‏إظهار الرسائل ذات التسميات سورة التوبة مدنية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سورة التوبة مدنية. إظهار كافة الرسائل
3:15 ص

غزوة تبوك

غزوة تبوك

آخر غزوة غزاها الرسول · وقادها بنفسه، بيّنها من الآية 38 وما بعدها من سورة التوبة، وقبل قراءتها لاحظوا قصتها الملخصة، ليتيسر فهم تفاسيرها، قصة غزوة تبوك طويلة، نستعرض فيما يلي ملخصها.


غزوة تبوك

يوم الخميس رجب سنة 9 هـ

روى الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن نصارى العرب كتبوا إلى هرقل، يخبرونه بوفاة رسول الله ·، وبهلاك الناس جدبا وجوعا، وأن الفرصة سانحة لمهاجمة العرب، فأمر بالتجهيز، وخرج بجيش قوامه أربعون ألفاً لقتال رسول الله ·. (مجمع الزوائد 2/191)
كان الأنباط من أهل الشام يقدمون إلى المدينة لبيع الزيت، فأبلغوا أن هرقل عظيم الروم قد خرج بجيش عظيم لمحاربة المسلمين، قد وصلت مقدمتها إلى البلقاء، ودفع هرقل مسبقاً إلى الجنود أرزاقهم لسنة كاملة.
فأمر النبي · بالاستعداد للخروج لمواجهة العدو عند حدوده تبوك، كان السفر طويلا، والجو حاراً، والجدب عاما، إلى جانب غلاء الأسعار وعموم الفقر والإمكانيات المادية الضعيفة، وما إن أمر بالخروج في هذه الظروف الصعبة إلا وقد اُصيب المنافقون الذين يدّعون الإسلام بالهلع والذُعر، وتخوّفوا من عدم مقدرتهم على تغطية نفاقهم، حتى بادروا بقولهم : {لا تنفروا في الحر} ليتمكنوا من التخلف، وليغووا آخرين.
إلى أن قال قائلهم: لقد علم الناس أني مغرم بالنساء، وإنى أخشى إن خرجتُ أن اُفتتن بنساء بني الأصفر. (ابن سيد الناس، عيون الأثر 2/215 ابن هشام، سيرة النبي 4/170).
أماالمخلصون من المؤمنين فاستعدوا للقتال سمعا وطاعة، فأول من جاء منهم أبو بكر، جاء بجميع ما كان يمتلكه، ووضعه بين يدي رسول الله ·، وكان أربعة آلاف درهم، (رياض النضرة). فقال النبي ·: هل خلّفت لأهلك شيئا؟ فقال: الله ورسوله. فجاء عمر وقدّم نصف ما كان يمتلكه، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وقدّم مائتي أوقية فضة، وجاء عاصم بن عدي وقدّم سبعين وسقا من تمر. (الزرقاني، شرح المواهب 3/64).
ثم جاء عثمان مع ثلاثمائة بعير، عليها أوكارها وألف دينار، وقدّمها إلى رسول الله ·، ففرح النبي · كثيرا، وكان يقلبها بيده ويقول: لن يضر عثمان بعد اليوم عمل، اللهم إني رضيت عن عثمان، فارض عنه. (الزرقاني، ابن حجر، فتح الباري 7/44)
وقد ساهم أغلب المسلمين بما استطاعوا، لكن لم يكن ما يكفي من الزاد والراحلة لكثير من الناس الذين أرادوا الخروج مع النبي ·، وجاء بعض المسلمين، وقالوا: ليس لدينا شيء، فأعطنا يا رسول الله من الزاد والراحلة ما نتقوى على الخروج معك، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه. فعادوا يبكون، فنزل قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلتَ لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنا ألاَّ يجدوا ما ينفقون} (التوبة 92).
وعاد عبد الله بن مغفل، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب باكيا من عند رسول الله ·، فلقيهما يامين بن عمرو النضري في الطريق، فقال لهما: لمَ تبكيان؟ فقالا: لا يجد رسول الله · ما يحملنا عليه، وليس لدينا من الزاد والراحلة ما تبلغنا الغزو، فأشفق عليهما يامين بن عمرو النضري، وابتاع لهما بعيرا وزاداً. (الزرقاني، 7/66)
ولمّا أرادوا الخروج، أمّر محمد بن مسلمة الأنصاري على المدينة، وخلّف عليا بين الأهل والعيال لحمايتهم وتفقد أحوالهم، فقال علي: يا رسول الله.. أتخلّفني بين النساء والأطفال؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي. (البخاري، الجامع الصحيح، جص 526، مناقب علي، كتاب المناقب)
وباختصار، خرج النبي · من المدينة مع جيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل، وعشرة آلاف فرس. (ابن سيد الناس، عيون الأثر، 2/216، الزرقاني شرح المواهب 3/73)

المرور على ديار ثمود:

ومرّ في الطريق على ديار قوم ثمود، الذين عُذّبوا واُهلكوا، فلما بلغها جعل على وجهه ثوبا، وأسرع ناقته، وأمر أن لا يدخل أحد في ديارهم، ولا يشرب من مائها ولا يتوضئوا به، فمرّ منها خافضا رأسه باكيا. ومن أخذ الماء منها وعجن به العجين، أمر بإراقته، وإطعام البعير العجين. (البخاري، الجامع الصحيح، 1/478، أخاهم صالحا، قوله تعالى: كذب أصحاب الحجر المرسلين، كتاب الأنبياء، ابن حجر، فتح الباري، 6/268، الزرقاني بالمرجع المذكور)
المساجد الثلاثة في الأرض، المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي الشريف من الأماكن العامرة بالطاعات والعبادات، وشدّ الرحال إليها، والإقامة فيها، من القربات والطاعات، الموجبة للخير والبركة ونزول الرحمة. أما الدخول في الأماكن التي كانت مراكز لمعصية الله والكفر به، وأنزل الله عليها عذابه، من الأمور الخطيرة. فكما أن حكم من دخل حرم الله تعالى أنه {ومن دخله كان آمنا} كذلك حكم من دخل أماكن العذاب يُخشى عليه العذاب، أما الكعبة البيت الحرام فلاشك أنها مركز الخير والبركات والأنوار والتجليات، سواء طاف بها أحد أو لم يطف، تبتعد الظلمات والأكدار عن القلوب بالنظر إليها، هواءها شفاء للأمراض النفسية والروحية، وليس من المستبعد أن تكون أجواء موقع العذاب مسمومة في نظر الأطباء الروحيين، وتضر بالروح والقلب الأجرام الملطخة، لذلك منع النبي · من استعمال مياه ديار ثمود، وأمرهم أن لا يأخذوا الماء إلا من البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح، لابتعادها عن المعصية والغضب، شأنه شأن ماء زمزم، لبركته وشفاءه للأمراض الظاهرة والباطنة، لذلك أمر بالإكثار من شرب ماءه. أما الأشقياء الذين عصوا الله ورسوله فغضب الله عليهم وعذبهم وأهلكهم فأولئك كالأنعام بل هم أضل، كما قال تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} (الأعراف 179) لذلك أمر أن يُطعموا العجين الذي عجنوه بماء ديار ثمود البعير، لأنه يناسب طبيعة الماشية، ولا يناسب الطبيعة البشرية. فباختصار.. لمّا مرّ النبي · من هذه المنطقة التي نزل عليها العذاب خشي من أن يُصاب المسلمون بسموم العذاب، فوصف علاجا له، وأمر بالمرور منها في حالة البكاء خاضعي رؤوسهم، مع التضرع والتخشّع، وهما بمثابة الترياق للوقاية من الأجواء المسمومة، لأنه لا بأس بالمرور من الحي المطعون بعد التطعيم ضد الطاعون أو إعطاء حقنة ضده.
فاعلموا إخواني وأصدقائي.. إن الندم على المعاصي والبكاء والتوبة من أقوى التطعيمات التي تقضي على كافة أنواع الفساد والسموم عند الله. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. قال تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}. {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم}.
وبعدما وصل النبي · إلى حِجر أمرهم أن لا يخرجوا إلا في جماعة، فخرج شخص منفردا، فشعر بالاختناق، فرقاه النبي · حتى شُفي، وخرج آخر فحمتله الرياح إلى جبال طي، فلم يبلغ المدينة إلا بعد مدة، رواهما البيهقي وابن إسحاق. أما حديث مسلم فيشير إلى أن القصة وقعت في تبوك، وللجمع بينهما نقول: لا يستبعد أن تكون قصتان، أو أنها من وهم الراوي في رواية البيهقي وابن إسحاق. والله أعلم
ثم ساروا منها حتى نزلوا بموضع، فما وجدوا الماء، فأنزل الله تعالى الماء بعدما دعا النبي · وسقاهم، ثم ساروا ففقدوا ناقته، فقال منافق: تُخبرنا عن أخبار السماء ولا تخبرنا عن ناقتك؟ فقال النبي: والله لا أدري شيئا إلا ما يُنزّل عليّ، وقد أوحى أنها الآن في الوادي الفلاني، وأن زمامها معلق بشجر، فهي الآن متوقفة عنده، فذهب المسلمون وجاءوا بها. (رواه البيهقي، وأبو نعيم، والزرقاني، شرح المواهب 3/73).
وقبل الوصول إلى تبوك قال النبي · لهم: إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين   تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان فتكون مثل الشراك تبض بشيء من ماء قال فسألهما رسول الله  صلى الله عليه وسلم  هل مسستما من مائها شيئا قالا نعم فسبهما النبي  صلى الله عليه وسلم  وقال لهما ما شاء الله أن يقول قال ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء قال وغسل رسول الله  صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر أو قال غزير شك أبو علي أيهما قال حتى استسقى الناس ثم قال يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جنانا. (رواه مسلم) وفي رواية ابن إسحاق أن الماء لا يزال يفور منه، يسمع صوته من بعيد.
فلما بلغ النبي · تبوك، أقام بها عشرين يوما، فلم يخرج أحد للقاءه، لكن خروجه لم يذهب هدرا، فقد اُرعب العدو، واستسلمت القبائل المجاورة، وحضر إليه حكام جربة وأذرح وأيلة، وصالحوه على الجزية، فكتب لهم كتاب العهد، وأعطاهم إياه. (السيوطي، الخصائص الكبرى، 1/273).
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد من تبوك إلى   أكيدر  دومة آذانه من كندة نصراني كان عليها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد إنك ستجده يصيد البقر فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر في ليلة مقمرة وهو على سطح له فبانت بقر الوحش تحك قرونها بباب القصر فقالت له امرأته هل رأيت مثل هذا قط؟ قال لا والله فنزل فأمر بفرسه فأسرج له فركب وركب معه نفرٌ من أهل بيته فيهم أخٌ له يقال له حسان وخرجوا معهم فتلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته وقتلوا أخاه وعليه قباء ديباج مخوصٌ بالذهب وهو الذي قال فيه رسول لله صلى الله عليه وسلم لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منه فحقن رسول الله صلى الله عليه وسلم دم أكيدر بن عبد الملك وصالحه على الجزية. (ابن سيد الناس، عيون الأثر، 2/22، الزرقاني، شرح المواهب 3/77).

