{سورة آل عمران مدنية، الآية 154}



{بسم الله الرحمن الرحيم}

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}.

ملخص معاني الآية:

(1) لاحظوا هنا فضل الله ونعمته على المؤمنين الصادقين أنه أنزل عليهم أمنة نعاسا في أحلك لحظات الاحتدام، فمن كان قلبه يغتم لرسول الله · ودينه، أنزل الله عليه أمنة ليطمئن قلبه.
(2) أما المنافقون الذين لا يهمهم إلا نفوسهم كانوا في هلع وذُعر، وحُرموا من نعمة النعاس، يظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية.
(3) بات المنافقون يصرخون ويعولون على أنه لا خيار لهم، فيما يبدو أنه كان مطلبا صحيحا، لكنهم يريدون من ورائه تحقيق غرض مخفي في قلوبهم، وهو أن رأيهم فيما يتعلق بالقتال بالبقاء داخل المدينة لم يجد قبولا لدى عامة المسلمين، ولذلك تعرض المسلمون للقتل بأعداد كبيرة.
(4) فليعلم هؤلاء المنافقون أن الأمر كله بيد الله تعالى، أما ما يتعلق برأيكم فلا شك أنه لغو، إذ ما من شخص كتب الله له الموت إلا ويموت حيث كَتَب الله له وبالوقت الذي حدّد له. حتى لو بقيتم في منازلكم بالمدينة لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم.
(5) ما وقع يوم اُحد كان الغرض منه التمحيص والابتلاء، أما التمحيص ففي الجماعة، وأما الابتلاء فللقلوب.

الأقوال ومراجعها:

(1) {ثم أنزل عليكم من بعد الغم} أنزل الله على المؤمنين الصادقين يوم اُحد أمنة نعاسا، فباتوا ينعسون واقفين، سقط السيف من يد طلحة مراراً، هذا الأثر الحسي للطمأنينة والسكينة نزل في قلوب المؤمنين بفضل من الله ورحمته في أحلك ظروف القتال، وعقبه تلاشى خوف العدو من قلوبهم، وقع ذلك عندما لم يتمالك الجيش الإسلامي على نفسه، وتعطل نظمه وترتيبه، عشرات الجثث تلفظ أنفاسها الأخيرة ملطخة بالدماء والغبار، وآخرين يئنّون تحت وطأة الجروح، وعند إرجاف وفاة النبي · فقدوا ما تبقى لديهم من وعي وشعور، فالنعاس الذي غشيهم كأنه إيذان بالصحوة، لأنه عمل في إزالة تعبهم، وكأنه إعلان بإدبار الخوف والهلع والقلق والاضطراب، والآن قوموا بأدواركم بكل هدوء وطمأنينة، فأسرعوا إلى التطويق بالنبي ·، حتى تشكلت جبهة جديدة، فانكشف المشركون بعد قليل. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : النعاس دليل على النصر والظفر، وهذا ما وجده جيش علي بن أبي طالب في معركة صفين. (التفسير العثماني)
(2) عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: النعاس في القتال من الله، وفي الصلاة من الشيطان. (ابن كثير)
وعن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: كنت ممن تغشاه النعاس يوم اُحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه. (بخاري، ابن كثير)
(3) {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} ..
هؤلاء منافقون ضعفاء وجبناء، لم يكن يهمهم الإسلام ولا الرسول، إنما يهمهم أنفسهم، يخشون معاودة أبي سفيان بالهجوم. فمن أين لهم النعاس والنوم؟ (التفسير العثماني)
(4) يعني المنافقين معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين، فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور. (القرطبي)
(5) ما بهم إلا هم أنفسهم، لا همّ الدين ولا هم رسول الله · والمسلمين. (البحر المحيط)
(6) الاهتمام بالنفس لا عيب فيه، إن كان في حدود طبيعية (ولم يتحوّل إلى نظرية فكرية) والمقصود هنا أن المنافقين لم يكن يهمهم إلا أنفسهم، ولا اهتمام طبيعي لديهم بالدين ولا بالرسول · (التفسير الماجدي)
وهذا ما دأب عليه المنافقون في المحن والبليات، اللهم إنّا نعوذ بك من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق.
(7) {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} أي يقولون أين وعود الله تعالى؟ يبدو أن أمر الإسلام قد انتهى، وأن الرسول · والمسلمين لا يعودون إلى بيوتهم، يموتون هنا. كما قال في موضع آخر: {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا} (الفتح) (التفسير العثماني)
(8) يظنون أن أمر محمد · باطل، وأنه لا يُنصر. (القرطبي)
(9) {يقولون هل لنا من الأمر من شيء}..
أي هل يسلم لنا شيء من أمرنا أم أنه فسد بأكمله، أو المعنى: هل اكتسب أنصار محمد · شيئا من النصر والظفر؟ أو المعنى: لقد صنع الله ما أراد، ولا خيار لنا في الأمر ولا لغيرنا. هذه هي المعاني الظاهرة لهذه الجملة، لكن الذي كان في قلبهم يأتي بيانه فيما بعد. (التفسير العثماني)
(10) لفظة الاستفهام ومعناه الجحد. (القرطبي)
(11) {قل إن الأمر كله لله} أي قول المنافقين: {هل لنا من الأمر من شيء} كلمة حق اُريد بها الباطل. لاشك أنه ليس بأيديكم شيء، كل شيء بيد الله، ينجز ما شاء ويفسد ما شاء، نصر من شاء، وهزم من شاء، أنزل الرحمة أم الزحمة، أظفر أم أفشل، حادثة واحدة جعلها نعمة لقوم، ونقمة لآخر، لكن المعنى الذي أردتم من هذه الجملة، يعلمه الله تعالى، وسوف يظهره عليكم . (التفسير العثماني)
(12) (أ) أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء. (ب) يعني القدر خيره وشره من الله. (القرطبي)
(13) {يقولون لو كان لنا من الأمر من شيء ما قتلنا ههنا} ..
هذا ما كانوا يبيّتونه في قلوبهم ، يقولون {هل لنا من الأمر من شيء} ويريدون منه {ما قتلنا ههنا}، وكانوا إذا خلوا مع أمثالهم قالوا: لم يأخذوا برأينا، سمعوا لبعض المندفعين السطحيين من الشباب الذين لا خلفية حربية لهم، لذلك تلقنوا درسا قويا، لو كان لنا من الأمر من شيء، وعملوا برأينا، لما بلغت خسارتنا إلى هذا الحد، فقد قُتل من أبناء قومنا كذا وكذا، وما كانوا ليُقتلوا لو عملوا برأينا. وكان المنافقون ينتسبون إلى قبائل الأنصار من أهل المدينة، لذلك قالوا {ما قتلنا ههنا}. أو المعنى : لو كان الأمر كما يقول محمد · من الفتح والظفر والغلبة على المشركين، فكيف هذه الإصابات في صفوفنا من قتل وجرح؟
تحذير:
يبدو أن مقولة المنافقين هذه كانت بالمدينة المنورة، لأنهم انسحبوا عن ساحة القتال بزعامة عبد الله بن ابي بن سلول. والإشارة في هذا الوجه إلى اُحد من لفظ (ههنا) لقربه. لكن بعض الروايات تشير إلى أنها كانت مقولة معتب بن قشير في ساحة القتال، فلعل بعض المنافقين لم ينسحبوا مع ابن سلول لبعض المصالح. والله أعلم (التفسير العثماني)
(14) قال الزبير: أرسل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول: {لو كان لنا من الأمر من شيء ما قتلنا ههنا}. (القرطبي)
(15) إن المنافقين قالوا لو كان لنا عقل ما خرجنا لقتال أهل مكة، ولما قتل رؤساءنا. (القرطبي)
(16) {قل لو كنتم في بيوتكم} ..
أي لا يغنيكم هذا الطعن والتشنيع والحسرة والندامة من شيء، فقد كتب الله تعالى لكل أجلاً ومكانا وسببا ووقتا، لا يتجاوزه ولا يستأخره، ولو كنتم في بيوتكم، وأخذوا برأيكم، فإن ذلك لم يكن ليمنعكم من القتل أو الموت في اُحد إن كتب الله لكم ذلك، ولخرجتم إليه لسبب أو لآخر. فهذا كان من فضل الله عليكم أنكم قُتلتم حيث قدّر الله لكم الموت، لكنه كان موت الشجعان الأبطال في سبيل الله بكل طمأنينة وقرارة نفسية، فكيف الحزن والتحسّر عليه؟ لا تقيسوا عباد الله الصالحين على أنفسكم. (التفسير العثماني)
(17) {وليبتلي ما في صدوركم} فرض الله عليكم القتال والحرب، ولم ينصركم يوم اُحد ليختبر صبركم وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم. (القرطبي)
(18) {والله عليم بذات الصدور} فلا يخفى عليه شيء من الأسرار. والمعنى إنه أراد أن يمتحنكم، ليظهر ما في قلوبكم، وليمحص الزيف من الخالص في مختبر الابتلاء، فينال المخلصون جائزة النجاح، ولتطهر قلوبهم من دنس الوساوس والضعف. وليتبين نفاق المنافقين بحيث لا يصعب على الناس معرفته. (التفسير العثماني)
(19) وفيها تنبيه على أن الله تعالى غني عن الابتلاء، وإنما يبرز صورة الابتلاء لحكم يعلمها كتمرين المؤمنين أو إظهار حال المنافقين. (روح المعاني)

دعاء:

اللهم إنا نعوذبك من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق. (آمين يا أرحم الراحمين)

الواجب علينا جماعة المسلمين الإيمان بتطابق عقيدتنا بالآية السابقة، بأن الموت أو الشهادة في الجهاد سبب للمغفرة والرحمة والسعادة الأبدية الكبيرة. أما الموت فأجله وزمانه محدد، لا تبديل فيهما.

{والله يحيي ويميت}..
(1) أي يقدر على أن يحيي من يخرج إلى القتال ويميت من أقام في أهله. (القرطبي)
(2) وفيه منع المؤمنين عن التخلف في الجهاد لخشية القتل. (روح المعاني).
دعاء:
اللهم نسألك العافية والسلامة من معتقدات الكفار والمنافقين أن نؤمن بها، ومن التكلم بمثل كلامهم.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لذنك رحمة إنك أنت الوهاب.
آمين يا رب العالمين.