يد زيد بن حارثة، وراية الأنصار في يد سعد بن عبادة، وكانت أواصر الأخوة بين المهاجرين والأنصار في أقصى قوتها، وكلهم إخوة متحابّون، لكن النبي · فصل الأنصار من المهاجرين رعاية لسهولة التنظيم والترتيب، ومن هنا عرفنا أن القوميات الإسلامية والوحدة الإسلامية لا تمنع من التقسيم الإداري والاجتماعي إن كان الغرض منه تسهيل التنظيم والترتيب، ففي تحميل المسؤولية على عاتق كل عشيرة بشكل منفصل يزيد الشعور بالمسؤولية والقيام بها بوجه أفضل، كما يزيد مشاعر التناصر والتعاضد والتكاتف، والتي برزت أثناء حفر الخندق بالوجوه الآتية:
عملية الحفر الموزعة على كافة أفراد الجيش:
لقد فوّج النبي · كافة أفراد الجيش من المهاجرين والأنصار على عشرة أنفس، وأمرهم بحفر أربعين ذراعا من الخندق، وبما أن سلمان الفارسي رضي الله عنه ممن أشار علي النبي · بحفر الخندق، وكان عارفا به وقويا من الناحية البدنية، ولم يكن من الأنصار والمهاجرين، لذلك رغب كل من الأنصار والمهاجرين في ضمّه إليهم، حتى تَدَخَّلَ النبي · وحسم النزاع بقوله: «سلمان منّا أهل البيت».
التفريق بين المواطن والأجنبي وابن البلد والوافد في الأداء:
لا يرضى الناس اليوم بمنح حقوق متساوية للمواطن والأجنبي، لكن الصحابة كانوا يعتزّون بضم الموهوب إليهم، حتى بادر النبي · إلى إدخاله في أهل بيته حسماً للنزاع، ثم شكّل جماعة مكوّنة بعشرة بضم عمرو بن عوف وحذيفة وغيرهما من المهاجرين.
معجزة عظيمة:
ومن المفاجآت أن كُديَةً عرضت في الجهة التي يحفرها سلمان الفارسي وجماعته، قال عمرو بن عوف وكان مع سلمان الفارسي: هذه الكدية قد حطّمت جهازنا، وعجزنا عن قطعها، فقلت لسلمان: لو تركناها والتوينا عليها، ثم وصلنا الخندق بعضه ببعض، ثم قلنا: كيف نعدل إلى ما لم يخطه النبي · برأينا، فلنسأله ونشرح له الوضع.
تحذير إلهي:
لم يتعرض أحد ممن شاركوا في عملية الحفر الطويل الذي امتد على ثلاثة أميال ونصف لإعاقة تعجزه سوى سلمان الفارسي، الذي أشار بحفر الخندق، وبناء عليه كانوا يحفرونه، أراد الله تعالى أن ينبّههم على ضرورة الرجوع إلى الله تعالى في الحفر والعمل، فقد عجزت الأجهزة، كما أراد توجيههم إلى أن الواجب توفير الأسباب المادّية بقدر الوُسع، لكن الاعتماد عليها لا يصح، إنما يعتمد المؤمن على ربه ولو تمكن من توفير كافة الوسائل المادية.
فجاء سلمان إلى النبي · وأخبره بما حدث، وكان يحفر الخندق في الجانب الذي حُدّد له، وينقل الأتربة، قال البراء بن عازب: لقد رأيت النبي · وقد غطته الأتربة فلم يكن يبدو منه جلده ببطنه وظهره، فلم يُشر عليهم بشيء ولا أمرهم بأمر، بل قدم معهم إلى الموقع، فنزل فيه ومعه جماعة سلمان العشرة، ثم أخذ المعول بيده وضرب به الكدية وقرأ {وتمت كلمة ربك صدقا} فانكسر ثلثها، وخرج منها نور، فضربها ثانية وقرأ الآية إلى آخرها {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} فانكسر منها ثلثها الثاني، وخرج منها نور، ثم قرأ الآية بأكملها للمرة الثالثة ثم ضربها، فانكسرت بأكملها، وخرج النبي · من الخندق، وأخذ رداءه التي وضعها على شفير الخندق، ثم جلس في ناحية، فقال سلمان: يا رسول الله.. كلما ضربت الكُدية خرج منها نور، فقال له: أو رأيتَه؟ فقال نعم لقد رأته عيناي، فقال النبي ·: لقد رأيت قصور اليمن وكسرى في المرة الأولى، فأخبرني جبريل أن أمتك تفتحها، فلما ضربتها ثانيا رأيت قصور الروم الحمراء، وبشّرني جبريل بأن أمتك سوف تفتحها، فلما سمع المسلمون ما قاله النبي ·، آمنوا به وصدّقوه، وعقدوا الآمال على فتحها فيما تأتي من الأيام.
انتقادات المنافقين وإيمان المؤمنين:
قال المنافقون الذين كانوا يحفرون الخندق مع المسلمين: أما تعجبون مما يقوله محمد؟ يبشركم بما لا عويل له، يرى قصور الحيرة ومدائن كسرى وهو يحفر الخندق في يثرب، وأنكم سوف تفتحونها، انظروا فيما أنتم فيه، أحدكم لا يدري عن نفسه شيئا، لا يخرج للبول والغائط إلا متخوفا، وأنتم تفتحون قصور كسرى، فنزل قوله تعالى: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} وبلفظ {والذين في قلوبهم مرض} أشار إلى أحوال قلوب المنافقين، الذين كانوا قد بطّنوا النفاق.
لاحظوا هنا، لقد امتحن الله تعالى إيمان المؤمنين وتصديق الرسول · فيما يخبر عن ربه، طوّق بهم الكفار، وأحدق خطرهم عليهم، لا عبيد ولا خدم لحفر الخندق، حفروا الخندق في طقس بارد مزعج، ظروف تحيط بها المخاوف، من الصعب حماية أنفسهم والمحافظة على أرواحهم إن نظروا إلى الحسابات الظاهرة، فكيف الإيمان بما يخبر عن فتح الدولة الرومية كبرى دول العالم في عهدهم وبلاد كسرى. لكن الإيمان لم يكن أغلى من كافة الأعمال، إلا لأنهم لم يترددوا في تصديق الرسول · فيما يخبر عن المستقبل رُغم مخالفته للأسباب الظاهرة.