مسجد الضرار:

وبعد عشرين يوما قفل النبي · عائدا إلي المدينة المنورة حتى بلغ ذي آوان، موضع على بعد ساعة من المدينة، فبعث مالك بن دخشم ومعن بن عدي لهدم مسجد الضرار وإحراقه، هذا المسجد بناه المنافقون ليتشاوروا فيه خلاف رسول الله ·، وكانوا قد جاءوا إلى النبي · لمّا كان متوجها إلى تبوك، وقالوا: لقد بنينا مسجدا للمرضى والمعاقين، فصل فيه صلاة ليقبله الله ويبارك فيه، فقال: لا حتى أرجع من تبوك، فلما رجع أمر الرجلين بإحراقه، وفيه نزل قوله تعالى: {والذين اتخذوا مسجدا ضراراً وكفراً وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفُنّ إن أردنا إلا الحسنى، واللهُ يشهد إنهم لكاذبون، لا تقم فيه أبداً، لمسجد اُسّس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين}. (التوبة 107-108)
وفي رواية ابن هشام أن النبي · أمر بإحراق دار سويلم اليهودي الذي كان يجتمع فيه المنافقون للتشاور ضد النبي ·، فتوجه طلحة إليها مع رجال، ثم أحرقها. فلما بلغ النبي · المدينة استقبله المشتاقون إلى جمال النبوة وقمرها وشمسها، حتى خرجت النسوة المتحجبات من حرمهن، تردد البنات والأطفال:
               طلــــع البدر علينا    من ثنيات الــوداع
                وجب الشكر علينا    ما دعــــــا لله داع
                أيها المبعوث فينـا    جئت بالأمر المطاع
 فلما بدت له منازل المدينة، قال: هذه طابة، ثم لمّا بدا له اُحد قال: هذا جبل يحبنا ونحبه.
ثم دخل المدينة في آخر شعبان أو بداية رمضان، وابتدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس يستقبل الناس، ثم توجه إلى داره ليستريح. (الزرقاني، شرح المواهب 3/71).
وكانت هذه آخر غزوة غزاها النبي · بنفسه.

المتخلفون عن غزوة تبوك:

لمّا توجّه النبي · إلى تبوك، خرج معه المؤمنون الصادقون، وتخلف عنه نفر من المنافقين، وبعض الصادقين من المؤمنين تخلفوا لعذر أو حَرّ، حسب المقتضيات البشرية.
أما أبو ذر الغفاري رضي الله عنه فكان له بعير هزيل، فظن أنه إن علفه قوي، فخرج عليه، فصبر أياما، لكنه لم يتقوى، فأخذ متاعه على ظهره، وخرج وحيدا يمشي على قدميه، حتى بلغ تبوك. فلما رآه النبي · قال: رحم الله أبا ذر، يأتي وحيدا، ويموت وحيدا، ويُحشر وحيدا، فكان كما قال. مات بربذة وحيدا، لم يكن عنده أحد يكفّنه ويجهّزه، وكان عبد الله بن مسعود عائداً من الكوفة، فكفّنه وصلّى عليه ودفنه. (الزرقاني، المرجع المذكور)
وفي المعجم للطبراني عن أبي خيثمة أن النبي · توجه إلى تبوك، وبقيت بالمدينة، وكان الحر شديداً، ويوما رشّ أهل بيتي الماء على العريش، ووضعوا الطعام والماء البارد بين يدي، فلما رأيته خطر بقلبي أنه ظلم، نبي الله · في الحر الشديد، وأنا أستظل بالظل ورغد العيش، فنهضت وأخذت بعض التمور، وركبتُ البعير وسرتُ سريعا، حتى بدا لي الجيش، فلما رآني النبي · قال: هذا أبو خيثمة يأتي، ثم جئته وبيّنتُ له القصة، فدعا لي بالخير. (ابن حجر، فتح الباري 8/88، الزرقاني شرح المداهب 3/71)
وكان ممن تخلف عن رسول الله · يوم تبوك من المؤمنين الصادقين : كعب بن مالك، ومراره بن الربيه، وهلال بن أمية.
ففي صحيح البخاري عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: وتجهّز رسول الله · والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي وأنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله · والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم. فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهّز فرجعت ولم أقض شيئا. ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدَّر لي ذلك، فكنتُ إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله · فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً عليه النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء.
وفي مغازي ابن عائذ أن كعب بن مالك رضي الله عنه قال:
فلما قيل إن رسول الله · قد أظلّ قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله · قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله · علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكّل سرائرهم إلى الله، فجئته فلما سلّمت عليه تبسم تبسم المُغضَب ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت بلى أني  والله  لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد اُعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليه فيه أني لأرجو فيه عفو الله.
لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله ·: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. وجاء هلال بن أمية ومرارة بن الربيع العمروي، وقالا مثل ما قال كعب، فقال لهما النبي · مثل ما قال لكعب.
ونهى رسول الله · المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وكنتُ أتفكر في أن النبي · والمسلمون لا يصلون عليّ صلاة الميت إن حضرني الموت في هذه المدة.
فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله : قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته:
يا كعب بن مالك ... أبشر..
قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج.
وآذن رسول الله · بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشرونّا وذهب قبل صاحبيّ وركض إلىّ رجل فرسا وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه. والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما.
وانطلقت إلى رسول الله · فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة يقولون: لتهنئك توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله · جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنّأني. والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمتُ على رسول الله · قال رسول الله · وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك. قال: قلت أمن عندك يا رسول الله أم من الله؟ قال: لا بل من عند الله.
وكان اليوم الذي أسلم فيه كعب من أفضل الأيام، لكن هذا اليوم كان أفضل منه، لأن فيه قُبلت توبته عند الله، وطبع الله على إيمانه وإخلاصه، ونزلت هذه الآيات:
{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسر من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم، إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خُلّقوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (التوبة 117 إلى 119).
فلما جلستُ بين يديه قلتُ: يا رسول الله.. إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله. قال رسول الله ·: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت يا رسول الله .. إن الله إنما نجّاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقا ما بقيت.


2:58 ص

غزوة حنين

غزوة حنين

شوال سنة 8 هـ

تناولت الآيات 25 و26 و27 من سورة التوبة غزوة حنين، وفيما يلي لاحظوا قصتها.

غزوة حنين:

هذه من إحدى المعارك التي قادها النبي · بنفسه، وأنزل الله الملائكة من السماء لنصر المؤمنين، ظهرت فيها كثير من الوقائع والحوادث خلاف العادة بصورة مستغربة، بالتأمّل فيها تحصل القوة في الإيمان، والهمّة في العمل، وهي مليئة بكثير من الدروس والعبر والنصائح للمسلمين.

غزوة حنين

2 شوال سنة 8 هـ (1 فبراير 630م)

