آخر غزوة غزاها الرسول · وقادها بنفسه، بيّنها من الآية 38 وما بعدها من سورة التوبة، وقبل قراءتها لاحظوا قصتها الملخصة، ليتيسر فهم تفاسيرها، قصة غزوة تبوك طويلة، نستعرض فيما يلي ملخصها.
غزوة تبوك
يوم الخميس رجب سنة 9 هـ
روى الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن نصارى العرب كتبوا إلى هرقل، يخبرونه بوفاة رسول الله ·، وبهلاك الناس جدبا وجوعا، وأن الفرصة سانحة لمهاجمة العرب، فأمر بالتجهيز، وخرج بجيش قوامه أربعون ألفاً لقتال رسول الله ·. (مجمع الزوائد 2/191)
كان الأنباط من أهل الشام يقدمون إلى المدينة لبيع الزيت، فأبلغوا أن هرقل عظيم الروم قد خرج بجيش عظيم لمحاربة المسلمين، قد وصلت مقدمتها إلى البلقاء، ودفع هرقل مسبقاً إلى الجنود أرزاقهم لسنة كاملة.
فأمر النبي · بالاستعداد للخروج لمواجهة العدو عند حدوده تبوك، كان السفر طويلا، والجو حاراً، والجدب عاما، إلى جانب غلاء الأسعار وعموم الفقر والإمكانيات المادية الضعيفة، وما إن أمر بالخروج في هذه الظروف الصعبة إلا وقد اُصيب المنافقون الذين يدّعون الإسلام بالهلع والذُعر، وتخوّفوا من عدم مقدرتهم على تغطية نفاقهم، حتى بادروا بقولهم : {لا تنفروا في الحر} ليتمكنوا من التخلف، وليغووا آخرين.
إلى أن قال قائلهم: لقد علم الناس أني مغرم بالنساء، وإنى أخشى إن خرجتُ أن اُفتتن بنساء بني الأصفر. (ابن سيد الناس، عيون الأثر 2/215 ابن هشام، سيرة النبي 4/170).
أماالمخلصون من المؤمنين فاستعدوا للقتال سمعا وطاعة، فأول من جاء منهم أبو بكر، جاء بجميع ما كان يمتلكه، ووضعه بين يدي رسول الله ·، وكان أربعة آلاف درهم، (رياض النضرة). فقال النبي ·: هل خلّفت لأهلك شيئا؟ فقال: الله ورسوله. فجاء عمر وقدّم نصف ما كان يمتلكه، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وقدّم مائتي أوقية فضة، وجاء عاصم بن عدي وقدّم سبعين وسقا من تمر. (الزرقاني، شرح المواهب 3/64).
ثم جاء عثمان مع ثلاثمائة بعير، عليها أوكارها وألف دينار، وقدّمها إلى رسول الله ·، ففرح النبي · كثيرا، وكان يقلبها بيده ويقول: لن يضر عثمان بعد اليوم عمل، اللهم إني رضيت عن عثمان، فارض عنه. (الزرقاني، ابن حجر، فتح الباري 7/44)
وقد ساهم أغلب المسلمين بما استطاعوا، لكن لم يكن ما يكفي من الزاد والراحلة لكثير من الناس الذين أرادوا الخروج مع النبي ·، وجاء بعض المسلمين، وقالوا: ليس لدينا شيء، فأعطنا يا رسول الله من الزاد والراحلة ما نتقوى على الخروج معك، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه. فعادوا يبكون، فنزل قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلتَ لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنا ألاَّ يجدوا ما ينفقون} (التوبة 92).
