{بسم الله الرحمن الرحيم}
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23)}.
ملخص
معاني الآية:
أشار إلى أن المنافقين قد خانوا ما عاهدوا الله
(كما سبق في الآية 15) وتسللوا عن ساحة القتال بكل وقاحة، لكن في جانب آخر كثير من
المسلمين الصادقين الذين أنجزوا ما وعدوا الله، لم تتزلزل أقدامهم مع الرسول وقت
المحنة، ثبتوا على ما عاهدوا الله عليه مثل الجبال، فمنهم من قضى وعده بتسليم روحه
لخالقه، مثل شهداء بدر واُحد، منهم أنس بن النضر رضي الله عنه، لقيت قصته شهرة
عظيمة، ومنهم من ينتظر الموت في سبيل الله بفارغ الصبر، بأن يخوض المسلمون معركة
جديدة فنُقتل فيها طلبا للشهادة في سبيل الله، وعلى كل حال فالفريقان (الذين قضوا
نحبهم، والذين ينتظرون) وفوا بما عاهدوا الله وما بدّلوا تبديلاً. (العثماني)
فائدة:
أشار النبي · إلى طلحة بن عبيد الله
وقال: «هذا ممن قضى نحبه» إشارة إلى ما قدّم يوم اُحد من بطولات وتضحيات حتى شلّت
يداه في منع سهام المشركين، فجعله النبي · شهيدا في حياته. رضي الله تعالى عنه
وأرضاه. (العثماني)
سبب
نزول الآية:
قال الإمام النسفي رحمه الله:
نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا
مع رسول الله · ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم عثمان بن عفان، وطلحة، وسعيد بن
زيد، وحمزة ومصعب وغيرهم. (المدارك والكشاف)
النذر..
والموت:
{قضى نحبه} النحب: يدل على النذر
والموت.
قال بعضهم: أجله. وقال البخاري: عهد.
وهو يرجع إلى الأول. (ابن كثير)
وغرضهما واحد، أي منهم من نذر حياته
كلها، واستُشهد في سبيل الله، أو المعنى: إن بعضهم استُشهد، فقضى ما عاهد الله.
وفي التفسير المظهري:
فمنهم من وفى بما نذر، وقضى ما عاهد
الله، وخرج من عُهدة النذر، فلا ذمة عليه. والمعنى إنه صبر فجاهد وأطاع (أي ثبت ولم
يفر) حتى قُتل، أو وافته المنية. كلمة «نحب» تدل على النذر والموت. {قضى نحبه} أي
قضى مدة عمره، فمات. «نحب» إن كان بمعنى الموت، فالمعنى: إنه وفى بما عاهد الله
بحيث وافته المنية، مثل حمزة وغيره رضي الله عنهم أجمعين. (المظهري)
ينتظر
يوم الجهاد..
{ومنهم من ينتظر} ..
قال مجاهد: ينتظر يوما فيه جهاد فيقضي
نحبه. (البحر المحيط)
ذكر
أهل الإيمان الممتازين:
ذكر صاحب بيان القرآن أن الآية ذكرت أهل
الإيمان الممتازين، كانوا يتمنون الجهاد والشهادة في سبيل الله، لاحظوا النص
التالي:
«والآن يذكر بعض أهل الإيمان الصادقين
الممتازين، فقال: {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} مثل أنس بن النضر وأصحابه،
لم يشهدوا يوم بدر، فشقّ ذلك عليهم، وقالوا: لم نشهد مع رسول الله · أول غزوة
غزاها، فإن أرى الله رسوله قتالا لرأى الله ما نفعل، ثم كانوا فريقين، فريق قضى
نحبه، وضحّى بروحه ونفسه في سبيل الله وقُتل، مثل أنس بن النضر ومصعب بن عمير
وحمزة رضي الله عنهم، قضوا ما عاهدوا الله، وبرئت ذمتهم، ومنهم من ينتظر، مثل
عثمان وطلحة، لم يستُشهدوا بعدُ، لكنهم يتمنونها، وما بدّلوا شيئا مما عاهدوا
تبديلا، ثابتون على عهدهم وميثاقهم. فما نقضوه وما غيّروا، فهذا هو حال الأوفياء
الصادقين، بخلاف المنافقين الذين لا يثبتون على ما وعدوا، كما سبق بيان حالهم.
كما قال الله تعالى : {ولقد كانوا
عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار} (الآية) (معارف القرآن للكاندهلوي).
تفسير
يسير:
ثم ذكر المؤمنين الذين تعهدوا بأكثر من
العهود الإيمانية العامة، فقال: منهم من قضى نحبه ونذره، أي شهد المعركة كما وعد،
ثم قُتل فيها، ومنهم من ينتظر فرصة أخرى لخوض المعركة والفداء بالنفس والروح.
لقد نقل المفسرون تحت هذه الآية قصة
أخرى (ذكرها البخاري ومسلم في صحيحهما) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال: غاب
أنس بن النضر، عن قتال يوم بدر، فقال: غبت عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين،
لئن أشهدني الله قتالا ليرينّ الله ما أصنع؛ فلما كان يوم أُحُد، انكشف المسلمون، فقال:
اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين،
فمشى بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد، إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فقال سعد:
يا رسول الله، فما استطعت أن أصنع ما صنع، قال أنس بن مالك: فوجدناه بين القتلى، به
بضع وثمانون جراحة، بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، فما عرفناه حتى عرفته أخته
ببنانه، قال أنس: فكنا نتحدّث أن هذه الآية ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ) نزلت فيه، وفي أصحابه.
قال أنس بن مالك: نزلت هذه الآية في أنس
بن النصر ومن كان مثله من الصحابة، ذكر المفسرون أسماءهم، ومنهم سيد الشهداء حمزة
بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم. وفي بعض الروايات عن
جابر بن عبد الله قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلحة بن عبد الله فقال: «من
أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى هذا» .. (معالم التنزيل)
لم يُستشهد طلحة يوم اُحد ولا يوم
الأحزاب، لكن النبي · جعله مصداق قوله تعالى: {منهم من قضى نحبه} لأنه وقاه من
المشركين يوم اُحد حتى شلت يداه، كان يستخدم يديه موضع التُرس، فهو لم يقصّر في
الشهادة، إلا أنها لم تأته إلا يوم الجمل سنة 30 من الهجرة. وهنا أدعو أعداء
الصحابة إلى تأمّل تضحياتهم وفداءهم في سبيل الله. (أنوار البيان)