{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)}.
ملخص معاني الآية:
لا حرج على من كان لديه عذر حقيقي، في
التخلف عن الجهاد، مثل الأعمى والأعرج ومن كان مرضه شديداً.
ومن يطع الله ورسوله في الجهاد وغيره،
يُدخله جنات تجري من تحتها الأنهار.
ومن يتولّ فيعصي، ويقعد عن الجهاد، بأن
اشتغل بالدنيا، فإن الله يعذّبه عذابا أليما.
سبب نزول الآية:
ففي الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال: لمّا نزل قوله تعالى: {وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذّبكم عذابا أليما}
فجاء الزِمنى إلى النبي · وقالوا: يا رسول الله لا نشهد الغزو معك، فماذا يُفعل
بنا؟ فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ
وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا
(17)} وقد سبق هذا المبحث بالتفصيل في سورة التوبة. راجعوا الآية 91 و92 من سورة
التوبة. (القرطبي)
وعد الجنة:
قال تعالى: {ومن يُطع الله ورسوله} في
الجهاد وغير ذلك. (المدارك)
يعني في أمر الجهاد. (الخازن)
أي ومن يطع الله ورسوله فيما يتعلق
بالجهاد وغيره من أحكام الدين، يُدخله جنات تجري من تحتها الأنهار.
العذاب لكل من تخلف عن الجهاد واشتغل بالمعاش:
قال العلامة ابن كثير رحمه الله:
ثم قال تعالى مرغبا في الجهاد وطاعة الله
ورسوله: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ } أي: ينكل عن الجهاد، ويقبل على المعاش { يُعَذِّبْهُ
عَذَابًا أَلِيمًا } في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار.
وحضور المعذورين سبب لزيادة أجرهم:
قال الإمام أبو حيان رحمه الله:
{ ليس على الأعمى حرج } : نفي الحرج عن هؤلاء من
ذوي العاهات في التخلف عن الغزو ، ومع ارتفاع الحرج ، فجائز لهم الغزو ، وأجرهم فيه
مضاعف ، والأعرج أحرى بالصبر وأن لا يفر . وقد غزا ابن أم مكتوم ، وكان أعمى ، في بعض
حروب القادسية ، وكان رضي الله عنه يمسك الراية. (البحر المحيط)
طريق عجيب للدعوة إلى الجهاد:
في الآيات السابقة دعا إلى الجهاد،
وخوّف بالوعيد على تركه، وفي هذه الآيات ذكر أولئك الذين رَخَصَ لهم بالتخلف عنه،
ولا ذنب عليهم على عدم المشاركة في الجهاد، لكن آخر الآية يشتمل على الترغيب في
الجهاد، وأشار إلى أنه ليس من مهام المسلم البحث عن الأعذار والحِيَل للتخلف عن
الجهاد، بل الواجب عليه الامتثال والطاعة لأمر الله ورسوله. لذلك لا يجوز لأحد أن
يسعى إلى التخلف عن الجهاد تحت حِيَلٍ واهية، وليعلموا أن الجهاد ممّا أمر به الله
ورسوله، ولا يفلح من كان عاصيا لله ولرسوله، ولهم عذاب أليم. اللهم إنّا نعوذبك من
عذابك. (والله أعلم بالصواب)
في حالة تطويق الحصار على المسلمين..
أشار الإمام أبو حيان رحمه الله تحت هذه
الآية الكريمة إلى مسألة مهمة، فقال: إن حاصر الأعداء المسلمين، فالواجب على
المعذورين محاربتهم بحسب الوسع والطاقة.
«فلو حصر المسلمون، فالغرض متوجه بحسب
الوسع في الغزو». (البحر المحيط)
كالأعمى يقدر على الاستفادة من نعمة
العين واليدين، بأن يقوم بحراسة الجيش، وهذا حال بقية المعذورين، يمكنهم القيام
بما يطيقون. أرجو من أولئك الإخوة الذين لا عذر لهم، أن يتأملوا هذه الأحكام
الربانية، وليعيدوا النظر على تلك الأسباب التي لأجلها تخلفوا عن الجهاد؟ (والله
أعلم بالصواب)
عبارة نابعة من القلب:
«ثم قال تعالى: {ومن يتول} أي لم يمتثل لِمَا
أمر الله به، وترك العمل به، وتولى عن الجهاد خاصة، قال فيه: {يعذّبه عذابا أليما}
ويشمل كافة أنواع العذاب الروحي والنفسي والمادي والبدني، والرق من العقوبات
الشديدة، التي اُبتلي بها المسلمون منذ مدة طويلة، نتيجة مخالفتهم لأمر الله
ورسوله، وقد جرّ الرق إليهم الذُلّ والعار، زال عن قلوبهم حماس الجهاد، باعوا
ضميرهم مقابل الدنيا، واشتغلوا باللهو واللعب، تربو دول المسلمين اليوم على خمسين
دولة، لكن بعضها عبيدة أمريكا، وبعضها عبيدة روسيا، وبعضها عبيدة دول أوروبية
أخرى. كان صحابة رسول الله · وسلف هذه الأمة الصالحين يسعون إلى إشعال نار الحماس
والجهاد في قلوب المسلمين، وخضعوا لفكر الموت والآخرة، فسادوا العالم كله، لكن
المسلمين اليوم سياستهم ليست منهم، لا اقتصادهم ولا معاشهم منهم ولا مجتمعاتهم، في
جميع شؤون الحياة ينظرون إلى الأغيار، الذين يرتّبون لهم المشاريع، ويطبّقونها
عليهم. ثرواتنا في جيوبهم، نعلق آمالنا بهم ولا حيلة لنا، سلف هذه الأمة حافظوا
على ديننا سيراً على شفرة السيف، صفحات تاريخهم مليئة بالتضحيات، فأعزّهم الله في
الدنيا ومكّنهم في الأرض، لكننا لمّا تولينا عن ضوابطنا وأحكامنا، وجعلناها وراء
ظهورنا، ومِلنا إلى الرفاهية ورغد العيش، وأطعنا الأغيار فيما يأمروننا، تولى الله
عنّا، وفرض علينا ربقة العبودية». (معالم العرفان)