{سورة المجادلة مدنية الآيات من 14 إلى 19}



{بسم الله الرحمن الرحيم}

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}.

ملخص معاني الآيات:

«حزب الشيطان» أي جماعة الشيطان وعصابته وجنوده.
وهذه علاماته:
(1) يعدّون أنفسهم من المسلمين، لكنهم يوالون أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين.
(2) لا يخلصون ودهم لأحد، لا للمسلمين ولا للكفار، إنما هم عبيد الذات وعبيد المصالح الشخصية.
(3) سمتهم الغالبة هي الكذب والحلف الكاذب والأعمال القبيحة.
(4) يصدّون الناس عن الإسلام والجهاد، بتلفيق الأقوال ضدهما ثم تنفير الناس عنهما.
(5) يغفلون عن ذكر الله، ويبتعدون عن أحكامه تعالى، إذ لا مكانة للذكر والدين والإيمان في قلوبهم، لا يهمهم إلا دنياهم، يهتمّون باكتسابها وتزيينها وتجميلها، وإذا باشروا عملاً لا ينظرون إلى حكم الله فيه، أهو حلال أم حرام؟
(6) يمكن تحديد صلابتهم في معتقداتهم الباطلة أنهم يحلفون بالله يوم القيامة كذبا وزوراً أنهم كانوا مؤمنين.
عاقبة حزب الشيطان:
(1) يُعذّبون عذابا مهينا.
(2) يخلدون في نار جهنم.
(3) لا ينفعهم مالهم وأولادهم الذين لأجلهم اختاروا طريق الضلال.
(4) يُكذّبهم الله يوم القيامة أمام الخلائق.
(5) سمّاهم الله بحزب الشيطان، وقدّر لهم الخزي والخسران.

أولياء أعداء الإسلام:

قال الشيخ أحمد علي اللاهوري رحمه الله:
الموالون لأعداء الإسلام لا يتأهلون للاعتداد من المسلمين، لأنهم مع الكفار، يحلفون لكم ليخدعوكم، لا تُنقذهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله، يحلفون بالله يوم القيامة أنهم كانوا مؤمنين، فقد استحوذ عليهم الشيطان، حتى أنساهم ذكرَ الله. (حاشية اللاهوري)

الذين يُطلعون المشركين على بطائن المسلمين:

كتب المفسرون رحمهم الله أن المنافقين كانوا يحضرون مجالس النبي · وأصحابه، فيتتبّعون لأسرارهم، ثم يأتون اليهود ويُبلغونهم بما سمعوا، كما يسعون إلى بَثّ الشائعات ونشر الأخبار المضللة عن النبي · وأصحابه.
وفي معالم التنزيل: «نزلت في المنافقين تولّوا اليهود وناصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم». (معالم التنزيل)
وسبب النزول الذي ذكره المفسرون، يُشير إلى أنهم كانوا يبثّون الأخبار المضللة عن ذات الرسول · أيضاً. (نسأل الله العافية)
أرجو من حكّام بلاد المسلمين اليوم، ومن الصحفيين الذين يتتبعون أسرار المجاهدين ليبلغوها إلى الكفار والمشركين، أرجو منهم أن يتدبّروا هذه الآية الكريمة بكل تمعّن، ويُصلحوا أحوالهم.

 الذين يصدون عن الإسلام والجهاد:

قال تعالى: {اتخذوا أيمانهم جُنّة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين}.
اتخذوا أيمانهم جُنّة، يقولون: نحن مسلمون، ثم يتسترون وراءه، اتخذوا إسلامهم جُنّة، يصدّون الناس عن الإسلام والجهاد، لا يقاتلهم المسلمون، لاعتدادهم ضمن المسلمين، يحلفون لهم أنهم مسلمون، أما الكفار فيُكنّون لهم التقدير والاحترام، لأنهم ينصحون لهم، وبواسطتهم يقدرون على اختراق صفوف المسلمين، أما عموم المسلمين فقد كانوا يصدّقونهم لاعتدادهم ضمن المسلمين، وهكذا يقدر المنافقون على نشر الأخبار المضللة والشائعات الملفقة لزعزعة الإسلام ولصد الناس عنه وعن الجهاد.

وقال القرطبي رحمه الله:

«أي عن الإسلام، وقيل: في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق، وقيل: أي بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم». (القرطبي)
والراجح عند البغوي والجلالين محاربة المنافقين لكفرهم ولرفضهم الإسلام بقلوبهم، غير أنهم يمنعون المسلمين من محاربتهم بالحلف الكاذب بأنهم مسلمين، وهذا ما عبّر عنه بالصدّ عن الجهاد.
قال البغوي: «صدّوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ أموالهم» (البغوي).
وفي الجلالين: «فصدوا بها المؤمنين عن سبيل الله أي الجهاد فيهم بقتلهم وأخذ أموالهم». (الجلالين)

الذين غضب الله عليهم:

هؤلاء المنافقين يوالون الذين غضب الله عليهم، من اليهود. وقال التهانوي: هم اليهود وكل كافر أشهر كفره. (بيان القرآن)

غرس قبيح:

قال تعالى: {إنهم سآء ما كانوا يعملون}.
من جملة أعمالهم السيئة أنهم يوالون الكفار، ويُطلعونهم على أسرار المسلمين، يحلفون للمسلمين بإسلامهم، يتخذون مصالح الدنيا وحماية أنفسهم من المسلمين غاية حياتهم، يصدون المسلمين عن الإسلام والجهاد، ينهمكون في ملذات الدنيا ويأتون المناكير. وفي التفسير العثماني: «قد لا يتنبهّون الآن لأعمالهم، لكنهم بنفاقهم يغرسون لأنفسهم غرسا قبيحا». (العثماني)
أي يزعم المنافق نفسه داهية، يقول: حميت نفسي، وحافظت على مصالحي، وهو لا يدري أنه لا يغرس لنفسه إلا الشر والدمار.

عبيد المصالح:

قال الله تعالى: {ما هم منكم ولا منهم}..
هؤلاء المنافقون ليسوا منكم أيها المؤمنون، ولا من الكافرين. إذ هم عبيد المصالح الشخصية، لا تهمهم إلا ما تنفعهم، ولا يضمون صوتهم إلا إلى الجماعة التي ارتبطت معها مصلحتهم، فلا يخلصون وُدّهم لأحد مالم ترتبطت معها مصلحة، المنافق يأتي الجماعات كلها، ويُظهر ولاءه لها ليكسب منها شيئا من حُطام الدنيا، وإليه أشار الله تعالى في سورة النساء: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء}. (أنوار البيان)

يزعمون أنفسهم دهاة محنّكون:

{يوم يبعثهم الله جميعا}..
«أي يحلف المنافقون يوم القيامة زوراً وكذبا أنهم كانوا مؤمنين، فليس ما تعوّدوا عليه من الكذب والمراوغة في الدنيا شيئ آنيٌّ، يزول عند وفاتهم، بل يبقى معهم إلى يوم يبعثهم الله من قبورهم، كانوا يكذبون لكم في الدنيا خوفا من معاقبتكم، يزعمون أنهم دهاة محنّكون، وأنهم اتبعوا نهجا أكثر عافية، كذلك يستعدون للكذب أمام الله يوم القيامة، قالوا ربنا ما كنا ظالمين، يظنون أن كذبهم ينجيهم من الله». (التفسير العثماني)

استحوذ عليهم الشيطان:

قال الله تعالى : {استحوذ عليهم الشيطان}
أي سيطر الشيطان على عقولهم وأذهانهم، وأغفلهم عن الله وأحكامه وعن المثول بين يديه يوم القيامة، فقست قلوبهم فكانت أشد من الحجارة.
(1) استحوذ عليهم الشيطان بشكل كامل، لذلك لا يعملون إلا بما يُملي عليهم الشيطان من الضلال والباطل، وأنساهم ذكر الله، فلا يهتمون بأحكام الله. (مفهوم بيان القرآن)
(2) كلمة النسيان تأتي لمعنيين، الأول الغفلة، والثاني الترك. فالشيطان أغفلهم عن ذكر الله، أو أبعدهم عن ذكر الله. أراد بذكر الله أحكامه. وقيل: أراد بها الزواجر التي تنهى عن معصية الله. (فأنساهم الشيطان تلك الزواجر)
«أي أوامره في العمل بطاعة. وقيل: زواجره في النهي عن معصية. والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هنا. (القرطبي)
(3) أنساهم الشيطان ذكر الله، فلا يذكرونه بقلوبهم ولا بألسنتهم.
«فهم لا يذكرونه بقلوبهم ولا بألسنتهم». (البحر المحيط)
وباختصار، أحكم الشيطان سيطرته عليهم بشكل كامل، حتى أغفلهم عن الله وعن ذكره وحبه وخوفه وهَمِّ إرضاءه وغيرها.
انظروا اليوم إلى أولئك المغفّلين الذين وقعوا فريسة بيد الشيطان، يدّعون الإسلام، لكن ليس في حياتهم ما يمكن أن يقال إنهم من الإسلام في شيء. لا يهتمون بالصلاة والصوم، ولا ينظرون إلى حكم الشرع في الأكل والشرب، ما الذي يأكلونه، ومن أين يأكلون، وعند اللقاء مع أحد لا يراعون حكم الشرع فيه، لا تَهُمُّهُمْ إلا دنياهم، ولا يتذكرون اسم الله إلا عند الحلف الكاذب وحماية مصالحهم الشخصية، فمتى يجاهدون في سبيل الله؟
اللهم إنا نعوذبك من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق.

معنى استحواذ الشيطان:

قال النسفي:
قال الكرماني: علامات استحواذ الشيطان على العبد ما تأتي:
(1) أن يشغله الشيطان في الأكل والشرب واللبس وتزيين ظاهره والاهتمام بمظهره الخارجي.
(2) أن يُغفله الشيطان عن تذكّر نِعَم الله تعالى عليه وأفضاله عليه، وشكرها.
(3) أن يُنسيه ذكر الله بشغله في الكذب والغيبة والبهتان.
(4) أن يجعل الدنيا أكبر همه والسعي وراء حطامها.
قال شاه الكرماني رحمه الله: علامة استحواذ الشيطان على العبد..الخ (المدارك)
وفي التفسير العثماني:
«كل من استحوذ عليه الشيطان غلب على عقله وذهنه بحيث لا يتذكر ربه، فمن أين يدرك عظمته وكبريائه». (العثماني)

حزب الشيطان في الخسران:

حياة المنافق تبدو مُغرية، إذ هو يتنعم بالرفاهية واللذة والمرافق الحيوية والمعاصي، كما أنه ينعم بنعمة الأمن حسب الظاهر، يجول ويصول في العالم، لكن الله تعالى يقول:
{ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.
وفي التفسير العثماني:
«لاشك أن مصير حزب الشيطان الخسارة والحرمان، فتدابيرهم الدنيوية لا تُكلل بالنجاح، ولا سبيل إلى النجاة من العذاب الشديد في الآخرة». (العثماني)
لاشك أن الدنيا فانية، المنافقون في القديم ماتوا عند انقضاء آجالهم، ولم يقدروا على حمل أموالهم معهم، ورفاهيتهم صارت وبالا عليهم، ورافقتهم عند ارتحالهم بشكل العذاب، أما الإسلام الذي أرادوا الإضرار به، فلا زال قائما مع كامل عزته وشهامته. وهكذا تبيّن للجميع أن:
حزب الشيطان هم الخاسرون.
(والله أعلم بالصواب)