وعاد عبد الله بن مغفل، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب باكيا من عند رسول الله ·، فلقيهما يامين بن عمرو النضري في الطريق، فقال لهما: لمَ تبكيان؟ فقالا: لا يجد رسول الله · ما يحملنا عليه، وليس لدينا من الزاد والراحلة ما تبلغنا الغزو، فأشفق عليهما يامين بن عمرو النضري، وابتاع لهما بعيرا وزاداً. (الزرقاني، 7/66)
ولمّا أرادوا الخروج، أمّر محمد بن مسلمة الأنصاري على المدينة، وخلّف عليا بين الأهل والعيال لحمايتهم وتفقد أحوالهم، فقال علي: يا رسول الله.. أتخلّفني بين النساء والأطفال؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي. (البخاري، الجامع الصحيح، جص 526، مناقب علي، كتاب المناقب)
وباختصار، خرج النبي · من المدينة مع جيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل، وعشرة آلاف فرس. (ابن سيد الناس، عيون الأثر، 2/216، الزرقاني شرح المواهب 3/73)
المرور على ديار ثمود:
ومرّ في الطريق على ديار قوم ثمود، الذين عُذّبوا واُهلكوا، فلما بلغها جعل على وجهه ثوبا، وأسرع ناقته، وأمر أن لا يدخل أحد في ديارهم، ولا يشرب من مائها ولا يتوضئوا به، فمرّ منها خافضا رأسه باكيا. ومن أخذ الماء منها وعجن به العجين، أمر بإراقته، وإطعام البعير العجين. (البخاري، الجامع الصحيح، 1/478، أخاهم صالحا، قوله تعالى: كذب أصحاب الحجر المرسلين، كتاب الأنبياء، ابن حجر، فتح الباري، 6/268، الزرقاني بالمرجع المذكور)
المساجد الثلاثة في الأرض، المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي الشريف من الأماكن العامرة بالطاعات والعبادات، وشدّ الرحال إليها، والإقامة فيها، من القربات والطاعات، الموجبة للخير والبركة ونزول الرحمة. أما الدخول في الأماكن التي كانت مراكز لمعصية الله والكفر به، وأنزل الله عليها عذابه، من الأمور الخطيرة. فكما أن حكم من دخل حرم الله تعالى أنه {ومن دخله كان آمنا} كذلك حكم من دخل أماكن العذاب يُخشى عليه العذاب، أما الكعبة البيت الحرام فلاشك أنها مركز الخير والبركات والأنوار والتجليات، سواء طاف بها أحد أو لم يطف، تبتعد الظلمات والأكدار عن القلوب بالنظر إليها، هواءها شفاء للأمراض النفسية والروحية، وليس من المستبعد أن تكون أجواء موقع العذاب مسمومة في نظر الأطباء الروحيين، وتضر بالروح والقلب الأجرام الملطخة، لذلك منع النبي · من استعمال مياه ديار ثمود، وأمرهم أن لا يأخذوا الماء إلا من البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح، لابتعادها عن المعصية والغضب، شأنه شأن ماء زمزم، لبركته وشفاءه للأمراض الظاهرة والباطنة، لذلك أمر بالإكثار من شرب ماءه. أما الأشقياء الذين عصوا الله ورسوله فغضب الله عليهم وعذبهم وأهلكهم فأولئك كالأنعام بل هم أضل، كما قال تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} (الأعراف 179) لذلك أمر أن يُطعموا العجين الذي عجنوه بماء ديار ثمود البعير، لأنه يناسب طبيعة الماشية، ولا يناسب الطبيعة البشرية. فباختصار.. لمّا مرّ النبي · من هذه المنطقة التي نزل عليها العذاب خشي من أن يُصاب المسلمون بسموم العذاب، فوصف علاجا له، وأمر بالمرور منها في حالة البكاء خاضعي رؤوسهم، مع التضرع والتخشّع، وهما بمثابة الترياق للوقاية من الأجواء المسمومة، لأنه لا بأس بالمرور من الحي المطعون بعد التطعيم ضد الطاعون أو إعطاء حقنة ضده.
فاعلموا إخواني وأصدقائي.. إن الندم على المعاصي والبكاء والتوبة من أقوى التطعيمات التي تقضي على كافة أنواع الفساد والسموم عند الله. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. قال تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}. {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم}.
وبعدما وصل النبي · إلى حِجر أمرهم أن لا يخرجوا إلا في جماعة، فخرج شخص منفردا، فشعر بالاختناق، فرقاه النبي · حتى شُفي، وخرج آخر فحمتله الرياح إلى جبال طي، فلم يبلغ المدينة إلا بعد مدة، رواهما البيهقي وابن إسحاق. أما حديث مسلم فيشير إلى أن القصة وقعت في تبوك، وللجمع بينهما نقول: لا يستبعد أن تكون قصتان، أو أنها من وهم الراوي في رواية البيهقي وابن إسحاق. والله أعلم
ثم ساروا منها حتى نزلوا بموضع، فما وجدوا الماء، فأنزل الله تعالى الماء بعدما دعا النبي · وسقاهم، ثم ساروا ففقدوا ناقته، فقال منافق: تُخبرنا عن أخبار السماء ولا تخبرنا عن ناقتك؟ فقال النبي: والله لا أدري شيئا إلا ما يُنزّل عليّ، وقد أوحى أنها الآن في الوادي الفلاني، وأن زمامها معلق بشجر، فهي الآن متوقفة عنده، فذهب المسلمون وجاءوا بها. (رواه البيهقي، وأبو نعيم، والزرقاني، شرح المواهب 3/73).
