{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)}.
ملخص معاني الآية:
الجرائم التي ارتكبها مشركوا مكة كانت
تستدعي إيذان المسلمين بقتالهم يوم الحديبية.
* كانوا يكفرون بالله ورسوله.
* صدّوا المسلمين عن العمرة، وما كانوا
يصدّون أحدا.
* صدّوا المسلمين من سوق الهدي إلى
مجزرة منى.
رغم قائمة الجرائم التي ارتكبها مشركوا
مكة، مُنع المسلمون من قتالهم، لأن بمكة رجال مؤمنون ونساء مسلمات لا يعلمهن
المسلمون، لحقتهم أذى عند نشوب الحرب بين المسلمين والمشركين، وتألّمَ بها
المسلمون واغتمّوا وتضرروا، ولأجله منع الله تعالى القتال، وليُدخل من يشاء في
رحمته. ثم إن رحمته شملت المسلمين، وأسلم كثير من المشركين، ولو لا أصيب المسلمون
المستضعفون بأذى لأنزل بالمشركين عقوبة شديدة يوم الحديبية، بأيدي المسلمين، الذين
يقتلونهم ويأسرونهم.
تفسير موجز وكلام بركة:
«أي بعض المسلمين المستضعفين المقهورين
بمكة المكرمة، لم يكن يعلمهم المسلمون بكل تأكيد، طحنتهم الحرب إن وقعت، لذلك مُنع
المسلمون منها، وإن وقعت الحرب حزن المسلمون وتأسفوا عليها، وتشمت بهم المشركون، قالوا:
انظروا إلى هؤلاء المسلمين، قتلوا مَن هم مِن جماعتهم، ورعاية لهذه الاحتمالات منع
الله الحرب، ليسلم المسلمون المستضعفون من ويلات الحرب، وأنزل الرحمة على أهل
الحديبية على صبرهم وطاعتهم، كما أراد الله أن يُدخل في رحمته كل من قدّر الله له
الإيمان من المشركين.
قال الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى:
«لقد أصر المشركون على المنع، وانتهكوا
حرمات الكعبة في قصة الحديبية برُمتها، أما المسلمون فقد حافظوا على عظمتها
وقداستها، والمشركون منعوا المعتمرين، ولم يأذنوا الهدي يبلغ محله، وهكذا استدعوا
فتح بلادهم فوراً بأيدي المسلمين، لكن بعض المسلمين المستضعفين كانوا قد اختفوا
بين المشركين بمكة، وهناك آخرون كتب الله لهم الإيمان، قد تطحنهم الحرب إن فُتحت
مكة يوم الحديبية، وخلال سنتين من الصلح وفتح مكة آمن من قدّر الله له الإيمان،
وتمكن من الخروج من مكة مَن كان عازما على الخروج منها من المستضعفين، ثم فتح الله
مكة عليهم». (العثماني)
مباحث الآية الكريمة:
لقد أطنب أهل العلم في ألفاظ الآية
الكريمة وتراكيبها ومطالبها، فيما يلي نسرد بعضها:
(1) {الهَدي} الأضاحي التي ساقها النبي
· معه إلى مكة، وهي ستون بعيرا، وكانت العرب تعظمها، وتشعرها بالقلائد، فلم يكن
يتعرض لها أحد، ولا يمنعها من أن تبلغ محلها من منى.
(2) أين يذبح المحصر هديه؟ هذه مسألة
تناولها بعض المفسرين في هذا الموضع.
(3) كم كان عدد المسلمين المستضعفين
بمكة؟ ذكر القرطبي أسماء ثلاثة منهم:
(1) سلمة بن هشام رضي الله عنه.
(2) عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه.
(3) أبو جندل بن سهيل رضي الله عنه.
(وغيرهم)
وكانوا تسعة أشخاص وفق ما رواه ابن
كثير، سبعة رجال وامرأتان، وفي رواية اثنا عشر شخصا، ثلاثة رجال، وتسع نسوة. (رضي
الله تعالى عنهم أجمعين)
(4) بعض مسائل دار الحرب، تناولها صاحب
روح المعاني في كتابه، والقرطبي في تفسيره.
(5) هل يجوز إشعال النار في حصن من حصون
الكفار فيه أسرى مسلمون؟ أو إغراق سفينة فيها أسرى مسلمون؟ أو استهداف جيش
المشركين بالرماية إن كانوا قد تترّسوا بأسرى المسلمين؟ الإمام أبو بكر الجصاص
رحمه الله تناول هذا الموضوع بالتفصيل في أحكام القرآن، كما تناوله القرطبي
والآلوسي رحمهما الله، ففي بداية الأمر رجّح القرطبيُ مذهب مالك رحمه الله، وقال:
نظراً إلى هذه الآيات لا يجوز مهاجمة المشركين هجوما شاملا حفاظا على أرواح
المسلمين، بل يجب السعي إلى فصل المسلمين عنهم. لكنه كتب في الأخير: إن كان ذلك
يؤدّي إلى غلبة المشركين على المسلمين، ويلحقون بهم أضراراً فادحة، جاز مهاجمتهم
هجوما عاما وشاملا، أما عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيجوز مهاجمة
المشركين في الوجوه كلها، ولمعرفة أدلة الحنفية راجعوا: أحكام القرآن للجصاص رحمه
الله.
(6) مكانة الصحابة، وحمايتهم..
وتحت هذه الآية تناول الإمام القرطبي
رحمه الله تعالى مبحث مكانة الصحابة ومنزلتهم ومنقبتهم وفضلهم. وقال القرطبي: إن
قُتل المستضعفون من المسلمين بمكة يوم الحديبية بأيدي الصحابة رُغم عدم استهدافهم
وعدم معرفتهم بهم، لما ترتّب عليه ذنب، لكن الله دبّر لهم الأمر بحيث صانهم من
قتلهم بدون عمد، وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدل على أن الله عصم جماعة الصحابة من
المعرة والمعصية.
«تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة
من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي». (القرطبي)
(7) {ليُدخل الله في رحمته} وفي مصداقه
بصفة عامة ثلاثة أقوال للمفسرين:
(1) منع الله الحرب ليُدخل المؤمنين في
رحمته، وقد تناول صاحب روح المعاني هذا القول بالشرح والبسط.
(2) لو قتلتم المسلمين المستضعفين يوم
الحديبية بدون عمد، لأدخلهم الله في رحمته (لكنكم فوجئتم بالهم والأذى). ذكره
القرطبي رحمه الله
(3) منع الله الحرب ليُدخل في رحمته أي
الإسلام من يشاء، فقد أسلم كثير من أهل مكة في الفترة بين صلح الحديبية وفتح مكة.
ذكر القرطبي هذا القول في تفسيره.
(8) الكفار ينتفعون بتواجد المسلمين بين
أظهرهم، كما سَلِمَ أهل مكة من زحف المسلمين بسبب تواجد بعض المسلمين بين أظهرهم،
ولو لا هؤلاء المستضعفين لأذن الله المبايعين على الجهاد والموت يوم الحديبية
بمهاجمة مكة، فقاموا باستئصالهم من جذورهم بفضل الله وكرمه.
«قال قتادة: في هذه الآية أن الله يدفع
بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة». (البغوي)
وقد توسع المفسرون في هذا الموضوع،
ارجعوا إلى تفسير القرطبي، وروح المعاني وغيرها.
إضافة إلى المباحث الثمانية المذكورة،
فإنهم تناولوا كلمة «معرّة» والوجوه الإعرابية للآية الكريمة بالتفصيل في كتبهم.