{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ
اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)}.
ملخص
معاني الآية:
(1) نتائج غزوة الأحزاب.. انتصار
المسلمين وهزيمة الكافرين.
(2) أرجع الله الكفار بغيضهم وغضبهم،
فما نالوا من المسلمين شيئا، ورجعوا خائبين خاسرين.
(3) كفى الله المؤمنين القتال في هذه
الغزوة، إذ لم يُتعبوا أنفسهم لقتال المشركين.
(4) إن الله قوي عزيز، فلا يصعب عليه
فعل شيء مما ذُكر.
تفسير
يسير:
«يشير الآن إلى نهاية ونتائج غزوة
الأحزاب.. فقد وصلت هذه المعركة إلى نهايتها بعودة أحزاب الكفار المتحالفة على
محاربة المسلمين خلال عشرين أو خمس وعشرين يوما، فقد أرجعها الله تعالى بحيث لم تنل
من مرامها وأهدافها شيئا، وكانت قد امتلأت غيظا على المسلمين وغضبا، فعادت غاضبة
غائظة، ولم تتحقق لها آمالها ومطامحها، ونصر المسلمين بالصبا الباردة وبجنود
الملائكة، إذ كفتهم القتال، ولم يضطروا إلى مباشرة القتال، كما أخرج الأحزاب عن
ديارهم. ثم في الآية {وكفى الله المؤمنين القتال} أشار إلى انتهاء القتال بين
المسلمين وقريش، كما قال النبي · عند عودته من الأحزاب: «الآن نغزوهم ولا
يغزوننا». (رواه البخاري)
الآن نغزو مشركي العرب ونهاجمهم، فكان
كما قال ·، إذ غزاهم حتى فتح مكة.. ومن هنا لا تستغربوا طرد أحزاب المشركين
وجماعاتهم عن بلاد المسلمين، لأن الله تعالى قوي عزيز، لا يصعب عليه شيء، فقد رجعت
الأحزاب خائبة خاسرة بحول الله وبقوته». (معارف القرآن للكاندهلوي)
موجبات
النصر ثلاثة:
هجوم المشركين يوم الأحزاب كان عظيما،
إلا أن الله نصر عباده المؤمنين، فاضطر جيش الكفار على التراجع والانهزام، واُصيب
بإحباط، فلم يتشجع على مهاجمة المسلمين قط. قال القرطبي رحمه الله: لقد نصر الله
المؤمنين بثلاثة أشياء: (1) الملائكة (2) العاصفة أم الرياح الباردة (3) الرعب.
فالأول والثاني كانا سببين في تقوّض
الخيام واقتلاع الأطناب، والرعب عمِلَ في احتباس بني قريظة في الحصون والقِلع. قال
القرطبي:
«بأن أرسل عليهم ريحا وجنودا حتى رجعوا
ورجعت بنو قريظة إلى صياصيهم، فكفى أمر قريظة بالرعب». (القرطبي)
قعقعة
سلاح الملائكة:
وأصبح رسول الله · فعاد إلى المدينة وبه
من الشعث ما شاء الله، فجاءته فاطمة بغَسول فكانت تغسل رأسه، فأتاه جبريل فقال:
«وضعت السلاح ولم تضعه أهل السماء» ما زلت أتبعهم حتى جاوزت بهم الروحاء ثم قال:
انهض إلى بني قريظة، وقال أبو سفيان: ما زلت أسمع قعقعة السلاح حتى جاوزت الروحا.
(القرطبي)
بيان
رائع:
نلخص فيما يلي ما ذكره الإمام ابن كثير
من الكلام الرائع بشأن الآية الكريمة:
(1) لقد أبعد الله أحزاب المشركين عن
المدينة بالعاصفة وجنود الملائكة، فلو لم يكن النبي · رحمةً للعالمين لأهلكتهم
الريح الشديدة كما أهلكت قوم عاد وثمود.
(2) إن كان الكفار والمشركون مُنعوا من
خير الدنيا والآخرة، فقد صار الذل والخسارة من نصيبهم في الآخرة.
(3) لقد كفى الله المؤمنين قتالا، فلم
يضطروا إلى محاربة المشركين ولا إلى مواجهتهم، كما كان يردّد النبي ·:
لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر
عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده. (رواه البخاري)
(2) قال عبد الله بن أوفى لقد دعا رسول
الله · يوم الأحزاب بما يأتي:
اللهم منزّل الكتاب، سريع الحساب، اهزم
الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم. (رواه البخاري ومسلم)
(الواجب على المسلمين الاهتمام بهذا
الدعاء خاصة إذا كان العدو قد قام بحصارهم).