تعليمات خاصة في القصة المذكورة:
لا يخفى على أحد أن الصحابة خدام الرسول · الذين يستعدون للتضحية بالغالي والنفيس لأجله، ما كانوا راغبين في اشتغال النبي · في عملية حفر الخندق الشاقة، لكنه · شارك فيها لتعليم أمته ولتطييب خاطر أصحابه. إن كان سبب تضحية الصحابة بالغالي والنفيس عليه لكماله في أوصاف الرسالة والنبوة، فإن من أحد الأسباب الظاهرة مشاركته · في الأعمال الشاقة والمتعبة والمحرجة كواحد منهم، فكان يقوم بمحو فوارق الحاكم والمحكوم، والملك والرعايا والسلطان والشعب، ولم تتمزق وحدة هذه الأمة إلا بعد أن تخلى ملوك المسلمين عن هذه السنة، وانتشرت الفتن على قدم وساق.
وصفة سهلة لتجاوز العقبات:
كان النبي · أثناء ضربه على الكدية المستعصية يقرأ قوله تعالى: {تمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته} ومن هنا عرفنا أن هذه الآية الكريمة خير وصفة لحل المشاكل.
تضحية الصحابة وتعاونهم وتناصرهم:
سبق أن ذكرنا بأن النبي · عيّن عشرة أنفس لحفر كل أربعين ذراعا من الخندق، ومن الطبيعي أن يكون بعضهم أقوى وأسرع في العمل من البعض الآخر، لكنهم ما قعدوا عن العمل بعدما انتهوا عن القيام بحصتهم، بل ساهموا إخوانهم فيها. (القرطبي، المظهري)
خندق طوله ثلاثة أميال استغرق حفره 6 أيام:
لقد أثمرت جهود الصحابة وتضحياتهم خلال ستة أيام، فقد استكمل العمل في هذا الخندق الطويل والعميق خلال ستة أيام. (المظهري)
عمق الخندق وبعض القصص الإيمانية:
حفروا الخندق حتى وصلوا إلى البلل في عمق الأرض. (فتح الباري 7/305)
قال ابن سعد: انتهوا من عملية الحفر خلال ستة أيام. (الطبقات لابن سعد 2/48)
وقال موسى بن عقبه، فرغوا عن العمل خلال ستة أيام. وقال السمهودي: هذا هو الصحيح أنهم انتهوا من عملية الحفر خلال ستة أيام، وعشرون يوما مدة المحاصرة. وللتفصيل إرجع إلى الزرقاني 110/2.
شارك النبي · أصحابه في حفر الخندق، وبأول معول ضرب على الأرض كان يردّد هذه الكلمات:
    بسم الله وبه وبدينا      ولو عبدنا غيره شقينا
    حبّـــــذا ربــــا وحبّـــــذا دينــــا
(روض الأنف 3/189 وفتح الباري ص4 ج7)
كان ذلك في زمن الشتاء، مع هبوب رياح باردة، يعانون من الفاقة، لم يتذوّقوا الطعام منذ أيام، لكن المهاجرين والأنصار انهمكوا في الحفر ونقل الأتربة بحيث تغمرهم السعادة، مترددين الكلمات التالية:
    نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
فردّ عليهم النبي ·:
    اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة      فاعفو للأنصار والمهاجرة
ثم قال:
    اللهم لا خير إلا خير الآخرة      فبارك في الأنصار والمهاجرة
قال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه: كان النبي · ينقل الأتربة بنفسه، حتى غطت الأتربة بطنه المبارك، وكان يقول:
    والله لو لا الله ما اهتدينا  ولا تصدقنا ولا صلينا
    فأنزلن سكينــــة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا
    إن الالى قد بغـوا علينا    إذا أرادوا فتنـــة أبينا
ردّدوا لفظ «أبينا أبينا» بصوت عال.
أخرج البخاري بسنده عن جابر رضي الله عنه أنه قال: إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَقَالَ أَنَا نَازِلٌ ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ وَلَبِثْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ.
وَوَقَعَ عِنْد أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ زِيَادَة بِإِسْنَادٍ حَسَن مِنْ حَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ . " لَمَّا كَانَ حِين أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ عَرَضَتْ لَنَا فِي بَعْضِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةٌ لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ ، فَاشْتَكَيْنَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَاءَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ : بِسْمِ اللَّه ، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَهَا ، وَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ الشَّامِ ، وَاَللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ السَّاعَةَ ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ الثُّلُثَ الْآخَرَ فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، أُعْطِيت مَفَاتِيحَ فَارِسٍ ، وَاَللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ أَبْيَضَ . ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ؛ فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ ، وَاَللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا السَّاعَةَ ".
وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن. وفي رواية إِنَّ الْبَرْقَةَ الْأُولَى أَضَاءَتْ لَهَا قُصُور الشَّام ، فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيل أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهِمْ - وَفِي آخِره - فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ وَاسْتَبْشَرُوا. (فتح الباري 7/304، 305)
فائدة جليلة:
حفر الخندق لم يكن معروفا لدى العرب، أول من استحدثه في أثناء القتال منوشهر بن أبيرج بن أفريدون ملك من ملوك فارس ، اختاره النبي · بعدما أشار عليه سلمان الفارسي، ومن هنا عرفنا أنه لا مانع من استخدام فنون القتال المتنوعة التي استحدثها الكفار، ولا ما استحدثوا من عتاد وسلاح، كما استعمل النبي · المنجنيق في غزوة تبوك، كما أمر عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري بإقامة المنجنيق لمّا حاصر مدينة تستر العراقية، واستخدم عمرو بن العاص المنجنيق لمّا حاصر اسكندرية. كما يصح استعمال السيوف والأسل المسمومة، أما الغازات (أي استخدام الغازات المبيدة، أو استخدام الكيماويات) فلا يجوز إلا في حالات اضطرارية، بأن لا يجد ما يتغلب به على العدو إلا ذلك، والأصل عدم جوازه بدون حاجة شديدة.
