غزوة حنين

غزوة حنين

شوال سنة 8 هـ

تناولت الآيات 25 و26 و27 من سورة التوبة غزوة حنين، وفيما يلي لاحظوا قصتها.

غزوة حنين:

هذه من إحدى المعارك التي قادها النبي · بنفسه، وأنزل الله الملائكة من السماء لنصر المؤمنين، ظهرت فيها كثير من الوقائع والحوادث خلاف العادة بصورة مستغربة، بالتأمّل فيها تحصل القوة في الإيمان، والهمّة في العمل، وهي مليئة بكثير من الدروس والعبر والنصائح للمسلمين.

غزوة حنين

2 شوال سنة 8 هـ (1 فبراير 630م)

حنين موضع بالقرب من مكة والطائف، على بعد عشرة أمال من مكة، كان فتح مكة في رمضان سنة 8 هـ، ولما استسلم المشركون أمام النبي ·، أقلق ذلك هوازن وهي قبيلة معروفة بثراءها ورجالها وأبطالها وحروبها، ومن أحد فروعها بنو ثقيف في الطائف، فجمعت حشودا، وقالت: لقد تقوّى المسلمون بعد فتح مكة، وبعد استيفاء فتحها سيغيرون علينا، فمن المصلحة أن نبادرهم بالهجوم، واحتشدت قوة عظيمة تشتمل على فروعها المنتشرة بين مكة والطائف، ولم يتخلف أحد منهم إلا قليل لا يتجاوزون على مائة رجل، يقودها سيدها مالك بن عوف، وقد أسلم فيما بعد، وظلّ ممن يحملون لواءه، لكنه يومئذ من أكثر من تحمّس لقتال المسلمين، وقد وافقه معظم أفراد قبيلته، وباتوا يجهّزون العدّة، أما فروعها الصغيرة مثل بني كعب وبني كلاب فكانوا يعارضونه، لِما منَحهم الله جانباً من العلم والبصيرة، فقالوا: لو اجتمعت الدنيا في مشرقها ومغربها على محاربة محمد ·، لانتصر عليهم جميعا، لا طاقة لنا بمحاربة القوة الإلهية، أما القبائل الباقية فوافقت مالكاً واستعدت للحرب، وتعهدوا مالكا على الحرب، أما مالك بن عوف فهو من جهته أمر الناس بالخروج مع أهلهم وعيالهم كي لا يقدروا على الفرار يوم الزحف، أما عن عددهم فقد اختلف أهل السير، وقد ترجح لدى حافظ الحديث العلامة ابن حجر رحمه الله تعالى أنهم كانوا ما بين أربع وعشرين إلى ثمان وعشرين ألفاً، وقيل: كانوا أربعة آلاف، ويمكن الجمع بين القولين بأن المقاتلين كانوا أربعة آلاف، وبمجموع النساء والأطفال والشيوخ صاروا أربعا وعشرين ألفا أو ثمان وعشرين ألفا.
وعلى كل حال، لمّا بلغ النبي · عن نواياهم السيئة تجاه المسلمين عزم على الخروج لدحرهم، وأمّر عتاب بن أسيد على مكة، وأمر معاذ بن جبل بتعليمهم أمور الدين، واستعار السلاح والعتاد من قريش، فقال صفوان بن أمية سيد قريش: أغصبا تريدها؟ فقال: بل عارية، نضمن إعادتها، فلمّا سمع ذلك أعار مائة درع، وعرض نوفل بن الحارث ثلاثة آلاف رمح. فتوجه النبي · على رأس أربعة عشر ألفا من المسلمين، كما روى الزهري. منهم اثنا عشر ألفا من المهاجرين والأنصار، الذين خرجوا معه من المدينة لفتح مكة، وألفان ممن كانوا حديثي عهد بالإسلام عند الفتح من مكة وما جاورتها من المناطق، وتُطلق عليهم كلمة الطُلقاء، وأكثر المفسرين يذكرون عدد المسلمين اثني عشر ألفا، خرج النبي · يوم السبت السادس من شوال، ثم قال: ننزل غدا بموضع من خيف بني كنانة الذي تجمّع فيه المشركون، وكتبوا وثيقة مقاطعة المسلمين.