(5) {وكفى الله المؤمنين القتال} فيه
إشارة إلى نهاية الحرب مع قريش، وأنهم لا يتجرأون على مهاجمة المسلمين، بل العكس
هو الصحيح، إذ المسلمون يهاجمونهم. (تفسير ابن كثير)
فائدة:
لقد ذكر الإمام أبو حيان معاني عديدة
لقوله تعالى {وكفى الله المؤمنين القتال} كما ذكر شهداء المسلمين الستة يوم
الأحزاب، وقتلى المشركين الأربعة، كما أشار إلى مقتل عمرو بن عبد ودّ، وعلى
الراغبين مراجعته.
من يتثبت
أمام قوة الله :
«لقد عاد جيش الأحزاب غاضبا غائظا، لم
ينل شيئا، لا الفتح ولا المغانم، إلا مقتل عمرو بن عبد ودّ أحد أشهر الأبطال في
العدو، الذي كانوا يعدلونه بألف مقاتل، فقد لقي مصرعه على يد علي بن أبي طالب، ثم
طلب المشركون جثته مقابل عشرة آلاف درهم، فقال النبي ·: اذهبوا بها، فإننا لا نأكل
ثمن الجيفة. {وكفى الله المؤمنين القتال} فلم يحتج المسلمون إلى مباشرة القتال، إذ
أرسل الله عاصفة الريح وجنود الملائكة الذين أثّروا عليهم، فصاروا مذعورين
مضطربين، وهربوا من الساحة، ولا أحد يقدر على الثبات أمام جنود الله الأقوياء».
(العثماني)
المعركة التاريخية التي دارت رحاها
بين المسلمين واليهود الخونة المؤذين المخادعين الأشرار
غزوة بني قريظة
5 ذي القعدة يوم الأربعاء
غزوة بنيي
قريظة
5 ذي قعدة يوم الأربعاء (الزرقاني
2/126)
سورة الأحزاب الآية 26، 27 قصة
غزوة بني قريظة
نظرة استطلاعية على بني قريظة قبل
الخوض في معارف آيات الجهاد 26 و27 من سورة الأحزاب
عاد
النبي · من الخندق بعدما صلى الصبح، فوضع السلاح هو وأصحابه، فلما كانت الظهر أتى جبريل
معتجراً بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج. وعند ابن
سعد أن جبريل أتى بموضع الجنائز (أي المكان الذي أعدّه للصلاة على الجنائز، منفصلا
عن المسجد) (الطبقات لابن سعد 2/53) ومن هنا عرفنا أن الأولى الصلاة على الجنازة
خارج المسجد، وإلا لما أعدّ النبي · مكانا لهذا الغرض) فقال جبريل: أوَ قد وضعت السلاح
يا رسول الله؟ قال: نعم فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا
من طلب القوم إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم
فمزلزل بهم. (البداية والنهاية 4/114 وابن هشام 2/145)
قال
أنس بن مالك رضي الله عنه: كان بين النبي · وبين بني قريظة عهد. فلما أقبل قريش في
عشرة آلاف رجل، نقضت قريظة العهد، وانضمت إلى قريش. ثم لمّا نزلت الهزيمة بقريش
ولاذت بالفرار، دخلت قريظة الحصن، فجاء جبريل ومعه جمع من الملائكة وقال: يا رسول
الله، سر إلى بني قريظة، فقال النبي ·: إن أصحابي لقد أصابهم التعب، فقال: سر يا
رسول الله إليهم، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. ثم سار جبريل إلى قريظة، واكتظت
أزقة بني غنم بالغبار والأتربة.
وقال
حميد بن هلال، عن أنس: كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً من سكة بني غنم، موكب جبريل حين
سار إلى بني قريظة. (صحيح البخاري)
وعَنْ
نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي
بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ
لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا
ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا
مِنْهُمْ. (أخرجه البخاري ومسلم) لأن نوايا الجميع كانت طيبة.
