بسم الله الرحمن الرحيم
{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر
شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والارض منها أربعة حُرُم. ذلك الدين القيم فلا
تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع
المتقين}.
ملخص معاني الآية:
إن من إحدى جرائم اليهود والنصارى والكفار
والمشركين أنهم يغيّرون أحكام الله تعالى حسب هواهم، كما يبدلون أوقاتها
ومواعيدها، لذلك وجّه الله تعالى إليهم في هذه الآية تعليمات صريحة بأن تعداد
الشهور عند الله اثنا عشر شهرا، فالسنة القمرية تشتمل على اثني عشر شهراً، أربعة
منها محرمة ومعظمة، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، وأن العبرة عند الله
بالسنة والشهور التي فيها أربعة أشهر محرمة، وهي السنة القمرية، ولا عبرة عند الله
بغيرها، وحكم الأشهر الحُرُم أنه يجب فيها الاهتمام بالابتعاد عن المعاصي والمظالم
أكثر من غيرها، ثم أكّد على أننا بعد بيان جرائم اليهود والنصارى والمشركين، نوجّه
المسلمين إلى قتالهم ومطاردتهم كافة كما يقاتلونهم كافة، ولتيقنوا أن نصر الله مع
المتقين، ومن أهم مقتضيات التقوى الاشتغال بالجهاد في وقته المناسب.
ربط الآية:
قال الرازي:
اعلم أن هذا شرح النوع الثالث من قبائح اليهود
والنصارى والمشركين وهو سعيهم في تغيير أحكام الله. (التفسير الكبير). فدل على أن
هذه الآية تشتمل على بيان أسباب القتال.
الجهاد يدوم:
بما ذكرنا من الآيات ثبت أنه لا يمكن المنع من
الجهاد رعايةً لحرمة جماعة كبيرة (مثل اليهود والنصاري) والآن يشير إلى أن الأشهر
الحُرُم لا تمنع الجهاد، بل الجهاد ماض إلى يوم القيامة». (التفسير الفرقان)
مناسبة الآية:
وفي التفسير الحقاني:
ثم أشار إلى أمر من تلك الأمور، وهو الجهاد
والقتال في سبيل الله. (التفسير الحقاني)
نكتة مهمة:
كان المشركون يتلاعبون بما قرّره الله تعالى من
الأشهر، ويقدمون فيها أو يؤخرونها حسب هواهم، قيل: كانوا قد تعلموا هذه الخصلة
السيئة من اليهود والنصارى.
وفي التفسير الماجدي:
«لقد ذكر الإمام الرازي مبحثا مفصلا ومحققا في
هذا الموضع، وقال: لقد تعودت العرب على الأشهر القمرية منذ عهد إبراهيم وإسماعيل
عليهما السلام، فكان موسم الحج يختلف بين فصول السنة المختلفة، فرأوا ذلك يضر
بتجاراتهم، فتعلموا حساب الكبيسة من اليهود والنصارى ليوثروا مصلحتهم الدنيوية على
دينهم، فصاروا يزيدون في شهورهم شهرا بعد كل مدة معينة، حتى حدّدوا الحج وفق
الحساب الشمسي، فكان تدخلا واضحا في مصالح الشريعة. ومن هنا استنبط أهل العلم
مسألة مهمة، وهي أنه يجب الالتزام بالسنة القمرية فيما يتعلق بالمعاملات
والعبادات، ويحرم اتباع السنة الشمسية أو الرومية أو السنة العجمية.
قال أهل العلم: الواجب على المسلمين بحكم هذه
الآية أن يعتبروا في بيوعهم ومدد ديونهم وأحوال زكاتهم وسائر أحكامهم السنة
العربية بالأهلة، ولا يجوز لهم اعتبار السنة العجمية والرومية. (التفسير الكبير)
(التفسير الماجدي)
حرمة الأشهر الأربعة:
هنا تكلم أهل العلم بشأن الابتداء بالقتال في
الأشهر الأربعة الحُرُم، هل يجوز أم لا؟ ذكر ابن كثير قولين بأدلتهما في تفسيره،
فليراجع.