حنين موضع بالقرب من مكة والطائف، على بعد عشرة أمال من مكة، كان فتح مكة في رمضان سنة 8 هـ، ولما استسلم المشركون أمام النبي ·، أقلق ذلك هوازن وهي قبيلة معروفة بثراءها ورجالها وأبطالها وحروبها، ومن أحد فروعها بنو ثقيف في الطائف، فجمعت حشودا، وقالت: لقد تقوّى المسلمون بعد فتح مكة، وبعد استيفاء فتحها سيغيرون علينا، فمن المصلحة أن نبادرهم بالهجوم، واحتشدت قوة عظيمة تشتمل على فروعها المنتشرة بين مكة والطائف، ولم يتخلف أحد منهم إلا قليل لا يتجاوزون على مائة رجل، يقودها سيدها مالك بن عوف، وقد أسلم فيما بعد، وظلّ ممن يحملون لواءه، لكنه يومئذ من أكثر من تحمّس لقتال المسلمين، وقد وافقه معظم أفراد قبيلته، وباتوا يجهّزون العدّة، أما فروعها الصغيرة مثل بني كعب وبني كلاب فكانوا يعارضونه، لِما منَحهم الله جانباً من العلم والبصيرة، فقالوا: لو اجتمعت الدنيا في مشرقها ومغربها على محاربة محمد ·، لانتصر عليهم جميعا، لا طاقة لنا بمحاربة القوة الإلهية، أما القبائل الباقية فوافقت مالكاً واستعدت للحرب، وتعهدوا مالكا على الحرب، أما مالك بن عوف فهو من جهته أمر الناس بالخروج مع أهلهم وعيالهم كي لا يقدروا على الفرار يوم الزحف، أما عن عددهم فقد اختلف أهل السير، وقد ترجح لدى حافظ الحديث العلامة ابن حجر رحمه الله تعالى أنهم كانوا ما بين أربع وعشرين إلى ثمان وعشرين ألفاً، وقيل: كانوا أربعة آلاف، ويمكن الجمع بين القولين بأن المقاتلين كانوا أربعة آلاف، وبمجموع النساء والأطفال والشيوخ صاروا أربعا وعشرين ألفا أو ثمان وعشرين ألفا.
وعلى كل حال، لمّا بلغ النبي · عن نواياهم السيئة تجاه المسلمين عزم على الخروج لدحرهم، وأمّر عتاب بن أسيد على مكة، وأمر معاذ بن جبل بتعليمهم أمور الدين، واستعار السلاح والعتاد من قريش، فقال صفوان بن أمية سيد قريش: أغصبا تريدها؟ فقال: بل عارية، نضمن إعادتها، فلمّا سمع ذلك أعار مائة درع، وعرض نوفل بن الحارث ثلاثة آلاف رمح. فتوجه النبي · على رأس أربعة عشر ألفا من المسلمين، كما روى الزهري. منهم اثنا عشر ألفا من المهاجرين والأنصار، الذين خرجوا معه من المدينة لفتح مكة، وألفان ممن كانوا حديثي عهد بالإسلام عند الفتح من مكة وما جاورتها من المناطق، وتُطلق عليهم كلمة الطُلقاء، وأكثر المفسرين يذكرون عدد المسلمين اثني عشر ألفا، خرج النبي · يوم السبت السادس من شوال، ثم قال: ننزل غدا بموضع من خيف بني كنانة الذي تجمّع فيه المشركون، وكتبوا وثيقة مقاطعة المسلمين.
ولمّا خرج هذا الجمع العظيم من المسلمين، رافقه عدد آخر من رجال ونساء مكة كمتفرجين، كانوا يقولون في قلوبهم: إن مُني المسلمون بهزيمة سنحت لنا فرصة للانتقام منهم، وإن انتصروا على عدوهم، فذاك لهم، ولا ضرر لنا فيه.
وممن كانت تختلج في قلبه تلك المشاعر، شيبة بن عثمان، أسلم ثم ذكر قصته، قال: قُتل والدي بيد حمزة، وعمي بيد علي بن أبي طالب، وكان قلبي يلتهب بنار الانتقام، فاغتنمت الفرصة وخرجت مع المسلمين، حتى إذا تمكنتُ منه قتلتُه، فكنتُ أتحيّن الفُرص، حتى تزلزلت أقدام المسلمين في بداية المعركة، وانفضوا من حول النبي ·، فذهبتُ حتى وصلتُ قريبا منه، فوجدت العباس عن يمينه، وأبا سفيان بن حرب عن يساره، يحرسانه، فعزمت على أن أحمل عليه بسيفي من وراءه حتى رآني النبي ·، فناداني فلما وصلت إليه وضع يده على صدري، ودعا أن يُبعد الله الشيطان مني، فوجدت نفسي أنه صار أحب إليّ من عيني وأذني ونفسي، ثم أمرني وقال: اذهب وقاتل المشركين، فصرتُ أضحّى عليه بنفسي وروحي، حتى قاتلتُ المشركين ببسالة، فلما رجع النبي · أتيته، وذكرت له ما كنتُ أجده في قلبي، فذكر لي وقت خروجي من مكة، وأني كنتَ أحوم حوله لأقتله، لكن الله أراد بي الخير، فكان كما أراد.
ومثله حدث مع النضر بن الحارث، كان قد توجّه إلى حنين بتلك النية، لكن الله تعالى ألقى في قلبه حب النبي · وبراءته، حتى صار مجاهداً يقرع صفوف الأعداء.
ومثلهما حدث مع أبي بردة بن نيار رضي الله عنه، لمّا بلغ الأوطاس، وجد النبي · يستريح تحت شجرة، ورجل عنده قاعد، فقال النبي ·: لقد أخذني النوم حتى وجدتُ هذا قد أخذ سيفي وقام على رأسي ثم قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فسقط السيف من يده، فقال أبو بردة: يا رسول الله.. ائذن لي أضرب عنق عدو الله هذا، قد يكون عين العدو، فقال النبي ·: اهدأ يا أبا بردة، فإن الله يمنعني، ما لم يظهر ديني على الأديان كلها، ثم أطلقه ولم يذمه.
ولمّا نزل المسلمون في حنين جاء سهل بن حنظلة إلى رسول الله ·، وقال: إن راكباً جاء من عند العدو، ويقول: لقد خرجت هوازن مع رجالها ونسائها ومالها، فتبسم النبي · ثم قال: لا تقلقوا، فإن ذلك المال يقع بأيدي المسلمين غنيمةً.
ثم أرسل النبي · عبد الله بن الحدرد للجتسس عن أحوال العدو، فذهب وأقام في قومه يومين، فرأى وسمع ما يقول القوم، ورأى سيد قومه مالك بن عوف يقول لقومه: ما قابل محمد أحدا من الأبطال جرّب حربا، إنما قابل قومه قريشا من أهل مكة السُّذّج، فزعم أن لديه قوة، وسوف يعلم. واصطفوا بكرة بحيث وراء كل واحد منكم امرأته وولده وماله، واكسروا جفون أغماد سيوفكم، ثم احملوا عليهم ضربة رجل واحد. وكانوا قد برعوا في فنون الحرب، وأخفوا رماتهم في الشعاب.
إن كان المشركون قد استعدوا للحرب بكل قوتهم، فإن المسلمين في جانب آخر احتشدوا بأكبر أعدادهم للمرة الأولى، وبالعتاد والسلاح الكثير، وكانوا قد شاهدوا في بدر واُحد أن جماعة من المؤمن العُزَّل لا تتجاوز على ثلاثمائة وثلاثة عشرة قد تغلبت على جيش قوامه ألف رجل، واليوم بعدما شاهدوا عددهم وعُدّتهم جرى على لسان بعضهم كما أخرج البزّار والحاكم: «لن نُغلب اليوم من قلة»، وإذا ابتدأت المعركة لاذ العدو بالفرار.
هذا ما لم يكن يُعجب مالك الملك والملكوت، الاعتماد على القوة الظاهرة، لذلك لقّنهم درسا، حيث حملت هوازن على المسلمين ضربة رجل واحد، والرماة واجهوهم بوابل من الرماح، وفرضوا عليهم حصارا، والنهار صار ليلا بسبب الأتربة المتطايرة، فتزلزلت أقدام المسلمين، وهربوا، إلا رسول الله · الذي كان على دابته يتقدم إلى العدو، ولم يثبت معه · إلا مائة، وقيل ثلاثمائة، وقيل أقل من ذلك، وكانوا لا يريدون أن يتقدم رسول الله ·.
ولمّا رأى النبي · ذلك أمر العباس وكان صيّتا، فقال: ناد الذين بايعوا تحت الشجرة، وأين أصحاب سورة البقرة؟ أين الأنصار الذين تعهدوا بالتضحية بالنفوس، فليعودوا، فإن رسول الله · هنا في الميدان.
فلما نادى العباس استجابوا لنداءه، وندموا على هروبهم، وعادوا بشجاعة، وقابلوا العدو ببسالة، فأنزل الله تعالى الملائكة ونصرهم، فلاذ سيدهم مالك بن عوف بالفرار، وخذل أهله وماله، واختبأ في حصن الطائف، ثم هرب آخرون، فقتل سبعون من صناديدهم، وأصيب بعض أطفالهم بجروح بأيدي المسلمين، فنهاهم النبي · عنه، وحصل للمسلمين مغانم كثيرة، منهم ستة آلاف أسرى، أربع وعشرون ألف بعير، أربعون ألف غنم، وأربعة آلاف أواقي فضة.
فالآيات التي نزلت بشأن غزوة حنين تناولت المضمون المذكور، قال: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم، فلم تُغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذّب الذين كفروا وذلك جزآء الكافرين. ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء. والله غفور رحيم}.
وقال في الآية الثانية: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} والمعنى أن أولئك المؤمنين الذين تزلزلت أقدامهم في أول الأمر، أنزل الله سكينته عليهم، فعادوا إلى النبي ·. أما معنى إنزال السكينة على الرسول والمؤمنين الذين ثبتوا معه في الموقف، فهو إراءة الفتح لهم قريبا، وبما أن التسلية كانت بنوعيها للذين هربوا والذين ثبتوا مع النبي ·، لذلك ذكرها بتكرار «على» {على رسوله وعلى المؤمنين}.
ثم قال: {وأنزل جنودا لم تروها} أي ما رأى عامتكم، وهو لا ينافي رؤية الأفراد والآحاد الذي ورد ذكره في بعض الروايات.
ثم قال: {وعذَّب الذين كفروا. وذلك جزآء الكافرين} والمراد من الجزاء انتصار المؤمنين عليهم وغلبتهم، الذي كان واضحا للعيان، والمعنى أنها كانت عقوبة دنيوية فورية، أما المعاملة الأخروية فقد أشار فيها في الآيات التي تليها، وهي..
{ثم يتوب الله من بعد ذلك من يشاء والله غفور رحيم} فيها إشارة إلى أن أولئك الذين عاقبهم الله بتغليب المسلمين عليهم والفتح والانتصار، فإن منهم من يوفّقه الله تعالى للإيمان فيما بعد، فكان كما وعد.

توزيع غنائم حنين:

وفي شهر ذي القعدة الحرام رجع النبي · من الطائف إلى الجعرانة، وفيها الغنائم مجموعة، ستة آلاف أسرى، أربع وعشرون ألف بعير، أربعون ألف شاة، وأربعة آلاف أواقي فضة. ثم انتظر هوازن لمدة عشرة أيام، لعلهم يأتون إليه ليخلّصوا نساءهم وأطفالهم، لكنهم ما جاءوا، فقسمها بين الغانمين. (ابن حجر، فتح الباري 8/138 ابن سيد الناس، عيون الأثر 2/193).
ثم جاء وفدهم، وفيه تسعة رجال، فأسلموا وبايعوا على يديه، وسألوا إعادة أموالهم وعيالهم إليهم، وكانت حليمة السعدية أمه من الرضاعة منهم، فقام خطيبهم وقال: يا رسول الله.. إن بين الأسرى خالاتك وعماتك وحواضنك، فلو كانت هذه الروابط بيننا وبين ملك لنفعتنا، وأنت أفضل منهم وأحسن، وما نزل علينا غير خافية عليك، فأحسن إلينا، ثم أنشد بالأبيات التالية:
امنن علينا رسول الله في كرم    فإنك المرء نرجوه وندخر
فقال النبي ·: لقد انتظرتكم مدة، لكنكم ما أتيتم، ثم قسّمتها، وإني أخيركم بين أمرين: المال والأسرى، فخذوا أيهما شئتم، فقالوا: لقد خيّرتنا بين المال والنسب، فنختار النسب على المال، ولا نقول لك شيئا في الغنم والبعير.
فقال النبي ·: ما كان من نصيبي ونصيب بني هاشم وبني عبد المطلب من هذه المغانم فهي لكم، أما الذي كان من نصيب بقية المسلمين فقوموا بعد صلاة الظهر، واطلبوا من الناس، وأنا أشفع لكم، فقاموا بعد الصلاة وألقوا خُطباً بليغة، وطالبوا من المسلمين إطلاق أسراهم، ثم قام النبي · خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه خيرا ثم قال: إن إخوانكم هؤلاء من هوازن جاءواكم بعدما أسلموا، وقد أعطيتهم نصيبي ونصيب بني هاشم وبني عبد المطلب، وأرى أن يفعل ذلك بقية المسلمين، فمن أراد أن يفعل ذلك بطيب نفس منه فليفعل، وإلا عوّضته بمال من عندي، فقالوا: لقد رضينا بطيب نفس منا، وهكذا أطلقوا ستة آلاف أسرى في مناسبة واحدة. (ابن حجر، فتح الباري 8/26)
وكانت من بين الأسرى «شيماء» أخته من الرضاعة، لمّا أسرها الناس قالت: أنا أخت نبيكم من الرضاعة، فجاءوا بها إلى النبي ·، فقالت: يا محمد أنا أختك من الرضاعة، والدليل عليها أنك عضضتني يوما، وهذه علامتها، فعرفها النبي ·، فرحب بها، وفرش لها رداءه، وامتلأت عيونه دمعا، ثم قال: إن شئت أقمت عندي معززة مكرمة، وإن شئت رجعت إلى قومك. فقالت: بل أرجع إلى قومي، فأسلمت. فلما أرادت العودة أعطاها النبي · البعير والشياه وثلاثة عبيد وجارية. (ابن حجر، الإصابة (637) 4/344).
أما أشراف قريش الذين دخلوا في الإسلام يوم فتح مكة لا زالوا مذبذبين، ولمّا يترسخ الإيمان في قلوبهم، فهم الذين وصفهم القرآن بمؤلفة القلوب، وقد أعطاهم الرسول · الكثير من الغنائم، بعضهم نال مائة من الإبل، وبعضهم مائتي إبل. (ابن حجر 38، الزرقاني 36).
وباختصار، جميع ما أعطى أعطى أشراف قريش، وما أعطى الأنصار شيئا، حتى قال بعضهم: لقد والله أعطى رسول الله · قريشا وما أعطانا جماعة الأنصار شيئا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، وقال البعض: يطلبنا عند الشدائد، وعند تقسيم الغنائم لا يطلبنا، فبلغ ذلك النبي ·، فطلب الأنصار، فقال: ما هذه القالة التي بلغتني عنكم؟ فقالوا: لم يقل ذلك ذووا الرأي منا، فقال: يا معشر الأنصار، أما كنتم ضُلاّلا فهداكم الله بي، أما كنتم أعداءً فألف الله بين قلوبكم بي، أما كنتم عالة فأغناكم بي، فقالوا: الله ورسوله أبر وأمنّ، ثم قال: إن شئتم قلتم صدقتم فصدقتكم، لقد كذبوك فصدقناك، وخذلوك فآويناك، وكنت عائلا فواسيناك، ثم قال: يا معشر الأنصار أوجدتم عليّ في لعاعة من الدنيا تآلفت بها قلوبهم، وفوّضتكم إلى إسلامكم.
وفي رواية البخاري قال النبي ·: لقد أصابت قريش مصيبة القتل والأسر، (أي مقارنة مع المسلمين أصيبوا في أرواحهم وأموالهم) لذلك أردتُ أن أداوى بعض جروحهم بهذا العطاء، ليستأنسوا بالإسلام، فقد قُتل إخوانهم واُسروا واُوذوا، وقد صانكم الله منها، فأردتُ أن أعطيهم من المال تأليفا لقلوبهم، أما أنتم فأهل إيمان ويقين، وهما من كبرى نِعَم الله التي لا تزول، أما ترضون أن يعود الناس إلى ديارهم بالبعير والشاه، وتعودوا إلى دياركم برسول الله، فوالله الذي نفسي بيده لو لا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وواديا وسلكت الأنصار واديا وشعبا، لسلكتُ شعب الأنصار وواديهم، اللهم ارحم الأنصار، وولد ولدهم.
فما أن انتهى النبي · من كلامه حتى بكوا واخضلوا لحاهم، ثم قالوا: رضينا بهذا القسم والحظ.