قال
العلامة ابن القيّم رحمه الله تعالى:
أثيب
من عمل بظاهر الحديث، كما أثيب من اجتهد واستنبط، لكن الذين عملوا بظاهر لفظ
الحديث، فما صلوا العصر في الطريق بعدما حان الوقت، حتى فاتهم العصر، فقد حصلوا
على فضيلة واحدة، وهي ثواب امتثال أمر الرسول ·، أما الذين أعملوا الفكر والجهد،
وسعوا إلى الوصول إلى غرض الرسول ·، فقد حصلوا على فضيلتين بفضل استنباطهم
واجتهادهم، الأولى فضيلة امتثال الحكم النبوي الشريف، والثانية فضيلة المحافظة على
الصلاة الوسطى (وهي العصر) المتضمنة لكثير من الفضائل، فقد أمر الله تعالى بالمحافظة
عليها في قوله {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} . ففي الحديث: «بَكِّرُوا بِالصَّلاةِ
فِي يَوْمِ الْغَيْمِ ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلاة الْعَصْر حَبِطَ عَمَلُهُ». لكن
النبي · لم يعنّف على من عمل بظاهر اللفظ عملا بصلاح النية، لكنهم لا يبلغون مبلغ
من اجتهد واستنبط وأعمل الفكر. (فتح الباري لابن حجر 7/316)
ثم
أعطى الراية عليا، ووجّهه إلى بني قريظة، فلمّا وصل إليهم شتم اليهود الرسول · في
كلمات صريحة. (وهي في ذاتها جريمة لا تُغفر) ثم توجّه · بنفسه الشريفة، وحاصرهم،
واستمر الحصار خمسا وعشرين يوما، فقام سيدهم كعب بن أسد خطيبا.
قال ابن
إسحاق: وقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة وابتدرها
الناس فسار على بن أبي طالب حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فقال: يا رسول
الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث قال: لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم
يا رسول الله قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً فلما دنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا
القاسم ما كنت جهولاً.
ثم
إن الحصار لمّا طال عليهم فقد استمر خمسا وعشرين ليلة، قام كعب بن أسد خطيبا في
قومه فقال: يا معشر يهود قد نزل بكم من الامر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا
فخذوا بما شئتم منها.
قالوا
وما هن ؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي
تجدونه في كتابكم، فتأمنون به على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم.
قالوا:
لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره.
قال:
فإذا أبيتم علي هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا
مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك
ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والابناء.
قالوا:
أنقتل هؤلاء المساكين ؟ فما خير العيش بعدهم ؟ قال: فإن أبيتم علي هذه فالليلة ليلة
السبت، وانه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد
وأصحابه غرة.
قالوا
أنفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما يخف
عنك من المسخ، فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما.
ثم
إن أبا لبابة ابن المنذر كانت بينه وبين بني قريظة روابط من الحلف في القديم، فتوقعوا
منه خيرا في وقت المحنة، وأرسلوا إلى رسول الله · أنهم يريدون استشارة أبي لبابة، فقال
أبو لبابة: لاآتيهم حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: قد أذنت لك، فأتاهم أبو لبابة، فبكوا إليه وقالوا: يا أبا لبابة ماذا
ترى، وماذا تأمرنا فإنه لا طاقة لنا بالقتال، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمر
عليه أصابعه، يريهم إنما يراد بهم القتل.
فلما
انصرف أبو لبابة سقط في يده، ورأى انه قد أصابته فتنة عظيمة.
فقال:
والله لا أنظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحدث لله توبة نصوحا يعلمها
الله من نفسي، فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد.
وزعموا
أنه ارتبط قريبا من عشرين ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غاب عليه أبو
لبابة: أما فرغ أبو لبابة من حلفائه، فذكر له ما فعل ؟ فقال: لقد أصابته بعدي فتنة
ولو جاءني لاستغفرت له وإذ قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما يشاء.
قال:
وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله
في قلوبهم الرعب.
قال:
فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبت الأوس فقالوا: يا
رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت وقد
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج
فنزلوا على حكمه فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له فلما كلمته الأوس قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا:
بلى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاك إلى سعد بن معاذ وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده كانت
تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده
من قريب فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على
حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم وكان رجلاً جسيماً جميلاً ثم أقبلوا معه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلى الله
عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال: لقد أتى لسعد أن لا تأخذه
في الله لومة لائم فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى لهم رجال
بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم والمسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم فأما
المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وأما الأنصار
فيقولون قد عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم فقال سعد بن معاذ: عليكم
بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم: وعلى من هاهنا؟ في الناحية
التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
إجلالاً له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل
الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء.
قال ابن
إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن علقمة
بن وقاص الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله
من فوق سبعة أرقعة.