قال الشاه عبد القادر رحمه
الله:
عدة الشهور في أحكام الشرع اثنا عشر شهرا، لا
زيادة فيها ولا نقصان، وفي دين إبراهيم كانت أربعة أشهر محرمة، ذي القعدة وذي
الحجة ومحرم ورجب، مُنع من القتال فيها. والأمن كان يسود بلاد العرب، ليتيسر للناس
أداء مناسك الحج والعمرة، للقاصي والداني، وهذا ليس عند أكثر أهل العلم. وقد دلت
الآية على جواز قتال المشركين في جميع الأيام، والظلم معصية، والظلم فيها أكبر من
غيرها، والأفضل أن أحدا من المشركين إن استعظم حرمتها وامتنع عن قتال المسلمين
فيها، جاز عدم بدء القتال معه. (موضح القرآن)
وعلى كل حال، فهذه مسألة خلافية، وقد سبق قول
الجمهور فيها، لكن بينهما فرقا، وهو أن المشركين إن سبقوا المسلمين بالهجوم، جاز
لهم الدفاع عن أنفسهم، ولا يجوز الامتناع عن القتال احتراما لها، أما اللاهوري
فيرى حرمة القتال في الأشهر الأربعة المذكورة:
بما أن على المسلمين أن يحاربوا العالم كله،
لذلك يحصل جيش محمد على أربعة أشهر لأخذ الراحة من كل سنة، فلا يبتدئون القتال
فيها، إلا إذا هاجمهم الكفار، فيضطرون إليه. (حاشية اللاهوري)
وبناء عليه يحترم مسلموا العالم الأشهر
الأربعة، وليس يعني ذلك أن يقعدوا مكتوفي الأيدي، بل أعداءهم يتحالفون للقضاء عليهم،
فليتحالفوا للقضاء عليهم. (التفسير الفرقان)
والأمر الثاني وجوب الاهتمام بالابتعاد عن كافة
أشكال المعاصي والذنوب في تلك الأشهر أكثر من غيرها، كما في تفسير الجلالين:
«{فلا تظلموا فيهن} أي الأشهر الحُرم {أنفسكم}
بالمعاصي فإنها فيها أعظم وزرا. (الجلالين)
{وقاتلوا المشركين كافة} فمعنى «وقاتلوا
المشركين كافة» لا يتخلف أحد منكم عن قتالهم أو لا تتركوا قتال واحد منهم. (روح
المعاني)
وقال القرطبي: {وقاتلوا} أمر بالقتال {وكآفة}
معناه جميعا، وهو مصدر في موضع الحال، أي محيطين بهم ومجتمعين. (القرطبي)
ثم قال:
وإنما معنى هذه الآية الحض على قتالهم والتحزّب
عليهم وجمع الكلمة. (القرطبي)
ومعنى قوله {كما يقاتلونكم كآفة} فبحسب قتالهم
واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم. (القرطبي)
مناسبة أخرى بين الآيات:
وفي التفسير العثماني:
وارتباط المضمون بما سبق في نظري أن في الركوع
السابق كان الأمر بقتال اليهود والنصارى بعد الأمر بقتال المشركين، وفي أول هذا
الركوع أشار إلى أن اليهود والنصارى لا يختلفان عن المشركين في المعتقدات، يقولون
عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وهذا كما يقول المشركون: الملائكة بنات الله، فعقيدة
بنوّة المسيح انتقل إلى النصارى من الوثنيين، الذين يصفون الأصنام آلهة، وقد قالوا
بألوهية المسيح وروح القدس، يدعون أن لديهم كتبا سماوية، ثم جعلوا ما يقول الأحبار
والرهبان بمنزلة الشريعة، أي إن حرّم الأحبار والرهبان الحلال بعد أخذ الرشوة قبلوه،
وإن أحلوا الحرام بالرشوة وافقواهم، وهذا ما يطابق المشركين الذين يحلون ما أحل
لهم زعماءهم، ويحرّمون ما حرّموا عليهم، وينسبون ذلك إلى الله، وقد سبقت التفاصيل
في سورة الأنعام.
وهنا نشير إلى مثال له. فالعرب منذ القِدم
كانوا يعتبرون أربعة أشهر من السنة محرّمة لا يقاتلون فيها، فكانوا يسافرون
للتجارة والحج والعمرة بكل حرية، لم يكن أحد يتعرض لقاتل والده فيها، قال بعض أهل
العلم: تقررت حرمة تلك الأشهر الأربعة في الملة الإبراهيمية، لما تعدى العرب حدود
الهمجية والجهالة قبل الإسلام، بعض القبائل منها لم تكن تراع شرائع سماوية أو
أرضية في إرواء نزعتها القتالية والثأر من العدو، حتى ابتدعوا «النسي»، وهو من أحد
العناصر التي زادت في كفر العرب وضلالهم، أنهم فوّضوا تحليل ما حرّمه الله إلى سيد
كنانة، شأنهم شأن اليهود والنصارى الذين جعلوا ذلك في أيدي الأحبار والرهبان
الطامعين في أموال الناس، وللإشارة إلى أوجه التشابه بينهما ذكر الله تعالى عادة
«النسي» ومهّد الطريق للرد عليه بقوله {إن عدة الشهور عند الله} والمعنى إن تعداد
الأشهر عند الله اثنا عشر شهرا منذ أن خلق السماوات والأرض لإجراء كثير من أحكام
الشرع، وقرّر أربعة منها حرما، ويجب فيها الابتعاد عن المعاصي والظلم أكثر من
غيرها، هذا هو الدين القيّم. (أي دين إبراهيم عليه السلام) (التفسير العثماني)
{واعلموا أن الله مع المتقين}
إن أجمعت الدنيا على تدميركم فمن كمال التقوى
الاستعداد لتدميرهم. (التفسير الفرقان)
�يره، وأشار إليه
بالكناية، إلا في غزوة تبوك، فإنه صرّح فيها عن وجهه، لأنه استقبل سفرا طويلا،
وعدواً كثيرا، لذلك صرّح باسم الجهة التي يريدها ليتأهب الناس أهبة الغزو. هذا كما
ذكره كعب بن مالك فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة والبخاري وابن سعد، بزيادة يسيرة،
وهي أن النبي · طلب المشاركة في الغزو من قبائل العرب القاطنة بالقرب من المدينة،
كما أرسل إلى أهل مكة، فكثر الناس وزاد عددهم.
فائدة:
التورية «تدبير عسكري
حربي» مهم جدا، وليس فيها شيء من الكذب، أما عن وجه إيراد الحديث هنا فللتعريف
بأهمية الجهاد، فلو عرفوا كيف استعد النبي ·، وأدركوا مدى اهتمام الرسول ·
بالتدابير العسكرية، وأنه كان قائدا عسكرياً فذًّا، متضلعاً بفنون الحرب. فينبغي
لأمته أن يتحلوا بتلك الصفات، ويولوا الجهاد وما يتعلق به اهتماما خاصا. (والله
أعلم بالصواب)