{سورة آل عمران مدنية، الآية 158}



{بسم الله الرحمن الرحيم}

{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}.

ملخص معاني الآية:

لا تهتموا كثيرا بحماية أنفسكم من الموت. وليكن أكبر همكم مقامكم بين يدي الله في يوم من الأيام..(فمن يضحّي هنا بروحه ونفسه، يجد عند ربه من النِعم ما تثلج الصدور، وتريّح القلوب).

الأقوال والمراحل:

(1) قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:
وعظ وعظهم الله بهذا القول أي لا تفروا من القتال ومما أمركم به بل فروا من عقابه واليم عذابه، فإن مردكم إليه، لا يملك لكم أحد ضرا ولا نفعا غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم. (القرطبي)
(2) قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى:
كأنه قيل إن تركتم الجهاد، واحترزتم عن القتل والموت، بقيتم أياما قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة تم تتركونها لا محالة. فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها، وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى الله، ووقوفكم على عتبة رحمة الله، وتلذذكم بذكر الله، فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلين. (التفسير الكبير)
(3) أي اُفرضوا أنكم ما خرجتم الآن لسفر أو جهاد، ونجوتم من الموت، لكن المهم أنكم تموتون يوما من الأيام أو تُقتلون، ثم تقفون بين يدي ربكم. وعندئذ تعلمون ما قسّم الله من مغفرة وفضل للسعداء الذين سخّروا حياتهم لدين الله ثم قَتلوا أم قُتلوا في سبيله، والذين لا قيمة عندهم للدنيا وما خزنتم من مال. وباختصار لو نسلّم ما يقوله المنافقون أنكم لو لم تخرجوا للجهاد لما قُتلتم، فإن ذلك كله عبارة عن خسارة، لأنه عندئذ يُحرم من الموت الذي يمكن تضحية آلاف الحياة عليه، بل هو ليس بموت أصلا إنما هو حياة أبدية سرمدية. (التفسير العثماني)
(4) {ولئن متم أو قتلتم} أي متم في السفر أو الجهاد فذلك لا يعني الفناء والعدم والزوال، بل تنتقلون إلى جسم آخر مع حياة لا تزول ولا تفني، ثم تجتمعون عند ربكم. فهذه هي النجاة الحقيقية، لأن نوره مأوى وملجأ كافة الأنوار الروحية، والذرات كلها تنجذب إلى الشمس، فإن كان عائق يعيق الطريق إليها، ومنع من البلوغ إلى المطلوب الحقيقي، تسبب في خلق اضطراب، وهو العذاب. وفي تقديم الموت على القتل دليل على أن الموت في سبيل الله سبب للسعادة. وللمرء ثلاث حالات، الأولى: الغفلة والمعصية، والشهادة فيها سبب المغفرة لها. والثانية: حالة الصلاح والطاعة، والشهادة فيها سبب للرحمة، أي رفع الدرجات. الثالثة: حالة الاشتياق إلى الله، والشهادة فيها سبب للتقرب، والذي عبّر الله عنه بلفظ {إلى الله تحشرون}. (التفسير الحقاني)

فائدة:

وملخص الملاحظة التي أبداها صاحب التفسير الحقاني أن في الآيتين ثلاث جوائز للشهيد بالترتيب:
(1) المغفرة من الله.
(2) الرحمة.
(3) الوقوف بين يدي الله.
وهذه الجوائز الثلاث مرتبطة بأحوال الشهيد الثلاث. إن كان الشهيد عاصيا فبالشهادة ينال المغفرة من ربه. وإن كان مطيعا صالحا، وجد بالشهادة درجة عالية وهي الرحمة. وعند الألوسي رحمه الله تعالى الرحمة من أحد أسماء الجنة. فإن كان يتمنى لقاء الله تعالى ويشتاق إليه، نال لقاء الله الخاص. وقد أشار إليه الرازي بأسلوب مختلف بشكل موسّع، لاحظوه فيما يلي:
واعلم أنه سبحانه وتعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالحشر الى مغفرة الله ، وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم ههنا بالحشر الى الله ، يروى أن عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ، ورأى عليهم آثار العبادة ، فقال ماذا تطلبون؟ فقالوا : نخشى عذاب الله ، فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه ، ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم ، فقالوا : نطلب الجنة والرحمة ، فقال : هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر ، فسألهم فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ، ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة ، فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون ، فانظر في ترتيب هذه الآيات فإنه قال في الآية الأولى : { لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله } وهو إشارة الى من يعبده خوفا من عقابه ، ثم قال { وَرَحْمَةً } وهو إشارة الى من يعبده لطلب ثوابه ، ثم قال في خاتمة الآية : { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } وهو إشارة الى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية ، وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة ، ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال :
{ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [ الأنبياء : 19 ] وقال للمقربين من أهل الثواب : { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه ، واستئناسهم بكرمه ، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته ، وهذا مقام فيه إطناب ، والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه .
(5) والأصل أن ما من امرئ خرج لمهمة دينية، ثم وافته المنية، فتلك كفارة لما سلفت من أعماله. فإن مات قبل إنجاز مهمته، يُساق إليه أجره، ولا يوقف راتبه. ثم قال: نفرض أنكم ما خرجتم في سبيل الله، ولم تبرزوا في ساحة القتال، فإن الموت لا يفارقكم، ثم تحضرون بين يدي ربكم لتُحاسبوا على أعمالكم. فإن كان لابد من الموت ولا مفر منه، فلماذا لا يعمل أعمالا صالحة؟ (حاشية اللاهوري رحمه الله)
(فيما سردنا من العبارة إشارة لطيفة إلى اختلاف مفاهيم المغفرة والرحمة والموت والقتل).