الأحكام والمسائل:

في ثنايا القصص المذكورة وردت كثير من الأحكام والتوجيهات والفوائد، وهي المقصود من سرد هذه القصة.
وكان التوجيه الأول في هذه الآيات النهي عن الاغترار بالعدد والعُدة، إن كنتم تنظرون إلى الله تعالى في حالة الضعف من ناحية العدد والعتاد، فكذلك يجب أن تنظروا إليه في حالة القوة والعدد الكثير.
الكلمة التي قالوها يوم حنين بعدما لاحظوا عددهم الكبير وعُدتهم العميمة وهي: «لن نُغلب اليوم من قلة» لم تُعجب الله تلك الكلمة، لذلك زلت أقدامهم في أول الأمر، ولاذوا بالفرار، ثم أنزل الله نصره على المؤمنين.

الحيطة والحذر والعدل في أموال الكفار المهزومين المغلوبين

والتوجيه الثاني الذي وُجّه إليهم خلال هذه القصة أن ما أخذ النبي · من قريش المغلوبين المنهزمين في مكة من الدروع والرماح لقتال هوازن من باب العارية، أرجعها إليهم، وكان بإمكانه أن يأخذها غصبا منهم، لكنه أخذها منهم عارية، ثم أرجعها إليهم.
فهذه القصة علّمت المسلمين درساً كاملا للعدل والإنصاف والرحمة مع الأعداء.
والتوجيه الثالث فيها أن النبي · لمّا كان متوجها إلى حنين فإنه قال لمّا نزل بخيف بني كنانة، سننزل غداً بموضع كان المشركون قد تعاهدوا فيه لمقاطعة المسلمين، وفيه إشارة أن المسلمين إن نصرهم الله تعالى على أعداءهم، وجعل لهم قوة وسلطانا، لا ينسون ما وقع عليهم في الماضي من المحن والبلايا، حتى يقدروا على شكره. ثم إنه · كان يتعرض إلى الهجمات المتتالية من هوازن وطعناتهم وسهامهم، لكنه لم يدع عليهم، إنما دعا لهم بالإيمان، وهذا فيه درس ونصيحة للمسلمين أن جهادهم ليس لمجرد إلحاق الهزيمة بالعدو، بل الغرض منه إرشادهم إلى الإسلام، لذلك لا يتغافل عن هذا الهدف لدقيقة.
والآية الثالثة أشارت إلى أن الكفار المهزومين والمغلوبين يمكن أن يدخلوا في دين الله، فلا يجوز اليأس والقنوط منهم، كما ثبت ذلك بقصة إسلام هوازن.
عند مطالبة وفد هوازن بأهلهم وأولادهم شفع النبي · لهم، فرضي المسلمون على إطلاق الأسرى عن طيب خاطرهم، لكنه · لم يكتف بالقول بشكل عام، حتى سألهم بشكل خاص.
ثبت بهذا أنه لا يجوز أخذ مال أحد إلا بطيب نفس منه، وأن سكوت أحد حياء من الناس، أو إبداء الموافقة بشكل جماعي لا يكفي، ومن هنا قال أهل العلم: لا يجوز الحصول على التبرعات من الناس باستغلال الرعب الشخصي أو الهيبة بين الناس، لأن كثيرا من الناس في مثل هذه الظروف يستحيون، فيتبرعون حياء بدون طيب نفس، ولا يبارك الله في مثل هذا المال.


2:07 ص

{سورة التوبة مدنية، الآية 128، 129}




{بسم الله الرحمن الرحيم}

{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) }.

ملخص معاني الآية:

(1) تناولت سورة التوبة بيان المسائل الصعبة، وفي نهايتها ذكر ما يجعلها (كالجهاد ومقاطعة الكفار والبراءة عنهم) حلوة، ويسهل العمل بها.
(2) هذه الأحكام حملها إليكم محمد رسول الله الذي اتصف بالأوصاف الستة التالية:
(1) هو رسول الله العظيم، تبوأ المنزلة العالية من الكمال، لا يأتي بشيء إلا من عند الله.
(2) هو منكم من بني آدم، ناصح لكم، عارف بطبائعكم وهمومكم وغمومكم.
(3) عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، لا يهمه إلا نفعكم وما يسركم.
(4) حريص على رشدكم وهدايتكم، وسعادتكم في الدنيا والآخرة.
(5) بالمؤمنين رءوف.
(6) بالمؤمنين رحيم.
تأملوا الآن، إن كان الرسول الذي اُرسل إليكم يتحلى بهذه الصفات الحسنة، فكيف يمكنه أن يأتيكم بما يضركم ولا ينفعكم، ومن هنا عرفنا أن ما من حكم أتى به النبي · إلا وكان خيرا ونافعا لكم.
(3) إن رفض هؤلاء الإذعان لما جاء به النبي ·، فإنهم لا يضرون إلا أنفسهم، لأن الله مالك السموات والعرش يكفي نبيه، فإن هم كفروا به فإنهم لا يضرون دينه في شيء، وسوف يتقدم هذا الدين، ويتخلف أولئك الذين كفروا به.

البيان اللاهوري:

يا أيها الناس.. والخطاب عام (يشمل المسلم والكافر والمنافق) لماذا تُعرضون عن تعليمات محمد ·، لم يكن الغرض من إرساله إلا إحاطتكم بالرحمة والبركة، يتألم بآلامكم، حريص عليكم، فأطيعوه تنفعوا أنفسكم. فإن تولوا بعد هذا الإعلان الواضح فقل حسبي الله، عليه توكلت (ثم تنظرون من ينجح) وهو رب العرش العظيم. (حاشية اللاهوري رحمه الله).
وجه ارتباط الآيات:

قال الرازي رحمه الله:

اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله عليه السلام أن يبلغ في هذه السورة إلى الخلق تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها إلا لمن خصه الله تعالى بوجوه التوفيق والكرامة، ختم السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف. (التفسير الكبير)

نكتة عجيبة:

كلما زاد حب الرسول ·، والتعارف عليه، وقوي الارتباط به، تيسر العمل بمجمل تعاليم الدين ومن ضمنها الجهاد. (والله أعلم بالصواب)
مباحث الآيتين:
لقد أكثر أهل العلم من الكلام حول الآيتين الكريمتين، وفيما يلي نذكر ملخص المباحث التي تناولتها أمهات التفاسير:
(1) {من أنفسكم} هل الخطاب للعرب أم لكافة البشرية؟
(2) {من أنفُسِكم} بضم الفاء أم بفتحها؟ إن كان بالفتح فالمعنى أن الرسول من أنفسكم وأعزكم.
(3) {حريص عليكم} حريص عليكم في ماذا؟ فيما يعود بالنفع إليكم في الدنيا والآخرة؟ أم حريص عليكم في أن يزداد عدد أفراد أمته؟
(4) {بالمؤمنين رءوف رحيم} رحمته ورأفته خاصة بالمؤمنين، تكلم المفسرون حوله بالتفصيل مع الأدلة، أي أنه · كان يهتم بمستقبل البشرية بأكملها، إلا أنه كان رءوفا رحيما بأمة الإجابة التي أجابت دعوته.
(5) {فإن تولوا}
أي رفضوا الإيمان؟ رفضوا أحكام هذه السورة؟ أو انصرفوا عن نصر الرسول في الجهاد؟ تحدث عنها المفسرون بالتفصيل.
(6) {حسبي الله} شرحوه بالتفصيل.
(7) {العرش العظيم} لقد أكثروا الكلام على سعة العرش وعظمته، وأحصى الآلوسي الأعداد، وخلص إلى أن أعداد الأشياء المعلومة إن بلغت كذا وكذا فالعرش أكبر منها.
(8) حشد المفسرون الروايات على نسبه · المبارك، وعشيرته وعفافهم.
(9) أوضح عدد من المفسرين رحمته ورأفته · لأمته بالأمثلة.
(10) أشار بعض المفسرين إلى العمل المسنون بسورة التوبة. (سوف نذكره بعد قليل).
وللتوسع على ما ذكرنا يرجى مراجعة تفسير القرطبي والبحر المحيط وابن كثير وروح المعاني والتفسير الكبير وبيان القرآن وأنوار البيان وموضح القرآن وغيرها.