وللتوسع في الباب يرجى مراجعة شرح السير الكبير، الجزء الثالث (باب قطع الماء عن أهل الحرب وتحريق حصنهم ونصب المجانيق عليها).
وقال الله تعالى: {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم}.
دلّت على ضرورة تعلّم جميع ما يساعد في إدخال الرعب في قلوب الأعداء، وتزيد دين الله عزّاً وكرامة.
قدوم الجيوش:
وما أن انتهى المسلمون من حفر الخندق حتى وصلت جيوش المشركين تضم عشرة آلاف مقاتلين، فنزل بالقرب من اُحد. فتوجه النبي · إلى جبل السلع لمواجهته ومعه ثلاثة آلاف مجاهدين، حال بينهما الخندق، وأمر بالنساء والأطفال فجُعلوا في الآطام.
غدر بني قريظة:
بقي يهود بني قريظة محايدين حتى هذا الوقت، فَخَرَجَ عَدُوّ اللّهِ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ النّضْرِيّ ، حَتّى أَتَى كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ الْقُرَظِيّ صَاحِبَ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَعَهْدِهِمْ وَكَانَ قَدْ وَادَعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى قَوْمِهِ وَعَاقَدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَاهَدَهُ فَلَمّا سَمِعَ كَعْبٌ بِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ أَغْلَقَ دُونَهُ بَابَ حِصْنِهِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ فَنَادَاهُ حُيَيّ : وَيْحَك يَا كَعْبُ افْتَحْ لِي ؛ قَالَ وَيْحك يَا حُيَيّ : إنّك امْرُؤٌ مَشْئُومٌ وَإِنّي قَدْ عَاهَدْت مُحَمّدًا ، فَلَسْتُ بِنَاقِضٍ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إلّا وَفَاءً وَصِدْقًا ؛ قَالَ وَيْحَك افْتَحْ لِي أُكَلّمْك ؛ قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلِ قَالَ وَاَللّهِ إنْ أَغْلَقْت دُونِي إلّا عَنْ جَشِيشَتِك [ ص 221 ] فَقَالَ وَيْحَك يَا كَعْبُ جِئْتُك بِعِزّ الدّهْرِ وَبِبَحْرٍ طَامّ جِئْتُك بِقُرَيْشٍ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا ، حَتّى أَنْزَلْتهمْ بِمُجْتَمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ ، وَبِغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا حَتّى أَنْزَلَتْهُمْ بِذَنَبِ نَقْمَى إلَى جَانِبِ أُحُدٍ ، قَدْ عَاهَدُونِي وَعَاقَدُونِي عَلَى أَنْ لَا يَبْرَحُوا حَتّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمّدًا وَمَنْ مَعَهُ . قَالَ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ جِئْتنِي وَاَللّهِ بِذُلّ الدّهْرِ وَبِجَهَامٍ قَدْ هَرَاقَ مَاءَهُ فَهُوَ يَرْعَدُ وَيَبْرُقُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ وَيْحَك يَا حُيَيّ فَدَعْنِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ فَإِنّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمّدٍ إلّا صِدْقًا وَوَفَاءً . فَلَمْ يَزَلْ حُيَيّ بِكَعْبِ يَفْتِلُهُ فِي الذّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتّى سَمَحَ لَهُ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ عَهْدًا ( مِنْ اللّهِ ) وَمِيثَاقًا : لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ ، وَلَمْ يُصِيبُوا مُحَمّدًا أَنْ أَدْخُلَ مَعَك فِي حِصْنِك حَتّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَك . فَنَقَضَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَهْدَهُ وَبَرِئَ مِمّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
تحرّي الرسول   · عن نقض كعب للعهد:
فَلَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرُ وَإِلَى الْمُسْلِمِينَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ الْأَوْسِ ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ ، أَحَدَ بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ الْخَزْرَجِ وَمَعَهُمَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَخَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ . فَقَالَ [ ص 222 ] انْطَلِقُوا حَتّى تَنْظُرُوا ، أَحَقّ مَا بَلَغَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ حَقّا فَالْحَنُوا لِي لَحْنًا أَعْرِفُهُ وَلَا تَفُتّوا فِي أَعْضَادِ النّاسِ وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْهَرُوا بِهِ لِلنّاسِ قَالَ فَخَرَجُوا حَتّى أَتَوْهُمْ فَوَجَدُوهُمْ عَلَى أَخْبَثِ مَا بَلَغَهُمْ عَنْهُمْ ( فِيمَا ) نَالُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالُوا : مَنْ رَسُولُ اللّهِ ؟ لَا عَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمّدٍ وَلَا عَقْدَ . فَشَاتَمَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَشَاتَمُوهُ وَكَانَ رَجُلًا فِيهِ حِدّةٌ فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : دَعْ عَنْك مُشَاتَمَتَهُمْ فَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَرْبَى مِنْ الْمُشَاتَمَةِ . ثُمّ أَقْبَلَ سَعْدٌ وَسَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُمَا ، إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَلّمُوا عَلَيْهِ ثُمّ قَالُوا : عَضَلٌ وَالْقَارّةُ ؛ أَيْ كَغَدْرِ عَضَلٍ وَالْقَارّةِ بِأَصْحَابِ الرّجِيعِ ، خُبَيْبٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُ أَكْبَرُ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ (سيرة ابن هشام 140/2 الزرقاني 111/12)
وقد حزن النبي · مما فعلت بنو قريظة، طوّق المشركون بالمسلمين من الجهات كلها، الجيوش الزاحفة الوافدة أمامهم، وانضم إليهم الأعداء من الداخل، الجميع يريدون القضاء على المسلمين، فكانوا في ظروف حرجة، في ليالي شاتية باردة. وصفها الله تعالى بالألفاظ التالية:
{إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك اُبتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}. (الأحزاب)
وكان وقت ابتلاء، لمعرفة النفاق من الصدق، ففصل بين الصدق والنفاق. فجاء المنافقون يعتذرون ويحتالون، حتى قالوا إن بيوتنا عورة مكشوفة نخاف عليها الأعداء، فائذن لنا في العودة. قال الله تعالى:
{يقولون إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً} (الأحزاب 13).