وقبل الوصول إلى تبوك قال النبي · لهم: إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان فتكون مثل الشراك تبض بشيء من ماء قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هل مسستما من مائها شيئا قالا نعم فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول قال ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء قال وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر أو قال غزير شك أبو علي أيهما قال حتى استسقى الناس ثم قال يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جنانا. (رواه مسلم) وفي رواية ابن إسحاق أن الماء لا يزال يفور منه، يسمع صوته من بعيد.
فلما بلغ النبي · تبوك، أقام بها عشرين يوما، فلم يخرج أحد للقاءه، لكن خروجه لم يذهب هدرا، فقد اُرعب العدو، واستسلمت القبائل المجاورة، وحضر إليه حكام جربة وأذرح وأيلة، وصالحوه على الجزية، فكتب لهم كتاب العهد، وأعطاهم إياه. (السيوطي، الخصائص الكبرى، 1/273).
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد من تبوك إلى أكيدر دومة آذانه من كندة نصراني كان عليها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد إنك ستجده يصيد البقر فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر في ليلة مقمرة وهو على سطح له فبانت بقر الوحش تحك قرونها بباب القصر فقالت له امرأته هل رأيت مثل هذا قط؟ قال لا والله فنزل فأمر بفرسه فأسرج له فركب وركب معه نفرٌ من أهل بيته فيهم أخٌ له يقال له حسان وخرجوا معهم فتلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته وقتلوا أخاه وعليه قباء ديباج مخوصٌ بالذهب وهو الذي قال فيه رسول لله صلى الله عليه وسلم لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منه فحقن رسول الله صلى الله عليه وسلم دم أكيدر بن عبد الملك وصالحه على الجزية. (ابن سيد الناس، عيون الأثر، 2/22، الزرقاني، شرح المواهب 3/77).
مسجد الضرار:
وبعد عشرين يوما قفل النبي · عائدا إلي المدينة المنورة حتى بلغ ذي آوان، موضع على بعد ساعة من المدينة، فبعث مالك بن دخشم ومعن بن عدي لهدم مسجد الضرار وإحراقه، هذا المسجد بناه المنافقون ليتشاوروا فيه خلاف رسول الله ·، وكانوا قد جاءوا إلى النبي · لمّا كان متوجها إلى تبوك، وقالوا: لقد بنينا مسجدا للمرضى والمعاقين، فصل فيه صلاة ليقبله الله ويبارك فيه، فقال: لا حتى أرجع من تبوك، فلما رجع أمر الرجلين بإحراقه، وفيه نزل قوله تعالى: {والذين اتخذوا مسجدا ضراراً وكفراً وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفُنّ إن أردنا إلا الحسنى، واللهُ يشهد إنهم لكاذبون، لا تقم فيه أبداً، لمسجد اُسّس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين}. (التوبة 107-108)
وفي رواية ابن هشام أن النبي · أمر بإحراق دار سويلم اليهودي الذي كان يجتمع فيه المنافقون للتشاور ضد النبي ·، فتوجه طلحة إليها مع رجال، ثم أحرقها. فلما بلغ النبي · المدينة استقبله المشتاقون إلى جمال النبوة وقمرها وشمسها، حتى خرجت النسوة المتحجبات من حرمهن، تردد البنات والأطفال:
طلــــع البدر علينا من ثنيات الــوداع
وجب الشكر علينا ما دعــــــا لله داع
أيها المبعوث فينـا جئت بالأمر المطاع
فلما بدت له منازل المدينة، قال: هذه طابة، ثم لمّا بدا له اُحد قال: هذا جبل يحبنا ونحبه.