الجهاد رحمة:

«ما من رجل يجد بين جنباته قلبا سليما إلا ويُدرك أن الجهاد مطابق لما جُبلت عليه البشرية، إن تعاليم الجهاد أتت بها شخصية مقدسة ليست بغريبة عليكم، وأنه لم يأت بها بناء على عداءه لكم، بل هو عربي مثلكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم، فمن كان رحيما بكم إلى هذا الحد، كيف يمكنه أن يأتيكم بما يشق عليكم. ومن هنا عرفنا أن حكم الجهاد رحمة، بل فيه حياتكم الجماعية إن تأملتم وتدبرتم، لذلك أمركم به إذ لن تسلموا من سطو غيركم ما لم تقوموا بالجهاد، فالحكم بالجهاد يعود بالنفع إليكم وإلى غيركم. قال الله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} فإن تغافلتم عنه بعدما نزلت عليكم أحكاما واضحة، ولم تُقدموا جماعة فدائية تفدي بالغالي والنفيس، الروح والمال لله تعالى، فاعلموا أن الله يكفي رسوله، ثقته به أقوى، الذي له ملك السماوات والأرض وهو رب العرش العظيم. وسوف يختار نفوسا أقدس منكم للحفاظ على كتابه وكلمته الصادقة، إنه قادر عليه». (تفسير الفرقان)

الجهاد ورأفة النبي  · ورحمته:

لو لم يأمر الله بالجهاد، لنكّل الكافر الظالم بالمسلم، وأجبره على الارتداد.
لو لا الجهاد، لما وعى كثير من الناس الإسلام.
لو لا الجهاد لما قام حكم الإسلام بمكة المكرمة وبجزيرة العرب.
رحمة خاصة بأمة محمد ·، فقد أمر أمته بالجهاد على ما تلقى من ربه حكم القتال.. الذي كان وراء..
دفع الظلم والشدائد عن المسلمين..
نالوا خيرات الدنيا والآخرة.
فُتحت أراضي شاسعة، ودخلت الأمم في دين الله أفواجا.
وبالجهاد نال المسلمون سعادة الآخرة وخلافة الدنيا. (والله أعلم بالصواب)

أسلوب الدعوة إلى الجهاد:

نزلت سورة التوبة والأنفال بشأن الجهاد في سبيل الله، ففيهما جميع ما يحتاجون إليه من أحكام حول الجهاد، والآن يُنهي السورة بألفاظ رائعة، ويقول إنكم إن أردتم تفهيم أحد الجهاد، فما عليكم إلا أن تقوّوا صلته بالرسول ·، إن كان صادقا في حبه للرسول · فإنه لا يواجه صعوبة في فهم الجهاد، لكن السؤال هو: كيف يكون الجهاد؟ ففي الأخير أشار بلفظ {توكل على الله} أن الجهاد لا يكون إلا بالتوكل على الله، تيسر عليكم الجهاد إن كانت ثقتكم الكاملة بمالك العرش العظيم الذي له ملك السماوات والأرض.
سلاح مهم:
إن أكبر سلاح الأنبياء والأمم هو التوكل على الله، به يسهل كثير من العويصات. (أنوار البيان)

عمل:      وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن من قرأ {حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} إلا كفاه من كافة همومه وغمومه. (العثماني)


تم سورة التوبة بفضل الله ورحمته وتوفيقه..
حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، اللهم يا توّاب يا رحيم تب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم صل على حبيبك سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وبارك وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
26 ربيع الثاني 1429 الهجرية
الموافق لـ 3 مايو/ أيار 2008م يوم السبت.





ملحق
إنما الصدقات للفقراء..وفي سبيل الله.. المراد منه : المجاهدون في سبيل الله عند الجمهور
الآية 60 من سورة التوبة ذكرت مصارف الزكاة الثمانية، ومنها: «في سبيل الله» وما المراد منه؟ وللرد عليه نسرد هنا بحثا علميا محققا، اقتبسناه من «جديد فقهي مسائل» المجلد الثاني للشيخ خالد سيف الله الرحماني (الهند).
لقد بيّن القرآن الكريم مصارف الزكاة الثمانية في قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل}. وقد تناول أهل العلم كلمة «في سبيل الله» بالشرح والبسط، وذكروا تحته ثلاثة مباحث: (1) ما المراد من «في سبيل الله»؟ (2) هل التمليك شرط في هذا المصرف؟ (3) وهل يشترط الفقر والحاجة في هذا المصرف؟ لم يختلف السلف حول المبحث الأول إلا قليلا، أما المبحث الثاني والثالث فقد وُجدت فيهما الخلافات منذ عهود الأيمة المجتهدين، وسوف نتناول المباحث الثلاثة بالبحث والبسط.
البعض قال بالتوسع المطلق في المراد من «في سبيل الله» والبعض الآخر قال ببعض التحديد فيه، وقد حدّد الفقهاء والمحدثون نطاق عمله، نستعرض الآن آراء أهل العلم، ثم نتصدى لسرد أدلة المتوسعين، تليها أدلة الجمهور، وقبل التخلص إلى نتيجة نقوم بتقييمها وفحصها.
رأي جمهور الفقهاء
اتفق الأئمة الأربعة على أن المراد من «في سبيل الله» المجاهدون في سبيل الله، وقد نقل الطحطاوي رأي الحنفية بما يلي:
«قوله في سبيل الله هو منقطع الغزاة والحاج» (الطحطاوي 2/472).
وهو ما قاله صاحب «مجمع الأنهر» (1/221)
أما رأي الشافعية فتمثلها عبارة السيوطي التالية:
«القائمين بالجهاد لمن لا فيء لهم ولو أغنياء» (الجلالين 161)
أما رأي المالكية فقد قال عنه القرطبي:
«في سبيل الله وهم الغزاة» (الجامع لأحكام القرآن 8/185).
وكذلك عند الحنابلة أول مصداق «في سبيل الله» هم المجاهدون.
«أما في سبيل الله فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان عند الإمام أحمد» (تفسير ابن كثير 2/380)
إلى أن رُوي عن مالك أنه قال:
«سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو من جملة سبل الله» (أحكام القرآن لابن العربي 2/969).
وروى العيني قال:
«وقال السكاكي: منقطع الغزاة وهو المراد من قوله «في سبيل الله» عند أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي ومالك وعند أحمد ومحمد منقطع الحاج» (العيني على الهداية 1/25).
لا نرى توسعا في إطلاق كلمة «في سبيل الله» على معنى أوسع عند الأئمة المجتهدين إلا في موضعين، الأول: يجوز عند المالكية الإنفاق منه على توفير آلة الجهاد وعُدته والاستعدادات الدفاعية الأخرى. (انظر الصاوي على الجلالين 2/154) وسوف يأتي بيانه. وعند الإمام محمد وأحمد في قول له يجوز دفعه لمن عجز عن أداء الحج بعد لزومه عليه، لكن قوله هذا ليس براجح عند الحنفية، بل رُوي في أكثر المتون بصيغة التمريض «قيل». ولم يعتمد عليه النسفي والحصكفي والاسبيجابي وأكثر الفقهاء. (انظر: رد المحتار 3/289) الواقع إن اختلاف أبي يوسف ومحمد بالتوسع والتضييق في تحديد المراد من «في سبيل الله» يبدو سطحيا، إذ الشرط عند الحنفية الفقر سواء كان مجاهدا أم حاجا، والفقر في ذاته يكفي لاستحقاق الزكاة. (البحر الرائق 2/242) كما رُوي عن أحمد قول بأن المراد من «في سبيل الله» الحجاج. قيل: هذا هو رأيه المعروف والأظهر:
«وقال أحمد في أظهر الروايتين: الحج من سبيل الله» (رحمة الأمة 112).
لقد توسّع جمع من الفقهاء المتأخرين في معنى «في سبيل الله» ومن أبرزهم العلامة الكاساني في القرن السادس الهجري الذي قال:
«وفي سبيل الله عبارة عن جميع القُرَب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات» (بدائع الصنائع 2/4).
لكن الكاساني إن كان قد وسّع في معنى «في سبيل الله» من جهة، فإنه ضيّقه بإدخال القيد فيه من جهة أخرى، إذ صرّح بلفظ:
«إذا كان محتاجا».
فإن كان مدار دفع الزكاة إليه هو الفقر، لم يبق من التحديدات إلا ما صرّح بها غيره من الفقهاء، لعل ما قرّره صاحب الفتاوى الظهيرية من إدخال «طلبة العلوم الدينية» ضمن «في سبيل الله» ما كان إلا استناداً إلى ما ذكره الكاساني. (التاتارخانية 2/270) لكن عامة الفقهاء زادوا قيد الفقر لطلبة العلم، لذلك لم يحصل توسع ملموس بما أبداه الفقهاء المذكورون من آراء، حتى اضطر الحصكفي إلى التصريح بأن الاختلاف في التعبير والتحديد لا يظهر إلا في باب الوصية والوقف.
«وثمرة الاختلاف في نحو الأوقاف» (الدر المختار على هامش الرد المحتار 3/289).
والتوسع في معنى «في سبيل الله» يُعدّ حقيقيا عند أولئك الذين لم يقيّدوه بقيد الفقر، ولعل أول من نقل التوسع عن أهل العلم في هذا الباب هو القفّال الشاشي رحمه الله الذي قال:
«أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المسجد، لأن قوله وفي سبيل الله عام في الكل». (مفاتيح الغيب 16/113)
ومثله نقل صاحب تفسير مواهب الرحمن عن بعض الفقهاء بدون تحديد اسم القائل.
وهذا الذي نقله الإمام فخر الدين الرازي، ثم أيده بلفظ غير قوي كما يبدو من لفظه:
«اعلم أن ظاهر اللفظ في قوله وفي سبيل الله لا يوجب القصر على كل الغزاة» (المرجع المذكور).
يا حبذا لو صرّح القفال رحمه الله بأسماء أولئك الذين قالوا بالتوسع اللغوي في هذا المصرف من الزكاة. ولعل ذلك عائد إلى أن مثل هذا القول في عصره يُعدّ من الشذوذ، لذلك طوى عن ذكرهم صفحا، ثم مضت ثلاثمائة سنة ولم يظهر أحد يؤيد هذا الرأي، سوى بعض الإشارات الضعيفة التي قام بها بعض المصنفين أثناء أقوال أهل العلم حول مصارف الزكاة، وفُضّل لأصحابها البقاء وراء الأستار، ثم جاء العلامة المحقق الشهير مرتضى الزبيدي (المتوفى 1205هـ) وكتب السطور التالية في تأييده:
«يمكن أن يريد المجاهدين والإنفاق منها في الجهاد، لأنه يطلق عليه هذا الاسم عرفا، ويمكن أن يريد سبيل الخير كلها المقربة إلى الله». (إتحاف 4/250).
ونظراً إلى ميوله إلى التصوّف فإنه وسّع نطاقه ليشمل المجاهدين مع النفس إلى جانب المجاهدين المناضلين في ساحات القتال، بل لم يهدأ حتى أدخل فيه الحيوانات المتعطشة والأشجار، لاحظوا ما كتبه:
«بل ما تقتضيه المصلحة العامة لكل إنسان بل لكل حيوان حتى الشجرة يراها تموت عطشا فيكون عنده بما يشتري لها ما يستقيها به من مال الزكاة، فيسقيها بذلك، فإن من سبيل الله، وإن أراد المجاهدين فالمجاهدون معلومون بالعرف من هم والمجاهدون أنفسهم أيضاً في سبيل الله، فيعانون بذلك على جهاد أنفسهم». (الإتحاف 4/1250)
بعده نجد الصنعاني رحمه الله تعالى وسّع في هذا المصرف، لكنه أقل مقارنة بما فعله الزبيدي، فقد أدخل في هذا المصرف القضاة والمفتين والمدرسين قياسا على المجاهدين، فيما يلي لاحظوا ما قال:
«ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة من مصالح المسلمين، كالقضاء والإفتاء والتدريس وإن كان غنيا». (سبل السلام 2/634)
في القرن السابع عشر الميلادي زحف الغرب على البلاد الإسلامية بكامل قوتها بعدما حققت ثورة صناعية وفكرية، شمل ميادين الفكر والنظر، مستغلة التفكك العرقي الذي كان يمزق البلاد الإسلامية، ومن جهة أخرى تقطعت أواصر خدام الإسلام مع الحكومات الإسلامية، وتبددت صلات رجال الفكر والعلم بالدولة، فأدّى ذلك إلى حرمانهم من كافة الوسائل والذرائع، وصار الناس يتساءلون: كيف يمكن مواجهة جحافل الكفر والشرك التي تجهزت بأحدث الأجهزة القتالية تتقدم نحو بلاد المسلمين بسيفها وقلمها، واستسلمت كافة الدول الإسلامية لتلك القوات، وقد زاد الطين بلّة لمّا وجد الملاحدة والزنادقة ترحيبا حارا في وسائل إعلامها، أما حماة الإسلام والمدافعون عنه فقد أغلقت أبوابها دونهم، بل أضحى ذلك جريمة يعاقب عليها صاحبها، في مثل هذه الظروف كيف يمكن لهم الحصول على الوسائل لمواجهة الباطل والذود عن عقيدة المسلم؟
الأوضاع المتردية أرشدتهم إلى اختيار المفهوم اللغوي للفظ «في سبيل الله» وتغطية النفقات بأموال الزكاة، إن كان العلماء يعدّون مثل هذا الرأي من الشذوذ في الماضي، وبالتالي أسدلوا على قائليها أستار الخفاء، فإن علماء قرننا هذا الذين يمثلون الإسلام بلسانهم وقلمهم وقلوبهم وقوالبهم والذين يسعون إلى رفع شأنه في ميادين الفكر والعمل، وتحقيق «كلمة الله تعلو ولا تُعلى» على الأرض والواقع، رفعوا صوت التوسّع في هذا المصرف، ومن أبرزهم صاحب المنار العلامة رشيد رضا المصري رحمه الله الذي حشد الأدلة على جوازه، (تفسير المنار 10/5050506) والعلامة سيد سليمان الندوي رحمه الله في (سيرة النبي 5/126) والشيخ أبو الكلام آزاد رحمه الله تعالى (ترجمان القرآن 3/319) ونواب صديق حسن خان (الروضة الندية 1/2060207) ومن علماء ماضينا القريب الشيخ سيد أحمد عروج القادري رحمه الله تعالى (انظر: بعض مسائل العشر والزكاة والربوا) والشيخ أمين أحسن الإصلاحي رحمه الله تعالى في (تدبر القرآن 3/192)... وغيرهم من أهل العلم.
فيما توصل الدكتور يوسف القرضاوي الذي أثرى المكتبة الإسلامية بكتابه القيم (فقه الزكاة) إلى طريق وسط بأنه لاشك أن المراد من «في سبيل الله» المجاهدون، لكن المراد بالجهاد ليس فقط الجهاد بالسيف، بل الجهاد بالقلم واللسان من ضمنه. (فقه الزكاة 2/657058). الظاهر أن القرضاوي توصل إلى هذا الطريق الوسط بعد انتقاد رأي العلامة رشيد رضا الموسّع، لكن العموم الذي أدخله الشيخ يوسف القرضاوي في مفهوم الحديث لا يترك مجالا للشك بأن الرأيين لا يتعارضان معاً، وأن مدلولهما واحد.
أدلة الجمهور
استدل جمهور أهل العلم القائلين بقصر مصرف «في سبيل الله» على «المجاهدين» و «الغزاة» بما يلي:
(1) كلمة «إنما» في اللغة العربية تدل على الحصر، وبتعميم «في سبيل الله» رعايةً للمعنى اللغوي يُفقد الحصر في مصارف الزكاة.
(2) إن تعيين مصارف الزكاة الثمانية يقتضي وجود الاختلاف النوعي بين هذه المصارف، فلو عملنا بالعموم المطلق «في سبيل الله»، لأدى ذلك إلى دخول بقية المصارف السبعة فيه.
(3) دلت الأحاديث على أن منشأ الشارع هو حصر وتقييد المصارف بالثمانية المذكورة، وبإدخال العموم في سبيل الله لا يمكن العمل بالحصر، كما أخرج أبوداود في سننه:
«عن زياد بن حارث الصدائي قال: أتيت رسول الله · فبايعته وذكر حديثا طويلا فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله ·: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزّأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك». (أبو داود 1/230 كتاب الزكاة. وانظر الدر المنثور 2/220)
(4) إن كلمة «في سبيل الله» تمثّل مصطلحا شرعيا، فإذا اُطلقت لم يُقصد بها إلا «المجاهدون في سبيل الله» كما قال مالك رحمه الله:
«سبل الله كثيرة، ولكن لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو في سبيل الله» (أحكام القرآن لابن عربي 2/969).
ومثله من التصريحات نُقلت عن غيره من أهل العلم، وسوف تأتي.
(5) بالتأمل في الموضوع عرفنا أنه لا يوجد أكثر من قولين في مصداق «في سبيل الله» حتى القرن الرابع الهجري، الأول المجاهدون والثاني الحجاج. كأنّ الإجماع قد حصل عليه في عهد الأئمة المجتهدين، والإدلاء بالرأي بعد الإجماع ليس إلا محاولة لخرقه.