أما المؤمنون فكما وصفهم الله تعالى بأنهم ملأوا قلوبهم بالإيمان بالله وبالثبات والاستقامة على الحق:
{ولمّا رآ المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما}. (الأحزاب)
معجزة باهرة في دعوة جابر :
أخرج البخاري عن جابر رضي الله عنه بطريق عبد الوحد بن أيمن عن أبيه قَالَ أَتَيْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَقَالَ أَنَا نَازِلٌ ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ فَعِنْدَكِ شَيْءٌ قَالَتْ عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ فَذَبَحَتْ الْعَنَاقَ وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَجِينُ قَدْ انْكَسَرَ وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الْأَثَافِيِّ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ فَقُلْتُ طُعَيِّمٌ لِي فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ قَالَ كَمْ هُوَ فَذَكَرْتُ لَهُ قَالَ كَثِيرٌ طَيِّبٌ قَالَ قُلْ لَهَا لَا تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ وَلَا الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ فَقَالَ قُومُوا فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ وَيْحَكِ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ قَالَتْ هَلْ سَأَلَكَ قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ ادْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطُوا فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ قَالَ كُلِي هَذَا وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ.
هَمّ الرّسُولُ   · بِعَقْدِ الصّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَطَفَانَ ثُمّ عَدَلَ:
فَلَمّا اشْتَدّ عَلَى النّاسِ الْبَلَاءُ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا حَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَمَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ ، وَإِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرّيّ ، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ ، فَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا الصّلْحُ حَتّى كَتَبُوا الْكِتَابَ وَلَمْ تَقَعْ الشّهَادَةُ وَلَا عَزِيمَةُ الصّلْحِ إلّا الْمُرَاوَضَةُ فِي ذَلِكَ . فَلَمّا أَرَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَفْعَلَ بَعَثَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمَا ، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ فَقَالَا لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَمْرًا نُحِبّهُ فَنَصْنَعُهُ أَمْ شَيْئًا أَمَرَك اللّهُ بِهِ لَا بُدّ لَنَا مِنْ الْعَمَلِ بِهِ أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا ؟ قَالَ بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ ، وَاَللّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إلّا لِأَنّنِي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلّ جَانِبٍ فَأَرَدْت أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إلَى أَمْرٍ مَا ، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ كُنّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى الشّرْكِ بِاَللّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ لَا نَعْبُدُ اللّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا تَمْرَةً إلّا قِرًى أَوْ بَيْعًا ، أَفَحِينَ أَكْرَمْنَا اللّهُ بِالْإِسْلَامِ وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزّنَا بِك وَبِهِ نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا ( وَاَللّهِ ) مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ وَاَللّهِ لَا نُعْطِيهِمْ إلّا السّيْفَ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَنْتَ وَذَاكَ . فَتَنَاوَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الصّحِيفَةَ فَمَحَا مَا فِيهَا مِنْ الْكِتَابِ ثُمّ قَالَ لِيَجْهَدُوا عَلَيْنَا
إصابة سعد بن معاذ بجروح ودعاءه:
ولمّا اشتد التراشق بالحجارة وتبادل الرمي بين طرفي الخندق جاء سعد بن معاذ إلى أمه. وَكَانَتْ أُمّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مَعَ عائشة أم المؤمنين فِي الْحِصْنِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَذَلِك قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ فَمَرّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ مُقَلّصَةٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا ذِرَاعُهُ كُلّهَا ، وَفِي يَدِهِ حَرْبَتُهُ يَرْقُدُ بِهَا وَيَقُولُ لَبّثْ قَلِيلًا يَشْهَدْ الهيجا جمل لَا بَأْسَ بِالْمَوْتِ إذَا حَانَ الأجل (قال) فَقَالَتْ لَهُ أُمّهُ الْحَقّ : أَيْ بني ، فَقَدْ وَاَللّهِ أَخّرْت ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْت لَهَا : يَا أُمّ سَعْدٍ وَاَللّهِ لَوَدِدْت أَنّ دِرْعَ سَعْدٍ كَانَتْ أَسْبَغَ مِمّا هِيَ قَالَتْ وَخِفْتِ عَلَيْهِ حَيْثُ أَصَابَ السّهْمُ مِنْهُ فَرُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بِسَهْمِ فَقَطَعَ مِنْهُ الْأَكْحَلَ رَمَاهُ كَمَا حَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قتادة ، حِبّانُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْعَرِقَةِ أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، فَلَمّا أَصَابَهُ قَالَ خُذْهَا مِنّي وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ ؛ فَقَالَ لَهُ سَعْدُ عَرّقَ اللّهُ وَجْهَك فِي النّارِ اللّهُمّ إنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا ، فَإِنّهُ لَا قَوْمَ أَحَبّ إلَيّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَك وَكَذّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ اللّهُمّ وَإِنْ كُنْت قَدْ وَضَعْت الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ لِي شَهَادَةً وَلَا تُمِتْنِي حَتّى تُقِرّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
وقد أجاب الله ما دعا، وجعلها آخر هجمة قرشية، وعقبها ابتدأت سلسلة الفتوحات الإسلامية، ففُتحت خيبر، ثم مكة ثم بلاد أخرى، وسوف تأتي قصة بني قريظة أنهم جاءوا بهم أسيرا، فجعل النبي · أمرهم إلى سعد بن معاذ، فحكم بقتل مقاتليهم، وسبي ذراريهم ونسائهم.
وكان النبي · يتعهد الخندق طوال الليل يرافقه أصحابه، فما أن استلقى ليستريح حتى سمع ضجة فهَبَّ ومعه سلاحه. تقول أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها: كان النبي · يخرج في الليل لأكثر من مرة، ما يكاد يهوي للاستراحة إلا هبّ وبادر إلى السلاح.
وقالت أم سلمة رضي الله عنها: كنتُ مع رسول الله · في غزوات منها المريسيع وخيبر والحديبية وفتح مكة وحنين، وما عانى من شدة مثل ما عانى يوم الأحزاب، فقد أصيب المسلمون فيه بجروح، في ليلة شاتية باردة، إضافة إلى الشُحّ الحادّ في المواد الغذائية. (المظهري)
فوات أربع صلوات يوم الخندق:
أجمع المشركون يوماً على أن يعبروا الخندق ويحملوا على المسلمين حملة رجل واحد، فواجههم المسلمون بشجاعة بالغة، وتراشقوا، إلى آخر النهار، حتى لم يتمكنوا أداء الصلوات، فصلوا أربع صلوات في وقت العشاء.
دعاء النبي   · عليهم:
فلمّا اشتد حصار المشركين عليهم، قام النبي ·، ورفع يده يدعو على المشركين، واستمر عليه ثلاثة أيام: الإثنين والثلاثاء والأربعاء، يسأل ربه الفتح والنصر للمسلمين، والهزيمة والخُذلان للمشركين، فأجاب الله دعاءه في اليوم الثالث يوم الأربعاء بين الظهر والعصر. فتوجه إلى أصحابه تغمره السعادة والفرح، بشّرهم بالنصر والفتح. قيل: لم يُصب أحد من المسلمين بسوء بعد ذلك. (المظهري)
دعاءان:
أخرج أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اشتكينا إلى النبي · شدة الحصار وسألناه أن يدعو على المشركين، فقال النبي ·:
(1) قولوا: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا.
(2) وفي الصحيح عند البخاري: اللهم منزّل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم. (صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب لا تمنوا لقاء العدو).
فأجاب الله دعاءه، وأرسل ريحا شديدة على قريش وغطفان، فما تركت خيمة إلا قوّضتها، ولا طنبا إلا قلعته، ولا قِدرا إلا كفأته، وثارت الأتربة والغبار فملأت عيون المشركين، وانتشر الذعر في صفوف المشركين. وإلى هذا أشار الله في قوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)..} (الأحزاب 9).
أراد بلفظ «جنودا لم تروها» الملائكة، وكانت تلقي الرعب في قلوب المشركين، وتُثَبّتُ قلوب المسلمين فاستقاموا وثبتوا، حتى لاذ جيش الكفار المكوّن من عشرة آلاف مقاتلين بالفرار. كما قال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}. (الأحزاب 25) (الزرقاني 2/122)
طلائع النصر والفتح:
كانت غطفان من إحدى القبائل العربية الشرسة القوية في صفوف المشركين، وقد أنعم الله على أحدهم بنعمة الإيمان، وهو نعيم بن مسعود الذي قدم إلى النبي · فقد قال عن نفسه:
قَذَفَ اللّهُ - عَزّ وَجَلّ - فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ . وَكَتَمْت قَوْمِي إسْلامِي ، فَأَخْرُجُ حَتّى آتِي رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَأَجِدُهُ يُصَلّي ، فَلَمّا رَآنِي جَلَسَ ثُمّ قَالَ مَا جَاءَ بِك يَا نُعَيْمُ ؟ قُلْت : إنّي جِئْت أُصَدّقُك وَأَشْهَدُ أَنّ مَا جِئْت بِهِ حَقّ ، فَمُرْنِي بِمَا شِئْت يَا رَسُولَ اللّهِ فَوَاَللّهِ لَا تَأْمُرُنِي بِأَمْرٍ إلا مَضَيْت لَهُ قَوْمِي لا يَعْلَمُونَ بِإِسْلامِي وَلا غَيْرُهُمْ .
قَالَ مَا اسْتَطَعْت أَنْ تُخَذّلَ النّاسَ فَخَذّلْ قَالَ قُلْت : أَفْعَلُ وَلَكِنْ [ ص 481 ] يَا رَسُولَ اللّهِ أَقُولُ فَأَذِنَ لِي . قَالَ قُلْ مَا بَدَا لَك فَأَنْتَ فِي حِلّ . قَالَ فَذَهَبْت حَتّى جِئْت بَنِي قُرَيْظَةَ فَلَمّا رَأَوْنِي رَحّبُوا وَأَكْرَمُوا وَحَيّوْا وَعَرَضُوا عَلَيّ الطّعَامَ وَالشّرَابَ فَقُلْت : إنّي لَمْ آتِ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، إنّمَا جِئْتُكُمْ نَصَبًا بِأَمْرِكُمْ وَتَخَوّفًا عَلَيْكُمْ لِأُشِيرَ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ وَقَدْ عَرَفْتُمْ وُدّي إيّاكُمْ وَخَاصّةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ . فَقَالُوا : قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ وَأَنْتَ عِنْدَنَا عَلَى مَا تُحِبّ مِنْ الصّدْقِ وَالْبِرّ .
قَالَ فَاكْتُمُوا عَنّي . قَالُوا : نَفْعَلُ . قَالَ إنّ أَمْرَ هَذَا الرّجُلُ بَلَاءٌ - يَعْنِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - صَنَعَ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ بِبَنِي قَيْنُقَاعَ وَبَنِي النّضِيرِ وَأَجْلَاهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ بَعْدَ قَبْضِ الْأَمْوَالِ . وَكَانَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ قَدْ سَارَ فِينَا فَاجْتَمَعْنَا مَعَهُ لِنَصْرِكُمْ وَأَرَى الْأَمْرَ قَدْ تَطَاوَلَ كَمَا تَرَوْنَ وَإِنّكُمْ وَاَللّهِ مَا أَنْتُمْ وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ مِنْ مُحَمّدٍ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ أَمّا قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ فَهُمْ قَوْمٌ جَاءُوا سَيّارَةً حَتّى نَزَلُوا حَيْثُ رَأَيْتُمْ فَإِنْ وَجَدُوا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ أَوْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ انْشَمَرُوا إلَى بِلَادِهِمْ . وَأَنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ فِيهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ وَقَدْ غَلُظَ عَلَيْهِمْ جَانِبُ مُحَمّدٍ أَجَلَبُوا عَلَيْهِ أَمْسِ إلَى اللّيْلِ فَقَتَلَ رَأْسَهُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ وَهَرَبُوا مِنْهُ مُجَرّحِينَ وَهُمْ لَا غَنَاءَ بِهِمْ عَنْكُمْ لِمَا تَعْرِفُونَ عِنْدَكُمْ .
فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ قُرَيْشٍ وَلَا غَطَفَانَ حَتّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ تَسْتَوْثِقُونَ بِهِ مِنْهُمْ أَلّا يُنَاجِزُوا مُحَمّدًا . قَالُوا : أَشَرْت بِالرّأْيِ عَلَيْنَا وَالنّصْحِ . وَدَعَوْا لَهُ وَتَشَكّرُوا ، وَقَالُوا : نَحْنُ فَاعِلُونَ .
قَالَ وَلَكِنْ اُكْتُمُوا عَنّي . قَالُوا : نَعَمْ نَفْعَلُ . ثُمّ خَرَجَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ يَا أَبَا سُفْيَانَ قَدْ جِئْتُك بِنَصِيحَةٍ فَاكْتُمْ عَنّي . قَالَ أَفْعَلُ . قَالَ تَعْلَمُ أَنّ قُرَيْظَةَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ [ ص 482 ] وَبَيْنَ مُحَمّدٍ وَأَرَادُوا إصْلَاحَهُ وَمُرَاجَعَتَهُ . أَرْسَلُوا إلَيْهِ وَأَنَا عِنْدَهُمْ إنّا سَنَأْخُذُ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا نُسَلّمُهُمْ إلَيْك تَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ وَتَرُدّ جَنَاحَنَا الّذِي كَسَرْت إلَى دِيَارِهِمْ - يَعْنُونَ بَنِي النّضِيرِ - وَنَكُونُ مَعَك عَلَى قُرَيْشٍ حَتّى نَرُدّهُمْ عَنْك . فَإِنْ بَعَثُوا إلَيْكُمْ يَسْأَلُونَكُمْ رَهْنًا فَلَا تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ أَحَدًا وَاحْذَرُوهُمْ عَلَى أَشْرَافِكُمْ وَلَكِنْ اُكْتُمُوا عَنّي وَلَا تَذْكُرُوا مِنْ هَذَا حَرْفًا . قَالُوا : لَا نَذْكُرُهُ .
ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى غَطَفَانَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ ، إنّي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَاكْتُمُوا عَنّي ، وَاعْلَمُوا أَنّ قُرَيْظَةَ بَعَثُوا إلَى مُحَمّدٍ - وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ - فَاحْذَرُوا أَنْ تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ أَحَدًا مِنْ رِجَالِكُمْ . وَكَانَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَصَدّقُوهُ .
وَأَرْسَلَتْ الْيَهُودُ غَزّالَ بْنَ سَمَوْأَلٍ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْب ٍ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ : إنّ ثَوَاءَكُمْ قَدْ طَالَ وَلَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا وَلَيْسَ الّذِي تَصْنَعُونَ بِرَأْيٍ إنّكُمْ لَوْ وَعَدْتُمُونَا يَوْمًا تَزْحَفُونَ فِيهِ إلَى مُحَمّدٍ فَتَأْتُونَ مِنْ وَجْهٍ وَتَأْتِي غَطَفَانُ مِنْ وَجْهٍ وَنَخْرُجُ نَحْنُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَمْ يُفْلِتْ مِنْ بَعْضِنَا . وَلَكِنْ لَا نَخْرُجُ مَعَكُمْ حَتّى تُرْسِلُوا إلَيْنَا بِرِهَانٍ مِنْ أَشْرَافِكُمْ يَكُونُونَ عِنْدَنَا ، فَإِنّا نَخَافُ إنْ مَسّتْكُمْ الْحَرْبُ وَأَصَابَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ شَمّرْتُمْ وَتَرَكْتُمُونَا فِي عُقْرِ دَارِنَا وَقَدْ نَابَذْنَا مُحَمّدًا بِالْعَدَاوَةِ .
فَانْصَرَفَ الرّسُولُ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَيْهِمْ شَيْئًا ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : هَذَا مَا قَالَ نُعَيْمٌ .
فَخَرَجَ نُعَيْمٌ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَنَا عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ حَتّى جَاءَ رَسُولُكُمْ إلَيْهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الرّهَانَ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَلَمّا وَلّى قَالَ لَوْ طَلَبُوا مِنّي عَنَاقًا مَا رَهَنْتهَا أَنَا أَرْهَنُهُمْ سَرَاةَ أَصْحَابِي يَدْفَعُونَهُمْ إلَى مُحَمّدٍ يَقْتُلُهُمْ فَارْتَأَوْا آرَاءَكُمْ حَتّى تَأْخُذُوا الرّهْنَ فَإِنّكُمْ إنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مُحَمّدًا وَانْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ تَكُونُوا عَلَى مُوَاعَدَتِكُمْ الْأُولَى . قَالُوا : [ ص 483 ] تَرْجُو ذَلِكَ يَا نُعَيْمُ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ : فَإِنّا لَا نُقَاتِلُهُ . وَاَللّهِ لَقَدْ كُنْت لِهَذَا كَارِهًا وَلَكِنْ حُيَيّ رَجُلٌ مَشْئُومٌ .
قَالَ الزّبَيْرُ بْنُ بَاطَا : إنْ انْكَشَفَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ عَنْ مُحَمّدٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنّا إلّا السّيْفُ . قَالَ نُعَيْمٌ لَا تَخْشَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ . قَالَ الزّبَيْرُ بَلَى وَالتّوْرَاةُ ، وَلَوْ أَصَابَتْ الْيَهُودُ رَأْيَهَا وَلَحَمَ الْأَمْرُ لَتَخْرُجَن إلَى مُحَمّدٍ وَلَا يَطْلُبُونَ مِنْ قُرَيْشٍ رَهْنًا ، فَإِنّ قُرَيْشًا لَا تُعْطِينَا رَهْنًا أَبَدًا ، وَعَلَى أَيّ وَجْهٍ تُعْطِينَا قُرَيْشٌ الرّهْنَ وَعَدَدُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِنَا ، وَمَعَهُمْ كُرَاعٌ وَلَا كُرَاعٌ مَعَنَا ، وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْهَرَبِ وَنَحْنُ لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ ؟ وَهَذِهِ غَطَفَانُ تَطْلُبُ إلَى مُحَمّدٍ أَنْ يُعْطِيَهَا بَعْضَ تَمْرِ الْأَوْسِ وَتَنْصَرِفُ فَأَبَى مُحَمّدٌ إلّا السّيْفَ فَهُمْ يَنْصَرِفُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ .
فَلَمّا كَانَ لَيْلَةُ السّبْتِ كَانَ مِمّا صَنَعَ اللّهُ تَعَالَى لِنَبِيّهِ أَنْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ الْجَنَابَ قَدْ أَجْدَبَ وَهَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفّ ، وَغَدَرَتْ الْيَهُودُ وَكَذَبَتْ وَلَيْسَ هَذَا بِحَيْنِ مُقَامٍ فَانْصَرِفُوا قَالَتْ قُرَيْشٌ : فَاعْلَمْ عِلْمَ الْيَهُودِ وَاسْتَيْقِنْ خَبَرَهُمْ .
فَبَعَثُوا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ حَتّى جَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ عِنْدَ غُرُوبِ الشّمْسِ مَسَاءَ لَيْلَةِ السّبْتِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ إنّهُ قَدْ طَالَ الْمُكْثُ وَجَهَدَ الْخُفّ وَالْكُرَاعُ وَأَجْدَبَ الْجَنَابُ ، وَإِنّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَامَةٍ اُخْرُجُوا إلَى هَذَا الرّجُلِ حَتّى نُنَاجِزَهُ بِالْغَدَاةِ . قَالُوا : غَدًا السّبْتُ لَا نُقَاتِلُ وَلَا نَعْمَلُ فِيهِ عَمَلًا ، وَإِنّا مَعَ ذَلِكَ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ إذَا انْقَضَى سَبْتُنَا حَتّى تُعْطُونَا رِهَانًا مِنْ رِجَالِكُمْ يَكُونُونَ مَعَنَا لِئَلّا تَبْرَحُوا حَتّى نُنَاجِزَ مُحَمّدًا ، فَإِنّا نَخْشَى إنْ أَصَابَتْكُمْ الْحَرْبُ أَنْ تُشَمّرُوا إلَى بِلَادِكُمْ وَتَدْعُونَا وَإِيّاهُ فِي بِلَادِنَا وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مَعَنَا الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ وَالْأَمْوَالُ .
فَرَجَعَ عِكْرِمَةُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالُوا : مَا وَرَاءَك ؟ قَالَ أَحْلِفُ بِاَللّهِ إنّ الْخَبَرَ الّذِي جَاءَ بِهِ نُعَيْمٌ حَقّ ، لَقَدْ غَدَرَ أَعْدَاءُ اللّهِ .
وَأَرْسَلَتْ غَطَفَانُ إلَيْهِمْ [ ص 484 ] مَسْعُودَ بْنَ رُخَيْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ رِسَالَةِ أَبِي سُفْيَانَ فَأَجَابُوهُمْ بِمِثْلِ جَوَابِ أَبِي سُفْيَانَ . وَقَالَتْ الْيَهُودُ حَيْثُ رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنْهُمْ نَحْلِفُ بِاَللّهِ إنّ الْخَبَرَ الّذِي قَالَ نُعَيْمٌ لَحَقّ . وَعَرَفُوا أَنّ قُرَيْشًا لَا تُقِيمُ فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ فَكّرَ أَبُو سُفْيَانَ إلَيْهِمْ وَقَالَ إنّا وَاَللّهِ لَا نَفْعَلُ إنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا . فَقَالَتْ الْيَهُودُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ الْأَوّلِ وَجَعَلَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ الْخَبَرُ مَا قَالَ نُعَيْمٌ .
وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ تَقُولُ الْخَبَرُ مَا قَالَ نُعَيْمٌ . وَيَئِسَ هَؤُلَاءِ مِنْ نَصْرِ هَؤُلَاءِ وَيَئِسَ هَؤُلَاءِ مِنْ نَصْرِ هَؤُلاءِ وَاخْتَلَفَ أَمْرُهُمْ فَكَانَ نُعَيْمٌ يَقُولُ أَنَا خَذّلْتُ بَيْنَ الأَحْزَابِ حَتّى تَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ وَأَنَا أَمِينُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى سِرّهِ . فَكَانَ صَحِيحَ الإِسْلامِ بَعْدُ .
إضافة إلى ذلك فإن آفة سماوية نزلت بهم، فقد سلّط الله عليهم ريحا شديدة باردة، فلم تترك خيمة إلا وقوّضتها، ولا قدرا إلا كفأته. فهذه الأسباب الظاهرة التي هيّأها الله تعالى لتزلزل أقدامهم، كما أرسل جنودا من الملائكة التي تلقي الرعب والذُعر في قلوبهم، حيث أشار الله تعالى إليه في قوله: {فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها} فأدّى ذلك إلى رحيلهم من الموقع.
قصة استخبار حذيفة بن اليمان :
ولمّا بلغ النبي · ما فعله نعيم بن مسعود، وما أوقع من الفرقة بين صفوف المشركين، أراد أن يُرسل رجلا ليقوم بتقصّي الحقائق، وليطلع على نوايا القوم، وكان الوقت وقت ليل، في برد قارس، مع تعب وانهاك نتيجة الجهد الكبير الذي قاموا به طوال النهار، فقام النبي · وقال: من يأتيني بخبر القوم فيدخله الله الجنة؟ فلم يقم أحد لما بهم من البرد والجوع. ثم نادى فقال: من يأتيني بخبر القوم، فلم يقم أحد، ثم اشتغل النبي · بالصلاة، ثم عاد فقال: من يذهب إلى القوم فيأتيني بخبرهم فليدخل الجنة؟ فلم يقم أحد، وكان الهدوء سائدا على الناس فلم يقم أحد، فاشتغل النبي · بالصلاة ثم عاد فقال: من يذهب إلى القوم فيأتيني بالخبر، وكان معي في الجنة، فلم يقم أحد لما بهم من الجوع والبرد والإنهاك.
قال الراوي حذيفة بن اليمان: ثم دعاني النبي · باسمي فقال: اذهب أنت، وقد أصابني ما أصاب القوم من الجوع والبرد، ولم يكن لي بُدّ من الطاعة عندما دعاني وناداني باسمي، فقمتُ وجسمي يرتعد من البرد، فمسح النبي · رأسي ووجهي بيده، ثم قال: اذهب إلى جيش العدو، وأتني بخبر القوم، ولا تقم بعمل سواه، ثم دعا الله أن يحميني من العدو، فأخذت قوسي وسهمي، وشددت ثيابي، ثم توجهتُ إلى العدو.
فلمّا فصلتُ عنه رأيت أمورا مستغربة، فقد اندفع عني البرد الذي كنت أجده في الخيمة، فكنتُ أمشي كأني في حمام ساخن، حتى أتيت القوم، فرأيت الرياح قد أقلعت الخيام، وكفأت القدور، وأبو سفيان بن حرب يستدفئ بالنار، فأخذت القوس والسهم، وكدتُ أصيبه به حتى تذكرتُ ما قال لي النبي ·، وكان على هدف سهمي، ففصلت سهمي ووضعته في جعبتي، وكان قد عزم على الرحيل والإعلان به بين الناس، لكنه أراد أن يتكلم وجهاء القوم قبل البتّ، وكان يتخوّف من تسلل عيون أعدائه بين القوم في ظلام الليل، لذلك قال للناس: لينظر كل امرئ منكم من يليه، ليتأكد أن العيون لا توجد بينهم، قال حذيفة: فتخوّفت أن يسألني من يليني عني، حتى بادرت إليه بالسؤال وأخذت بيده ثم قلت له: من أنت؟ فقال: أستغرب منك، أما تعرفني؟ أنا فلان بن فلان، وكان من هوازن. وهكذا منعه الله تعالى من الوقوع في حبس القوم.
فلما اطمأنّ أبو سفيان أن الجمع ليس فيه أحد من العيون، ذكر للناس ما هم فيه من ظروف غير مواتية من رياح شديدة وغدر بني قريظة ونفاد الزاد وهلاك الكراع والخف، ثم أشار بالرحيل، وقال إنه مرتحل، فقاموا جميعا وصاروا يرتحلون.
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: فلما قفلتُ عائداً وجدتُ كأني في حمام ساخن يحيط بي، ووصلت إلى النبي · وهو قائم يصلي، فلما سلّم أخبرته بالخبر، فسُرّ به فتبسم ضاحكا تلمع أسنانه في ظلام الليل. ثم فسح المجال لي عند قدمه وأشملني بالرداء التي كانت عليه، فأخذني النوم، فلما أصبح أيقظني النبي · بقوله: قم يا نومان.
رحيل قريش:
فلما قفل قريش عائدين إلى مكة، قال النبي ·: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم» (صحيح البخاري)
أي بعد اليوم هم لا يهاجموننا لما أصابهم من ضعف وتفتت، ولا يقدرون على تدبير حيلة ضدنا، والإسلام لا يقتصر على الدفاع كما كان في السابق، بل استوى على سوقه، ليبدأ المشركين بالهجوم.
تحذير:
هنا أردت أن أوّجه تحذيرا إلى أولئك الذين يرفضون الجهاد الهجومي في الإسلام، عليهم أن يتأملوا ألفاظ الحديث التالي:
«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آئبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده». (صحيح البخاري 590)
شهداء غزوة الأحزاب:
قال ابن سعد والبلاذري : استمر الحصار لمدة خمسة عشر يوما، وهذا أقوى الأقوال وأرجحها. وقال سعيد بن المسيب: كان لأربعة وعشرين يوما، قُتل فيها ثلاثة من المشركين، وهم: نوفل بن عبد الله، وعمرو بن عبد ود، ومنية بن عبيد، فيما استُشهد ستة من المسلمين، وهم:
(1) سعد بن معاذ رضي الله عنه.
(2) أنس بن أويس رضي الله عنه.
(3) عبد الله بن سهل رضي الله عنه.
(4) طفيل بن نعمان رضي الله عنه.
(5) ثعلبة بن عنمة رضي الله عنه.
(6) كعب بن زيد رضي الله عنه.
زاد الحافظ الدمياطي اسمين، وهما:
(7) قيس بن زيد رضي الله عنه.
(8) عبد الله بن أبي خالد رضي الله عنه.
(مقتبس من معارف القرآن وسيرة المصطفى ·)