ثم دعا
سعد فقال: اللهم، إن كنت أبقيتَ على نبيك من حرب قريش شيئًا، فأبقني لها. وإن كنت قطعت
الحرب بينه وبينهم، فاقبضني إليك. قال: فانفجر كَلْمُه، وكان قد برئ منه إلا مثل الخُرْص،
ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله ·. فمات فيه.
فلما
انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ، وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة
ما حكم فقال: اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك،
اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها وإن كنت قد قطعت الحرب بينه
وبينهم فاقبضني إليك، فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيمته التي
ضربت عليه في المسجد، قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر
فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي، قالت: وكانوا
كما قال الله تعالى: {رحماء بينهم} وذلك بعدما قُبض روحه. إنا لله وإنا إليه
راجعون
وأخرج
البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
وفي
رواية عند الحاكم في مستدركه: «فأتى جبريل عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فقال له : من هذا الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له عرش الرحمن ؟ « فخرج
النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد فوجده قد مات » (رواه الحاكم، فتح الباري، مناقب
سعد بن معاذ).
وشهد
جنازته سبعون ألف ملك، ما نزلوا قبلها قطّ. (ذكره ابن عائذ، ورواه البزار، وإسناده
جيد، البداية والنهاية 4/128).
فقال
أحد شعراء الأنصار:
وما
اهتزّ عرش الله من موت هالك سمعنا به
إلا لسعد أبي عمرو
(الاستيعاب لابن
عبد البر 2/34 ترجمة سعد بن معاذ)
لم
نسمع باهتزاز عرش الرحمن من موت أحد إلا لسعد أبي عمرو، ولا فاحت من قبر غيره
روائح المسك. والله سبحانه وتعالى أعلم (الروض الأنف 3/193)
ثم استنزلوا،
فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار ابنة الحارث امرأة من بني النَّجار، ثم
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها
خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدوّ
الله حُيَيّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستّ مئة أو سبعمائة، والمكثر منهم
يقول: كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يُذهب بهم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يا كعب، ما ترى ما يُصنع بنا؟ فقال كعب: أفي كلّ
موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وإنه من يُذهب به منكم فما يرجع، هو والله،
القتل، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأُتي بحُييّ
بن أخطب عدو الله، وعليه حلة له فُقَّاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة،
أنملة أنملة؛ لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: أما والله، ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يُخْذَل،
ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، وملحمة
قد كُتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه.
أخرج
الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أن عددهم كان أربعمائة.
ثم قسم
أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان
الرجال وأخرج منها الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم وللراجل
ممن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرسا وكان أول فيء وقع فيه السهمان، ثم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الاشهل بسبايا من
سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا. (الزرقاني 2/13) وفي قصتهم
أنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ
وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}
الأحزاب: 26.
ملحوظة:
وكان
ما حكم سعد بن معاذ مطابقا لما في التوراة، التي كانت بنو قريظة تؤمن بها، فقد جاء
في التوراة، سفر استثناء، الباب العشرون، الآية العاشرة:
«فإذا
أقبلت لمحاربة بلد، فأرسل إليهم للصلح، فإن قبلوا ذلك منك وفتحوا الباب أمامك، فإن
جميع الخلائق بداخل البلد يدفعون الخراج لك، ويخدمونك، وإن رفضوا الصلح، وأرادوا
قتالك، فافرض عليهم حصارا، فإن جعل ربك ذلك البلد في يدك، فاقتل كل رجل فيه بسيفك،
واستولِ على ما فيه من نساء وذراري والماشية وكل ما تجده، ثم كله فإنه حلال لك».
أما
أبو لبابة رضي الله عنه فبقي على تلك الحالة، لا يُطلق إلا للصلاة وقضاء الحوائج
البشرية، لا يأكل ولا يشرب، وكان يقول: أبقى على هذه الحالة حتى أموت أو يقبل الله
توبتي.
ثم إن
الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة،
قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقلت مما تضحك يا رسول الله
أضحك الله سنك؟ قال: تيب على أبي لبابة، فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ فقال بلى
إن شئت، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت يا أبا لبابة أبشر
فقد تاب الله عليك، قال فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله حتى يكون رسول الله
هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا إلى الصبح أطلقه.
شهداء
غزوة بني قريظة:
لم
يقتل في غزوة بني قريظة سوى مسلم واحد، واسمه خلاّد بن سويد رضي الله عنه، فيما
توفي صحابي آخر، واسمه أبو سنان بن محصن بن حرثان رضي الله عنه. (روح المعاني)