(6) لقد ورد ذكر الجهاد قبل آية مصارف الزكاة، وحرّض عليه بلفظ {انفروا خفافا وثقالا} (التوبة : 41) ومن عموم أساليب القرآن أنه لا يُلفت النظر إلى قضية بعد قضية أخرى إلا وترتبط القضيتان فيما بينهما برابطة، فدلّ ذلك على أن المراد ب {في سبيل الله} المجاهدون في سبيل الله. (الأساس في التفسير للشيخ السيد الحوصي 4/2312)
أدلة الموسّعين
(1) كلمة «في سبيل الله» عام باعتبار معناها اللغوي، وعام الكتاب والسنة يبقى على عمومه، إلا إذا كانت قرينة تخالفه. وبعمومه استدل الرازي رحمه الله (التفسير الكبير 16/113 وإتحاف السادة المتقين للزبيدي 4/250).
(2) إن اُريد بسبيل الله المجاهدين، أمكن قياس بقية الناس عليهم، الذين يقومون بأعمال هي من ضمن مصالح المسلمين العامة، مثل القضاة والمفتين والمدرسين وغيره، وإليه أشار الصنعاني (سبل السلام 2/634) وزعم أن الإمام البخاري كان يميل إلى هذا الرأي. فقد بوّب في صحيحه بابا بلفظ «باب رزق الحاكم والعاملين عليها» (صحيح البخاري 2/106)
وعلى كل حال، يمكن إدخال شريحة كبيرة من المجتمع ضمن من يجوز دفع الزكاة إليهم بناءً على أنهم جميعاً يسعون إلى إعلاء كلمة الله تعالى.
(3) لقد أدخل القرآن حرف اللام في بعض مصارف الزكاة، وهي تدل على التمليك، وفيه إشارة إلى دفع الزكاة إليهم ليمتلكوها ثم يتصرفوا فيها بكل حرية دفعاً لحاجاتهم الشخصية، وبعض المصارف اُدخل عليها «في» للإشارة إلى أن المقصود منه ليس أشخاص أو أفراد بأعيانهم، بل الغرض منه إحقاق بعض مقاصد الشرع، وما من وسيلة تساعد في تحقيق مصلحة «الجهاد في سبيل الله» إلا ويمكن الاستفادة منها.
(4) بالتأمّل في مصارف الزكاة نتوصل إلى أنها ترمي إلى تحقيق هدفين: الأول: سدّ احتياج الفقير. والثاني: إعلاء كلمة الله. فالفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين والعاملين من الأول. ومؤلّفة القلوب وفي سبيل الله من الثاني. وبما أن عصرنا هذا يستدعي الجهاد بالقلم أكثر من الجهاد بالسيف لإعلاء كلمة الله، وأن ساحات الصحافة والأدب والتصنيف والتأليف تحولت إلى ميادين المقاومة والمجابهة مع العدو، لذلك لا يمكن تحقيق غاية الشرع المذكورة بدون التوسع في مفهوم «في سبيل الله».
(5) أراد بعض الصحابة الحج من (في سبيل الله) في القرن الأول، كما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن المراد منه الحجاج والمعتمرون. ومثله مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وأخرج البخاري عن أبي لاس أن النبي · أعطاه إبلاً من الصدقة. (انظر: أحكام القرآن للقرطبي 8/185 وصحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) دل على أن مصرف (في سبيل الله) لا ينحصر على المجاهدين.
(6) للفقهاء المتأخرين تصريحات بإدخال طلبة العلوم الشرعية ضمن مصرف (في سبيل الله). وكان الفقهاء المالكية أبدوا شجاعة أكبر بإدخال الأغنياء من طلبة العلوم الشرعية، وعلّلوه بأنهم مجاهدون. كما قال الصاوي رحمه الله:
«مذهب مالك أن طلبة العلم المنهمكين فيه لهم الأخذ من الزكاة، ولو غنيا إذا انقطع حقهم من بيت المال، لأنهم مجاهدون» . (حاشية الصاوي على تفسير الجلالين 2/154)
وهناك تصريحات لفقهاء المالكية بجواز دفع الزكاة إلى الأغنياء من الطلبة، كما روى الحصكفي عن صاحب الواقعات:
«إن طالب العلم يجوز له أخذ الزكاة ولو غنياً إذا فرّغ نفسه لإفادة العلم واستفادته لعجزه عن الكسب» . (الدر المختار على هامش الرد المحتار 3/285 وانظر: مراقي الفلاح 475).
(7) كلمة «إنما» في أول مصارف الصدقات ليست للحصر الحقيقي، بل للحصر الإضافي، كان المنافقون يطمعون في أن تُدفع الزكاة إليهم، كما صرّحت الآية السابقة، لذلك أراد القرآن نفي استحقاقهم، وليس مطلق الحصر والقصر. (انظر: حجة الله البالغة 2/106 مصارف الزكاة).
نظرة خاطفة على أدلة الجمهور
والآن نريد أن نفحص تلك الأدلة التي استدل بها الفريقان. استدل الجمهور على حصر المجاهدين ب (في سبيل الله) أن قبل هذه الآية تناول موضوع الجهاد، لذلك يلزم أن يراد ب (في سبيل الله) الجهاد في هذا الموضع. لا يمكننا التعليق عليه إلا أنه ليس أكثر من مجرد قرينة بعيدة. كان المنافقون يأتون الصلاة ويصومون، وأكثر ما يهربون من الجهاد، فالكلام موجّه إلى المنافقين إثر التحريض على الجهاد، ثم إن المنافقين كانوا قد تعوّدوا على الأكل بدون كَلٍّ وتعب، لذلك جاء التقبيح لنهجهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى حدّد مصارف الصدقات والزكاة. وهكذا تبقى الآية مرتبطة بسياقها وسباقها بدون إعمال القيد والحصر في مفهوم (في سبيل الله). إضافة إلى ذلك فإن الجمهور استدلوا بأمور أخرى هي في غاية القوة والمتانة.
نظرة على أدلة الموسِّعين
(1) أقوى دليل استدل به الفريق الثاني هو عموم لفظ «في سبيل الله» من ناحية اللغة، لكننا لو فرضناه مصطلحا شرعياً وفق وُجهة نظر الجمهور، أفقده قوته وثقله، لأن العبرة في الاصطلاحات الشرعية ليست بالعموم والإطلاق ولا بالمعنى الحقيقي واللغوي.
(2) ليس من الأصح قياس غير المجاهدين عليهم، إذ الزكاة عبادة، والأصل فيها التعبّد، ولا دخل للقياس في الأحكام التعبّدية أصلاً.
(3) إن كلمتي (اللام) و (في) تشيران إلى أن الشارع لاحظ حاجة الفرد في الأولى، وتحقيق المصالح في الثانية، لكن تصريح القرآن يؤكّد على أن المصالح في ذاتها ليست بمقصودة، بل الغرض منها تحقيق المصالح بواسطة الأفراد، تأمّلوا في فك الرقاب وابن السبيل والغارمين، في الجميع كان الغرض تحقيق المصالح بواسطة الأشخاص، لذلك يجب تحقيق مصلحة (في سبيل الله) بواسطة الأشخاص، وليس بالأعمال الخيرية والدينية المحضة، ومن هنا عرفنا أن الذين قالوا بأن المراد من (في سبيل الله) المجاهدين فالعبارة في الأصل عندهم هكذا (في سبيل الغزاة في سبيل الله) وقد أشار الزمخشري رحمه الله إلى فائدة مهمة في التحوّل من (اللام) إلى (في) في الآية الكريمة، لاحظوا النص التالي:
(فإن قلت: لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم من سبق ذكره، لأن (في) للوعاء، فنبّه على أنهم أحقاء، بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مظنة لها ومصباً، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفي فك الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ، ونجمع الغازي الفقير والمنقطع في الحج بين الفقراء أو العبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال، وتكرير (في) في قوله وفي سبيل الله وابن السبيل فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين. (الكشاف 2/59، 158).
وقد أضاف إليه الآلوسي نكتة أخرى، فقال: في المصارف الأربعة الأولى كان الغرض تمليكهم بأموال الزكاة، وفي المصارف الأربعة كان الهدف قضاء حاجاتهم ومصالحهم دون تمليكهم، فكان إدخال اللام أولى بالأربعة الأولى. (روح المعاني 10/124).
(4) بالتأمّل في مصارف الزكاة يظهر أن من أهم أهداف الزكاة دفع حاجة الفقير وإعلاء كلمة الله، ولإعلاء كلمة الله طرق كثيرة غير الجهاد بالسيف، لكن «إعلاء كلمة الله» لا تثمل أكثر من مصلحة وحكمة، والأحكام إنما تُبتنى على العلة دون الحكمة والمصلحة، كعلة العمل في (العاملين) وعلة الغرم والدين في (الغارمين) وكجواز حمل أتعاب الدين بين رجلين مسلمين عند بعض الفقهاء. ومثله الجهاد في سبيل الله. المعنى الاصطلاحي للجهاد هو الجهاد بالسيف، لذلك يُبتنى الحكم عليه.
(5) أما إدخال الحاج ضمن (في سبيل الله) في قول للإمام أحمد كان بناء على أثر مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما. لكن بالتأمل الدقيق في أثر ابن عمر المذكور يتضح أن العموم في (في سبيل الله) أحد مصارف الزكاة ليس بصحيح، نقله القرطبي في تفسيره بالتفصيل. والقصة أن رجلا أوصى بجزء من ماله (في سبيل الله) فجاءت المرأة وسألت ابن عمر عنه، فقال: «فهو كما قال في سبيل الله» لم يشف الجواب غليل صدر المرأة، وكان عبد الرحمن بن أبي نعيم واقفاً، فلفت انتباهه إليه وأعاد، فقال ابن عمر: ما تريد إلا أن أدفعه إلى أولئك العساكر الذين يعثون في الأرض فساداً، وينهبون المارّة؟ فقال عبد الرحمن: فبماذا تأمرها أن تدفع المال من المصارف؟ فقال: آمرها أن تدفعها إلى الصالحين، أي حجاج بيت الله ضيوف الرحمن. (الجامع لأحكام القرآن 8/185)
يظهر بالتأمل أن الأثر لا يتناول مصرف «في سبيل الله» بالبحث، والقصة تدور حول النذر، يسع لأن يراد به الجهاد وأعمال البر. وابن عمر رأى فجور العساكر في عهده، فأشار بدفع المال إلى الحجيج، والنذور في الأصل تستند إلى العرف، والذي يسع للمعنيين. و «في سبيل الله» يمثل مصطلحاً شرعيا بين مصارف الزكاة، لذلك الفرق واضح بينهما. (إرشاد الساري 3/57). قد يشتهر قول مرجوع عنه بين الناس، ويلقى قبولا عاما، وأقرب مثال له قول الإمام الشافعي في الجهر بالآمين والإسرار به، القول المرجوع عنه للإمام الشافعي هو الجهر بالآمين، لكنه هو المعتمد والمعمول عند فقهاء الشافعية. ومثله استدل محمد بمسألة النذر التي حدثت في عهد رسول الله ·. (الإتحاف 4/248) لكن بإدخال قيد الحاجة والفقر كما أسلفناه لا يعدو كونه اختلافا لفظياً.
(6) أما ما يتعلق بطلبة العلم عند الحنفية، فالصحيح والمعتمد عندهم أنهم لا يستحون الزكاة إلا إذا كانوا فقراء، مع أن البعض أجاز للأغنياء منهم، لكنه لم يرتق إلى درجة القول الصحيح والمعتمد لدى الحنفية قط، لأنه يخالف أصلهم، المنقول صراحةً في كافة متون وشروح الفقه الحنفي أن استحقاق الزكاة لا يثبت بدون الفقر والحاجة في المصارف كلها إلا (العاملين). فقد قال الشامي رحمه الله:
«وهذا الفرع مخالف لإطلاقهم الحرمة في الغني ولم يعتمده أحد. والأوجه تقيده بالفقير». (رد المحتار 3/286)
أما ما أجاز المالكية للغني من طلبة العلم بأكل مال الزكاة فلاشك أنهم قائلون بالتوسع في هذا الباب، فقد تفردوا في هذه المسألة وتوسعوا فيها مقارنة ببقية الأئمة.
أساس القضية وأصلها
والأصل في هذه المسألة أن تعبيرات القرآن تعتمد على معانيها اللغوية، وهو مقتضى كونه {بلسان عربي} (الشعراء 195). غير أن هناك العديد من المصطلحات التي استعملها القرآن لمعنى خاص، فالصلاة والصوم والزكاة والحج والطهارة والمعروف والمنكر والدين والشريعة من مصطلحاته الخاصة، إن لم يساعدها السياق والسبق والصلات ومتعلقات الأفعال ومعانيها اللغوية، حُملت على معانيها الاصطلاحية، والسؤال هنا: (في سبيل الله) يُحمل على ماذا؟ الذين قالوا بعمومه حملوه على معناه اللغوي العام. والذين حصروه في «المجاهدين في سبيل الله» حملوه على مصطلح قرآني شرعي.
وهذا هو مستدل الكاساني بحصر المصرف في المجاهدين وفق ما ذهب إليه أبو يوسف رحمه الله تعالى، فقد قال:
«لأن في سبيل الله إذا اُطلق في عرف الشرع يراد به ذلك». (بدائع الصنائع 2/804)
وقال ابن قدامة:
«لأن (في سبيل الله) عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد، فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما يريد به الجهاد إلا اليسير فيجب أن يحمل ما في الآية على ذلك». (المغني 6/470)
وهذا الذي ذكره أصحاب المعاجم الشهيرة في كتبهم، كما نقل العلامة ابن الأثير رحمه الله:
«وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه» (تاج العروس 7/366 و النهاية لابن الأثير 2/156).
وفي لسان العرب:
«وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه» (لسان العرب 11/320).
وقال شارح الهداية:
«سبيل الله عبارة عن جميع القرب لكن عند الإطلاق يصرف إلى الجهاد» (البناية على الهداية 2/1258).
وقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله:
«الطاعات كلها في سبيل الله ولكن عند إطلاق هذا اللفظ المقصود بهم الغزاة عند الناس» (المبسوط 3/10).
كل هذه التصريحات تؤكّد على أن كلمة «في سبيل الله» لا يمكن العدول بها إلى غير الجهاد بدون قرينة، أللهم إلا إذا تم ذلك رعاية لسياق الآية أو لأجل تغيير الصلات، فلذلك لا يغاير ما ذكرنا، مثل الصلاة مصطلح شرعي، وقد يستعمل بالمعنى اللغوي، كما في قوله: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} (التوبة 103) والصلاة بمعنى الدعاء هنا.
الجهاد مصطلح شرعي
وهذا الذي نريد أن نقوله لهؤلاء الذين أرادوا الجهاد من «في سبيل الله» ثم وسّعوا في مصداقه، لاشك أن المعنى اللغوي للجهاد هو السعي المطلق، وبهذا الاعتبار كل سعي لإعلاء دين الله يُعدّ ضمن «الجهاد في سبيل الله» ورعاية للمعنى اللغوي تم إطلاق لفظ الجهاد على المساعي المبذولة بواسطة القلم واللسان لإعلاء كلمة الله. (التوبة 83، العنكبوت 69) لكنها ليست جهادا اصطلاحيا بوجه من الوجوه، كما عرّف النبي · المسلم بقوله:
«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (البخاري 1/6)
وقال عن المؤمن:
«لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» (البخاري 2/889)
وعن المهاجر قال:
«المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (البخاري 1/6).
لاشك أن في هذه الروايات إشارة لطيفة إلى بعض مقتضيات الإسلام والهجرة، ومثلها تلك الروايات التي أطلقت كلمة الجهاد على المساعي المبذولة بواسطة القلم واللسان وكلمة الحق عند سلطان جائر، وقد أصاب ما كتبه الإمام الغزالي رحمه الله تعالى عن «الأسماء الشرعية» أن العدول فيها عن المعنى اللغوي لم يحصل بشكل كامل، لكن الشرع يقوم بالتغيير في مصداقها، وقد تقوم بالتخصيص في عمومها وإطلاقها.
«والمختار عندنا أنه لا سبيل إلى إنكار تصرف الشرع في هذه الأسامي، ولا سبيل إلى دعوى كونها منقولة عن اللغة بالكلية، كما ظنه قوم. ولكن عرف اللغة تصرف في الأسامي من وجهين: أحدهما التخصيص ببعض المسميات كما في الدابة فتصرف الشرع في الحج والصوم والإيمان من هذا الجنس، إذ للشرع في الاستعمال كما للعرب». (المستصفى 1/230، الفصل الرابع في الأسماء الشرعية).
فما من موضع استعمل الشارع فيه مصطلح الجهاد، إلا ويراد به الجهاد بالسيف، باستثناء بعض المواضع التي توجد بها قرينة واضحة تقتضي الكناية والاستعارة، لذلك ليس من الأصلح إرادة العموم في هذا الموضع في معنى الجهاد، حتى إن كثيرا من الفقهاء استعمل لفظ «الغزو في سبيل الله» موضع «الجهاد في سبيل الله»، كما سبق قول الإمام مالك رحمه الله:
«المراد بسبيل الله ههنا الغزو في سبيل الله» (أحكام القرآن لابن العربي 2/969) وقال الزمخشري: «فقراء الغزاة» (الكشاف 1/158) واستخدم القاضي البيضاوي كلمة «القتال».
وقال القرطبي:
«وهم الغزاة وموضع الرباط يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء» (الجامع لأحكام القرآن 8/158)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
«فالأكثر على أنه يختص بالغازي» (فتح الباري 3/232)
كما أن كلمة «الغازي» وردت في لفظ الحديث:
«لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين إلى الغني» (أبوداود 1/231).
أطلقت كلمة الجهاد اللغوي في النصوص الشرعية على «الجهاد بالقلم» و«الجهاد باللسان» و«الجهاد بالنفس»، والذي يبدو لهذا الحقير - والعلم عند الله - أن كلمة الغزو لم تُطلق على مثل هذه المساعي، فالصحيح أن المراد من «في سبيل الله» في الآية المذكورة هو الجهاد الاصطلاحي، دون مطلق المساعي لأجل الدين.
التمليك في هذا المصرف من الزكاة؟
لقد اتفق أغلب الأئمة على أن استخدام أموال الزكاة للأعمال الخيرية وبناء المساجد والمدارس وإصلاح وترميم القطارات، وتكفين الموتى وتجهيزهم وتدفينهم وغيرها من الأعمال لا يجوز. صرّح بذلك فقهاء الحنفية وابن قدامة من الحنابلة. (ارجع إلى: البحر الرائق 2/234، المغني لابن قدامة 2/280 الدر المختار على هامش الرد المحتار 2/62) إلا المالكية الذين الظاهر من مذهبهم أنهم لا يوجبون التمليك لأغراض الجهاد، وأجاز محمد بن عبد الحكيم شراء الدروع والسلاح والأجهزة القتالية المتنوعة بأموال الزكاة. (الجامع لأحكام القرآن 8/186) وأجاز العلامة محمد عليش المالكي الدفع إلى العملاء لأغراض التجسس من مصرف «في سبيل الله» رغم منع أكثر الفقهاء من استخدام أموال مصرف «في سبيل الله» لبناء المنشآت الدفاعية، وإنشاء السدود، وصناعة السفن وغيرها، لكن ابن عبد الحكيم أجازها. (منح الجليل على مختصر الخليل 1/7، 374)
لقد زاد الفقهاء قيد التمليك في أموال الزكاة في ضوء نصوص الكتاب والسنة، وفيما يلي نشير إلى بعض أهم النكات:
(1) بدأ القرآن بيان مصارف الزكاة باللام، واللام للتمليك.
(2) في العديد من المواقع صرّح القرآن بلفظ {وآتوا الزكاة} والإيتاء بمعنى الإعطاء. (انظر: الإيتاء والإعطاء، مفردات القرآن للأصفهاني : 8) ويقتضي ذلك تمليك مال الزكاة، كما قال في مهور النساء : {وآتوا النساء صدقاتهم نحلة} (النساء: 4) ومثله الإيتاء بمعنى التمليك.
(3) قال النبي · في الزكاة:
«تؤخذ من أغنياءهم وترد في فقراءهم» (بخاري: 1/187).
والتقسيم يستلزم التمليك.
فجميع القرآن يشير إلى وجوب التمليك في مصرف «في سبيل الله» وإنفاق هذا المال على الشؤون الدفاعية ومصالحها عن طريق المجاهدين.
أما عن كلمة «في» دون اللام في هذا المصرف فقد أجاب عنه الزمخشري فقال: تدخل «في» في العربية على الظرف، والظرف يحيط بالمظروف ويستوعبه، فالتعبير بالظرف يشير إلى التأكيد البليغ والاهتمام الخاص، وبما أن المصارف الأربعة الأخيرة كانت أكثر أهمية مقارنة بما سبقتها من المصارف الأربعة، لذلك أراد الإشارة إليها بإدخال «في» عليها، خاصة في «في سبيل الله» لم يكتف بالعطف على الغارمين، بل أعاد «في» من جديد. (ملخص من الكشاف 2/59، 158)
اشتراط الفقر في سبيل الله
اتفق المالكية والشافعية والحنابلة على جواز دفع مال الزكاة إلى المجاهد الغني. (شرح المهذب 2/212) زاد الشافعية قيد عدم استلامهم الرواتب بصفة دائمة، بل يجاهدون في سبيل الله بصفة تطوعية. (المنهاج القويم للهيثمي : 155 وفتح المعين 53) واشترط الحنفية للمجاهد أن يكون فقيرا إن كان راغبا في الاستفادة من أموال الزكاة. (الهداية وفتح القدير 2/264) استدل الجمهور بالحديث الذي سبق أن الزكاة تحل لخمسة من الرجال رغم غنائهم، وعدَّ منهم «الغازي في سبيل الله» (أبو داود 1/231) واستدل الحنفية بالحديث الذي حرّم فيه النبي · للغني أن يأخذ من مال الزكاة: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوس» (رواه الترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة) وفي رواية: «لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب». (أبو داود 1/231)
أمر النبي · معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ الزكاة من أغنياءهم، ثم يردها على فقراءهم. (البخاري 1/187) دلّ على أن الفقر من الشروط الأساسية للاستفادة من أموال الزكاة.
وقد سعى الحنفية في الرد على الحديث الذي يصرّح بجواز أخذ مال الزكاة للغني بطرق عدّة، (انظر: مرقاة المفاتيح 2/450، وإتحاف السادة المتقين 4/249، وفتح القدير 2/209) أقواها ما قاله الإمام أبو بكر الجصاص، وملخصه : إن كان رجل غنيا في حياته الحضرية، لديه دار وعقار وخدم وعبيد ودواب ونقود أكثر من مائتي درهم، لكنه لمّا عزم على الخروج للجهاد، وجد نفسه يحتاج إلى غيره للتجهّز للجهاد من آلة القتال ووسائل النقل وزاد السفر، فهذا الذي كان غنيا في داره يجوز دفع مال الزكاة إليه لفقره وحاجته بعد الخروج للجهاد. (أحكام القرآن 4/329)
وأضاف الجمهور: إن كان مدار صرف مال الزكاة الفقر في «في سبيل الله» وبقية المصارف فما فائدة تقسيمها إلى ثمانية؟ إذ كان يكفي ذكر الفقراء والعاملين. (الحنفية يرون جواز دفع مال الزكاة إلى العامل جزاء عمله رغم غناءه) وجوابه في «المساكين» المصرف الثاني من مصارف الزكاة، لا مغايرة بينه وبين «الفقراء». ومن هنا عرفنا أن المغايرة ليست بواجبة بين مصارف الزكاة، والأصل فيها أن دفع «الفقر والحاجة» من أهم مصالح الزكاة، وبما أن بعض الوجوه تحتوي على أوصاف معينة، لذلك أشار إليها الشارع على وجه الخصوص، المسكين يملك شيئا من المال، لكنه لا يقضي حاجته، لذلك أشار إلى أنه لا يشترط لاستحقاق الزكاة أن يكون محروما عن المال والعقار بشكل كامل، فقد يمكن أن يكون المكاتب أو الأسير غنيا باعتبار أصله، لكنه يحتاج إلى مساعدة الآخرين للتخلص من ربق العبودية. صرّح الله تعالى بلفظ «الغارمين» للإشارة إلى أن رجلا قد يملك نصابا من المال، لكنه يحتاج إلى مساعدة الآخرين لسداد ديونه، المسافر قد يكون غنيا باعتبار حضره وبين أهله وداره، لكنه يُبتلى بالفقر في ظروف السفر التي تحيط به، فبالتأمّل يتضح أن الشريعة اشترط الفقر أساسا ومرجعا لصرف الزكاة إلى كافة مصارفها باستثناء العاملين ومؤلفة القلوب، وبما أن الوجوه الثمانية المذكورة تشتمل على وجه خاص من الفقر، أو أن فيها مصلحة دينية إضافة إلى دفع الفقر من الفقير، لذلك أفردها القرآن بالذكر، فإن زاد الحنفية قيد «الفقر» للمجاهدين مثل غيره من مصارف الزكاة، لا يُعدّ ذلك مناهضا للغرض الرباني.
لكن الحنفية لم يتخلصوا إلى الآن من سؤال في الحديث الذي يستدلون به أن النبي · قال: «لا تحل الزكاة لغني ولا لقوي مكتسب» إذ فيه منع دفع الزكاة إلى الغني ومن كان قادرا على الكسب، لكن الحنفية يقولون بجواز أخذ الزكاة للقادر المكتسب إذا كان فقيرا، ويحملون لفظ «لا تحل» على التوبيخ والزجر، فلماذا لا يجوز لغيرهم من الفقهاء أن يحملوا اللفظ المذكور على الزجر والتوبيخ في حق الغني، أو يحدثوا تخصيصاً واستثناءً في عموم هذا الحديث بحديث آخر.
وعلى كل حال، فهذه المسألة لا تزال تسع لكثير من النقاشات والتمحيص والتدقيق.
نتيجة البحث
من خلال ما قمنا من تحليلات وتحقيقات في مباحث مصارف الزكاة توصلنا إلى النتائج التالية:
(1) المراد من «في سبيل الله» المجاهدون في سبيل الله، وعليه انعقد الإجماع تقريبا.
(2) المراد من «المجاهدين» هم الذين جرى الاصطلاح عليهم بالمجاهدين لقتالهم في سبيل الله، دون ما يقوم به العلماء من الجهاد باللسان أو القلم للدعوة  والتبليغ وحماية الإسلام.
(3) يشترط التمليك في «في سبيل الله» عند الأئمة الأربعة، ونُقل عن المالكية بعض التوسّع فيه.
(4) قيد الفقر ملحوظ في «في سبيل الله» عند الحنفية، وخالفهم فيه أكثر الفقهاء، وأما ما يتعلق بوجهات نظر الطرفين (الإمام أبي يوسف ومحمد من الحنفية) فلديهما من الأدلة ما تكفي للبرهنة على ما ذهبوا إليه.
هذا ما عندي والله أعلم بالصواب، وعلمه أتم وأحكم.