ثم دخل المدينة في آخر شعبان أو بداية رمضان، وابتدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس يستقبل الناس، ثم توجه إلى داره ليستريح. (الزرقاني، شرح المواهب 3/71).
وكانت هذه آخر غزوة غزاها النبي · بنفسه.
المتخلفون عن غزوة تبوك:
لمّا توجّه النبي · إلى تبوك، خرج معه المؤمنون الصادقون، وتخلف عنه نفر من المنافقين، وبعض الصادقين من المؤمنين تخلفوا لعذر أو حَرّ، حسب المقتضيات البشرية.
أما أبو ذر الغفاري رضي الله عنه فكان له بعير هزيل، فظن أنه إن علفه قوي، فخرج عليه، فصبر أياما، لكنه لم يتقوى، فأخذ متاعه على ظهره، وخرج وحيدا يمشي على قدميه، حتى بلغ تبوك. فلما رآه النبي · قال: رحم الله أبا ذر، يأتي وحيدا، ويموت وحيدا، ويُحشر وحيدا، فكان كما قال. مات بربذة وحيدا، لم يكن عنده أحد يكفّنه ويجهّزه، وكان عبد الله بن مسعود عائداً من الكوفة، فكفّنه وصلّى عليه ودفنه. (الزرقاني، المرجع المذكور)
وفي المعجم للطبراني عن أبي خيثمة أن النبي · توجه إلى تبوك، وبقيت بالمدينة، وكان الحر شديداً، ويوما رشّ أهل بيتي الماء على العريش، ووضعوا الطعام والماء البارد بين يدي، فلما رأيته خطر بقلبي أنه ظلم، نبي الله · في الحر الشديد، وأنا أستظل بالظل ورغد العيش، فنهضت وأخذت بعض التمور، وركبتُ البعير وسرتُ سريعا، حتى بدا لي الجيش، فلما رآني النبي · قال: هذا أبو خيثمة يأتي، ثم جئته وبيّنتُ له القصة، فدعا لي بالخير. (ابن حجر، فتح الباري 8/88، الزرقاني شرح المداهب 3/71)
وكان ممن تخلف عن رسول الله · يوم تبوك من المؤمنين الصادقين : كعب بن مالك، ومراره بن الربيه، وهلال بن أمية.
ففي صحيح البخاري عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: وتجهّز رسول الله · والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي وأنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله · والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم. فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهّز فرجعت ولم أقض شيئا. ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدَّر لي ذلك، فكنتُ إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله · فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً عليه النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء.
وفي مغازي ابن عائذ أن كعب بن مالك رضي الله عنه قال:
فلما قيل إن رسول الله · قد أظلّ قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله · قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله · علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكّل سرائرهم إلى الله، فجئته فلما سلّمت عليه تبسم تبسم المُغضَب ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت بلى أني – والله – لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد اُعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليه فيه أني لأرجو فيه عفو الله.
لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله ·: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. وجاء هلال بن أمية ومرارة بن الربيع العمروي، وقالا مثل ما قال كعب، فقال لهما النبي · مثل ما قال لكعب.
ونهى رسول الله · المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وكنتُ أتفكر في أن النبي · والمسلمون لا يصلون عليّ صلاة الميت إن حضرني الموت في هذه المدة.
فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله : قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته:
يا كعب بن مالك ... أبشر..
قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج.
وآذن رسول الله · بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشرونّا وذهب قبل صاحبيّ وركض إلىّ رجل فرسا وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه. والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما.
وانطلقت إلى رسول الله · فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة يقولون: لتهنئك توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله · جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنّأني. والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمتُ على رسول الله · قال رسول الله · وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك. قال: قلت أمن عندك يا رسول الله أم من الله؟ قال: لا بل من عند الله.
وكان اليوم الذي أسلم فيه كعب من أفضل الأيام، لكن هذا اليوم كان أفضل منه، لأن فيه قُبلت توبته عند الله، وطبع الله على إيمانه وإخلاصه، ونزلت هذه الآيات:
{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسر من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم، إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خُلّقوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (التوبة 117 إلى 119).
فلما جلستُ بين يديه قلتُ: يا رسول الله.. إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله. قال رسول الله ·: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت يا رسول الله .. إن الله إنما نجّاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقا ما بقيت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق