{سورة الأنفال مدنية، الآيات :55، 56، 57}

   بسم الله الرحمن الرحيم

{إن شرّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدتَ منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون. فإما تثقفنهم في الحرب فشرّد بهم من خلفَهم لعلهم يذّكرون}.

ملخص معاني الآيات:

أشار فيها إلى أن ما من شخص ظل ثابتا على الكفر والشرك، وصار ينقض عهوده ومواثيقه بدون خوف، كان من شر الدواب عند الله، فإن وقعوا بأيديك في الحرب فأنزل بهم عقوبة يردع بها من بعدهم، ولا يجترئوا على نقض العهد. (أي الأولى بأحوال أعداء الإسلام استخدام الجهاد ضدهم والتشديد عليهم).

سبب النزول:

(1) ونزل في قريظة. (الجلالين)
(2) والآية على ما قال جمع: نزلت في يهود بني قريظة عاهدوا رسول الله · أن لا يمالئوا عليه، فأعانوا المشركين بالسلاح فقالوا نسينا ثم عاهدهم عليه الصلاة والسلام، فنكثوا ومالؤوهم عليه (عليه الصلاة والسلام) يوم الخندق وركب كعب إلى مكة فحالفهم على حرب رسول الله ·. (روح المعاني)
(3) والمعني بهم قريظة والنضير في قول مجاهد وغيره. (القرطبي)
(4) عن سعيد بن جبير أنها نزلت في ستة رهط من يهود منهم ابن تابوت.
ثم قال الآلوسي بعدما نقل ما أسلفنا:
«ولعله أراد بهم الرؤساء المباشرين للعهد». (روح المعاني)
(5) وهذا هو الراجح عند الإمام الرازي، بأن المراد منهم يهود بني قريظة، كما قال:
«قال ابن عباس : هم قريظة فإنهم نقضوا عهد رسول الله · وأعانوا عليه المشركين بالسلاح يوم بدر، ثم قالوا: أخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه يوم الخندق. (التفسير الكبير)

وقال الشيخ الدرياآبادي رحمه الله:

بنو قريظة إحدى عشائر اليهود ذوي النفوذ والقوة بالمدينة، فاقت على أقرانها في الخبث وبذاءة اللسان. وكانت منطقة عوالي المدينة تفصل بينهم وبين بني النضير، فزحفهم النبي · بأصحابه (في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة) وحاصر حصونهم وشدّد عليهم، واستمر الحصار لمدة خمسة وعشرين يوما، فنزلوا على حكم سعد بن عبادة، فقضى بضرب أعناق رجالهم بالسيف، فضُربوا، وكانوا ستمائة رجل، بينهم امرأة واحدة. (التفسير الماجدي)

وقال صاحب قرة العينين:

«ونزل في قريظة هم قوم من اليهود من حلفاء الأوس استوطنوا واديا في ضاحية المدينة على مسافة ميلين أو ثلاثة إلى الجنوب الشرفي من المدينة، قرب منازل يهود «بني النضير» الذين أجلاهم النبي · عن المدينة السنة الرابعة بعد أن نقضوا العهد وهموا بقتله ·، وفيهم نزلت سورة الحشر، التي كان يسميها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سورة النضير كما رواه عنه البخاري، أما يهود بني قريظة فقد نقضوا العهد وحاربوا رسول الله · مع الأحزاب أيام الخندق سنة خمس، فحاصرهم النبي · فقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وذراريهم، وغنم أموالهم. (قرة العينين)
وخلاصة هذه الأقوال أن مصداق هذه الآيات الأوّلي هم اليهود، لكن المعنى عام يشمل كل طائفة من الكفار والمشركين ممن توفرت فيهم الشرطان التاليان:
1- من كان قويا في كفره وإنكاره.
2- نقض العهد مع المسلمين.

الربط بين الآيات:

قال التهانوي رحمه الله تعالى:
في الآيات السابقة إلى هنا كان بيانا لأحوال وقتال الكفار والمشركين، ومن هنا يبين أحوال وقتال أهل الكتاب، كما سبقت الإشارة إليها في التمهيد، وسبب نزولها نقض بني قريظة ما عهدوا إلى النبي · من عدم مناصرة أعدائه، ثم نصروا المشركين يوم الأحزاب، ونصروا آخرين مراراً، كانوا يعتذرون في كل مرة أنهم فعلوا ذلك نسيانا، وأنهم لن يعودوا إليه، ثم يجدّدون عهدهم مع النبي ·، ثم ينقضونه، فأمره الله تعالى بقتالهم.
(2) في الآيات السابقة قال عن المشركين {كلٌ كانوا ظالمين} وهنا أشار إلى أكثرهم ظلما وشرا، وأشار إلى المعاملة التي يستحقونها، وقال {إن شرّ الدواب} ذكر فيها شرّ الكفار من تحلّى بصفتين: الأولى: كان متمسكا فكفره وشركه بحيث لا يُرجى إيمانه ودخوله في الإسلام. الثانية: تعوّدَ على نقض العهد والميثاق. فالمعاملة التي يستحقونها هي إنزال عقوبة شديدة بحقهم، وهذا هو الربط الذي اختاره الرازي رحمه الله تعالى، كما قال:
اعلم أنه تعالى لمّا وصف كل الكفار بقوله {وكل كانوا ظالمين} أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد، فقال {إن شر الدواب} عند الله أي في حكمه وعلمه من حصلت له خصلتان (الصفة الأولى) الكافر الذي يكن مستمرا على كفره مصراً عليه لا يتغير عنه ألبتة. (الصفة الثانية) أن يكون ناقضا للعهد على الدوم. (التفسير الكبير)
وهذا الذي اختاره صاحب التفسير الحقاني، وقال صاحب التفسير الماجدي:
{شر الدواب} لاشك أن جميع الكفار من شر الدواب، لكن منهم من زادوا عليه بنقض العهد.
«بيّن الله تعالى أن من بين جمع بين الكفر الدائم وبين نقض العهد على هذا الوجه كان شر الدواب». (التفسير الكبير، التفسير الماجدي)
(3) ضرب الله تعالى فيها مثالا بغزوة بدر، وأمر بقتال بقية المشركين، لأن حكم القتال عام لا يقتصر على الجزيرة العربية، إذ هو سبب لإقامة العدل والاستقرار في ربوع الأرض، وأن الأشرار من الكفار الذي اتسموا بنقض العهد يشكّلون خطراً لأمن العالم. (والله أعلم بالصواب) لاحظوا العبارة التالية:
«أشار في الآيات السابقة إلى أن الكفار ظالمون بصفة عامة، وهنا يشير إلى ميزاتهم وخصائصهم:
(أ) هم أشد الناس كراهة للإيمان بالله.
(ب) تعوّدوا على نقض العهد، لا يثبتون عليه، والمعاملة المذكورة أنسب لأحوالهم تحقيقا للأمن والاستقرار في العالم، يجب إنزال العقوبة الرادعة بحقهم، ويكف من خلفهم عن نقض العهد. لم يستقم المشركون بمكة قط على ما عاهدوا الله ورسوله، فأنزل الله تعالى عليهم أشد العقوبات حيث قتل عددا منهم، ومثلهم فعل بنو قريظة إذ نصروا المشركين، فقضى الله تعالى عليهم باستئصالهم من جذورهم. (تفسير القرآن)

معاني بعض الكلمات والجمل:

{عاهدتَ منهم} «من» في قوله {منهم} للتبعيض، لأن العهد إنما كان يجري مع أشرافهم ثم ينقضونه. (القرطبي)
{وهم لا يتقون} أي لا يخافون الانتقام. (القرطبي) لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون بما فيه من العار والنار. (المدارك)
{فإما تثقفنهم في الحرب} ومعنى تثقفنّهم تأسرهم وتجعلهم في ثقاف، أو تلقاهم بحال ضعف، تقدر عليهم فيها وتغلبهم. (القرطبي)
فأما تصادفنهم وتظفرن بهم. (المدارك)
قال الليث: يقال: ثقفنا فلانا في موضع كذا أي أخذناه وظفرنا به. (التفسير الكبير)
{فشرّد بهم} والتشريد عبارة عن التفريق مع الاضطراب. (التفسير الكبير)
قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى:
«فمعنى الآية : إنك إن ظفرت في الحرب هؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد فافعل بهم فعلا يفرق بهم من خلفهم قال عطاء: تثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم». (التفسير الكبير)

قال الإمام النسفي رحمه الله تعالى:

«ففرق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم من وراءهم من الكفرة حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتبارا بهم واتعاظا بحالهم».
{من خلفهم} أي من ورائهم من الكفرة. (روح المعاني، التفسير الماجدي)
إلى هنا كان بيانا لسبب نزول الآيات وربطها وشرح معانيها، وفيما يلي لاحظوا بعض النصوص التفسيرية:

1- قصم ظهر المشركين:

ما من إنسان يتولى عن ربه، إلا وصار أسوأ من الدواب، والأشرار من الكفار الذين لا يمتنعون عن نقض العهد إذا تمكنتَ منهم أثناء القتال فشرّد بهم حتى يعتبر بهم من وراءهم من الكفار والمشركين. (حاشية اللاهوري)

2- هم شرّ الدواب:

كل من تمادى في الكفر والشرك، ثم خان ونقض العهد غافلا عن العواقب، فهو من شر الدواب عند الله، وهذا كان حال الفراعنة في الغدر والخيانة ونقض العهد.
{«ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادعُ لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون}. (الأعراف)
وهذا ما تعوّد عليه اليهود من بني قريظة في عهد النبي ·، كانوا يتعهدون معه · أنهم لا ينصرون المشركين، ثم ينصرونهم، وقالوا: نسينا العهد، يفعلون ذلك مراراً. فبيّن الله تعالى المعاملة المناسبة التي تليق بحالهم، وأرشد إلى أنهم إن خرجوا إلى الميدان لقتالك مع ما بينك وبينهم من عهد فأنزل بهم عقوبة تردع من وراءهم، ولا يتجاسروا على نقض العهد. (التفسير العثماني)

فائدة:

إن كانت هذه السورة المباركة تشير المسلمين إلى أسباب الفتح، فإنها تشير إلى أسباب الهزيمة، وأكدت على أن نقض العهد من الأمور التي تجلب الذلة والهزيمة، وهي الخصلة التي لا توجد في عموم الكفار، إنما توجد في أشرارهم، فكيف تصورها في المسلمين.
قال العلامة أبو حيان رحمه الله تعالى:
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنها: شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الناكثون للعهود. (البحر المحيط)
يجب على عامة المسلمين، والمجاهدين خاصة، الحذر من جريمة نقض العهد الخطيرة، إذ هي من خصال الكفار الأشرار، وتجلب لصاحبها العار والندامة. (والله أعلم بالصواب)
وسوف يأتي مزيد من البيان والشرح حول نقض العهد ومخالفة الوعد فيما تأتي من الآيات. (إن شاء الله تعالى)