ولمّا خرج هذا الجمع العظيم من المسلمين، رافقه عدد آخر من رجال ونساء مكة كمتفرجين، كانوا يقولون في قلوبهم: إن مُني المسلمون بهزيمة سنحت لنا فرصة للانتقام منهم، وإن انتصروا على عدوهم، فذاك لهم، ولا ضرر لنا فيه.
وممن كانت تختلج في قلبه تلك المشاعر، شيبة بن عثمان، أسلم ثم ذكر قصته، قال: قُتل والدي بيد حمزة، وعمي بيد علي بن أبي طالب، وكان قلبي يلتهب بنار الانتقام، فاغتنمت الفرصة وخرجت مع المسلمين، حتى إذا تمكنتُ منه قتلتُه، فكنتُ أتحيّن الفُرص، حتى تزلزلت أقدام المسلمين في بداية المعركة، وانفضوا من حول النبي ·، فذهبتُ حتى وصلتُ قريبا منه، فوجدت العباس عن يمينه، وأبا سفيان بن حرب عن يساره، يحرسانه، فعزمت على أن أحمل عليه بسيفي من وراءه حتى رآني النبي ·، فناداني فلما وصلت إليه وضع يده على صدري، ودعا أن يُبعد الله الشيطان مني، فوجدت نفسي أنه صار أحب إليّ من عيني وأذني ونفسي، ثم أمرني وقال: اذهب وقاتل المشركين، فصرتُ أضحّى عليه بنفسي وروحي، حتى قاتلتُ المشركين ببسالة، فلما رجع النبي · أتيته، وذكرت له ما كنتُ أجده في قلبي، فذكر لي وقت خروجي من مكة، وأني كنتَ أحوم حوله لأقتله، لكن الله أراد بي الخير، فكان كما أراد.
ومثله حدث مع النضر بن الحارث، كان قد توجّه إلى حنين بتلك النية، لكن الله تعالى ألقى في قلبه حب النبي · وبراءته، حتى صار مجاهداً يقرع صفوف الأعداء.
ومثلهما حدث مع أبي بردة بن نيار رضي الله عنه، لمّا بلغ الأوطاس، وجد النبي · يستريح تحت شجرة، ورجل عنده قاعد، فقال النبي ·: لقد أخذني النوم حتى وجدتُ هذا قد أخذ سيفي وقام على رأسي ثم قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فسقط السيف من يده، فقال أبو بردة: يا رسول الله.. ائذن لي أضرب عنق عدو الله هذا، قد يكون عين العدو، فقال النبي ·: اهدأ يا أبا بردة، فإن الله يمنعني، ما لم يظهر ديني على الأديان كلها، ثم أطلقه ولم يذمه.
ولمّا نزل المسلمون في حنين جاء سهل بن حنظلة إلى رسول الله ·، وقال: إن راكباً جاء من عند العدو، ويقول: لقد خرجت هوازن مع رجالها ونسائها ومالها، فتبسم النبي · ثم قال: لا تقلقوا، فإن ذلك المال يقع بأيدي المسلمين غنيمةً.
ثم أرسل النبي · عبد الله بن الحدرد للجتسس عن أحوال العدو، فذهب وأقام في قومه يومين، فرأى وسمع ما يقول القوم، ورأى سيد قومه مالك بن عوف يقول لقومه: ما قابل محمد أحدا من الأبطال جرّب حربا، إنما قابل قومه قريشا من أهل مكة السُّذّج، فزعم أن لديه قوة، وسوف يعلم. واصطفوا بكرة بحيث وراء كل واحد منكم امرأته وولده وماله، واكسروا جفون أغماد سيوفكم، ثم احملوا عليهم ضربة رجل واحد. وكانوا قد برعوا في فنون الحرب، وأخفوا رماتهم في الشعاب.
إن كان المشركون قد استعدوا للحرب بكل قوتهم، فإن المسلمين في جانب آخر احتشدوا بأكبر أعدادهم للمرة الأولى، وبالعتاد والسلاح الكثير، وكانوا قد شاهدوا في بدر واُحد أن جماعة من المؤمن العُزَّل لا تتجاوز على ثلاثمائة وثلاثة عشرة قد تغلبت على جيش قوامه ألف رجل، واليوم بعدما شاهدوا عددهم وعُدّتهم جرى على لسان بعضهم كما أخرج البزّار والحاكم: «لن نُغلب اليوم من قلة»، وإذا ابتدأت المعركة لاذ العدو بالفرار.
هذا ما لم يكن يُعجب مالك الملك والملكوت، الاعتماد على القوة الظاهرة، لذلك لقّنهم درسا، حيث حملت هوازن على المسلمين ضربة رجل واحد، والرماة واجهوهم بوابل من الرماح، وفرضوا عليهم حصارا، والنهار صار ليلا بسبب الأتربة المتطايرة، فتزلزلت أقدام المسلمين، وهربوا، إلا رسول الله · الذي كان على دابته يتقدم إلى العدو، ولم يثبت معه · إلا مائة، وقيل ثلاثمائة، وقيل أقل من ذلك، وكانوا لا يريدون أن يتقدم رسول الله ·.
ولمّا رأى النبي · ذلك أمر العباس وكان صيّتا، فقال: ناد الذين بايعوا تحت الشجرة، وأين أصحاب سورة البقرة؟ أين الأنصار الذين تعهدوا بالتضحية بالنفوس، فليعودوا، فإن رسول الله · هنا في الميدان.
فلما نادى العباس استجابوا لنداءه، وندموا على هروبهم، وعادوا بشجاعة، وقابلوا العدو ببسالة، فأنزل الله تعالى الملائكة ونصرهم، فلاذ سيدهم مالك بن عوف بالفرار، وخذل أهله وماله، واختبأ في حصن الطائف، ثم هرب آخرون، فقتل سبعون من صناديدهم، وأصيب بعض أطفالهم بجروح بأيدي المسلمين، فنهاهم النبي · عنه، وحصل للمسلمين مغانم كثيرة، منهم ستة آلاف أسرى، أربع وعشرون ألف بعير، أربعون ألف غنم، وأربعة آلاف أواقي فضة.
فالآيات التي نزلت بشأن غزوة حنين تناولت المضمون المذكور، قال: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم، فلم تُغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذّب الذين كفروا وذلك جزآء الكافرين. ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء. والله غفور رحيم}.
وقال في الآية الثانية: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} والمعنى أن أولئك المؤمنين الذين تزلزلت أقدامهم في أول الأمر، أنزل الله سكينته عليهم، فعادوا إلى النبي ·. أما معنى إنزال السكينة على الرسول والمؤمنين الذين ثبتوا معه في الموقف، فهو إراءة الفتح لهم قريبا، وبما أن التسلية كانت بنوعيها للذين هربوا والذين ثبتوا مع النبي ·، لذلك ذكرها بتكرار «على» {على رسوله وعلى المؤمنين}.
ثم قال: {وأنزل جنودا لم تروها} أي ما رأى عامتكم، وهو لا ينافي رؤية الأفراد والآحاد الذي ورد ذكره في بعض الروايات.
ثم قال: {وعذَّب الذين كفروا. وذلك جزآء الكافرين} والمراد من الجزاء انتصار المؤمنين عليهم وغلبتهم، الذي كان واضحا للعيان، والمعنى أنها كانت عقوبة دنيوية فورية، أما المعاملة الأخروية فقد أشار فيها في الآيات التي تليها، وهي..
{ثم يتوب الله من بعد ذلك من يشاء والله غفور رحيم} فيها إشارة إلى أن أولئك الذين عاقبهم الله بتغليب المسلمين عليهم والفتح والانتصار، فإن منهم من يوفّقه الله تعالى للإيمان فيما بعد، فكان كما وعد.

توزيع غنائم حنين:

وفي شهر ذي القعدة الحرام رجع النبي · من الطائف إلى الجعرانة، وفيها الغنائم مجموعة، ستة آلاف أسرى، أربع وعشرون ألف بعير، أربعون ألف شاة، وأربعة آلاف أواقي فضة. ثم انتظر هوازن لمدة عشرة أيام، لعلهم يأتون إليه ليخلّصوا نساءهم وأطفالهم، لكنهم ما جاءوا، فقسمها بين الغانمين. (ابن حجر، فتح الباري 8/138 ابن سيد الناس، عيون الأثر 2/193).
ثم جاء وفدهم، وفيه تسعة رجال، فأسلموا وبايعوا على يديه، وسألوا إعادة أموالهم وعيالهم إليهم، وكانت حليمة السعدية أمه من الرضاعة منهم، فقام خطيبهم وقال: يا رسول الله.. إن بين الأسرى خالاتك وعماتك وحواضنك، فلو كانت هذه الروابط بيننا وبين ملك لنفعتنا، وأنت أفضل منهم وأحسن، وما نزل علينا غير خافية عليك، فأحسن إلينا، ثم أنشد بالأبيات التالية:
امنن علينا رسول الله في كرم    فإنك المرء نرجوه وندخر
فقال النبي ·: لقد انتظرتكم مدة، لكنكم ما أتيتم، ثم قسّمتها، وإني أخيركم بين أمرين: المال والأسرى، فخذوا أيهما شئتم، فقالوا: لقد خيّرتنا بين المال والنسب، فنختار النسب على المال، ولا نقول لك شيئا في الغنم والبعير.
فقال النبي ·: ما كان من نصيبي ونصيب بني هاشم وبني عبد المطلب من هذه المغانم فهي لكم، أما الذي كان من نصيب بقية المسلمين فقوموا بعد صلاة الظهر، واطلبوا من الناس، وأنا أشفع لكم، فقاموا بعد الصلاة وألقوا خُطباً بليغة، وطالبوا من المسلمين إطلاق أسراهم، ثم قام النبي · خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه خيرا ثم قال: إن إخوانكم هؤلاء من هوازن جاءواكم بعدما أسلموا، وقد أعطيتهم نصيبي ونصيب بني هاشم وبني عبد المطلب، وأرى أن يفعل ذلك بقية المسلمين، فمن أراد أن يفعل ذلك بطيب نفس منه فليفعل، وإلا عوّضته بمال من عندي، فقالوا: لقد رضينا بطيب نفس منا، وهكذا أطلقوا ستة آلاف أسرى في مناسبة واحدة. (ابن حجر، فتح الباري 8/26)
وكانت من بين الأسرى «شيماء» أخته من الرضاعة، لمّا أسرها الناس قالت: أنا أخت نبيكم من الرضاعة، فجاءوا بها إلى النبي ·، فقالت: يا محمد أنا أختك من الرضاعة، والدليل عليها أنك عضضتني يوما، وهذه علامتها، فعرفها النبي ·، فرحب بها، وفرش لها رداءه، وامتلأت عيونه دمعا، ثم قال: إن شئت أقمت عندي معززة مكرمة، وإن شئت رجعت إلى قومك. فقالت: بل أرجع إلى قومي، فأسلمت. فلما أرادت العودة أعطاها النبي · البعير والشياه وثلاثة عبيد وجارية. (ابن حجر، الإصابة (637) 4/344).
أما أشراف قريش الذين دخلوا في الإسلام يوم فتح مكة لا زالوا مذبذبين، ولمّا يترسخ الإيمان في قلوبهم، فهم الذين وصفهم القرآن بمؤلفة القلوب، وقد أعطاهم الرسول · الكثير من الغنائم، بعضهم نال مائة من الإبل، وبعضهم مائتي إبل. (ابن حجر 38، الزرقاني 36).
وباختصار، جميع ما أعطى أعطى أشراف قريش، وما أعطى الأنصار شيئا، حتى قال بعضهم: لقد والله أعطى رسول الله · قريشا وما أعطانا جماعة الأنصار شيئا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، وقال البعض: يطلبنا عند الشدائد، وعند تقسيم الغنائم لا يطلبنا، فبلغ ذلك النبي ·، فطلب الأنصار، فقال: ما هذه القالة التي بلغتني عنكم؟ فقالوا: لم يقل ذلك ذووا الرأي منا، فقال: يا معشر الأنصار، أما كنتم ضُلاّلا فهداكم الله بي، أما كنتم أعداءً فألف الله بين قلوبكم بي، أما كنتم عالة فأغناكم بي، فقالوا: الله ورسوله أبر وأمنّ، ثم قال: إن شئتم قلتم صدقتم فصدقتكم، لقد كذبوك فصدقناك، وخذلوك فآويناك، وكنت عائلا فواسيناك، ثم قال: يا معشر الأنصار أوجدتم عليّ في لعاعة من الدنيا تآلفت بها قلوبهم، وفوّضتكم إلى إسلامكم.
وفي رواية البخاري قال النبي ·: لقد أصابت قريش مصيبة القتل والأسر، (أي مقارنة مع المسلمين أصيبوا في أرواحهم وأموالهم) لذلك أردتُ أن أداوى بعض جروحهم بهذا العطاء، ليستأنسوا بالإسلام، فقد قُتل إخوانهم واُسروا واُوذوا، وقد صانكم الله منها، فأردتُ أن أعطيهم من المال تأليفا لقلوبهم، أما أنتم فأهل إيمان ويقين، وهما من كبرى نِعَم الله التي لا تزول، أما ترضون أن يعود الناس إلى ديارهم بالبعير والشاه، وتعودوا إلى دياركم برسول الله، فوالله الذي نفسي بيده لو لا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وواديا وسلكت الأنصار واديا وشعبا، لسلكتُ شعب الأنصار وواديهم، اللهم ارحم الأنصار، وولد ولدهم.
فما أن انتهى النبي · من كلامه حتى بكوا واخضلوا لحاهم، ثم قالوا: رضينا بهذا القسم والحظ.

الأحكام والمسائل:

في ثنايا القصص المذكورة وردت كثير من الأحكام والتوجيهات والفوائد، وهي المقصود من سرد هذه القصة.
وكان التوجيه الأول في هذه الآيات النهي عن الاغترار بالعدد والعُدة، إن كنتم تنظرون إلى الله تعالى في حالة الضعف من ناحية العدد والعتاد، فكذلك يجب أن تنظروا إليه في حالة القوة والعدد الكثير.
الكلمة التي قالوها يوم حنين بعدما لاحظوا عددهم الكبير وعُدتهم العميمة وهي: «لن نُغلب اليوم من قلة» لم تُعجب الله تلك الكلمة، لذلك زلت أقدامهم في أول الأمر، ولاذوا بالفرار، ثم أنزل الله نصره على المؤمنين.

الحيطة والحذر والعدل في أموال الكفار المهزومين المغلوبين

والتوجيه الثاني الذي وُجّه إليهم خلال هذه القصة أن ما أخذ النبي · من قريش المغلوبين المنهزمين في مكة من الدروع والرماح لقتال هوازن من باب العارية، أرجعها إليهم، وكان بإمكانه أن يأخذها غصبا منهم، لكنه أخذها منهم عارية، ثم أرجعها إليهم.
فهذه القصة علّمت المسلمين درساً كاملا للعدل والإنصاف والرحمة مع الأعداء.
والتوجيه الثالث فيها أن النبي · لمّا كان متوجها إلى حنين فإنه قال لمّا نزل بخيف بني كنانة، سننزل غداً بموضع كان المشركون قد تعاهدوا فيه لمقاطعة المسلمين، وفيه إشارة أن المسلمين إن نصرهم الله تعالى على أعداءهم، وجعل لهم قوة وسلطانا، لا ينسون ما وقع عليهم في الماضي من المحن والبلايا، حتى يقدروا على شكره. ثم إنه · كان يتعرض إلى الهجمات المتتالية من هوازن وطعناتهم وسهامهم، لكنه لم يدع عليهم، إنما دعا لهم بالإيمان، وهذا فيه درس ونصيحة للمسلمين أن جهادهم ليس لمجرد إلحاق الهزيمة بالعدو، بل الغرض منه إرشادهم إلى الإسلام، لذلك لا يتغافل عن هذا الهدف لدقيقة.
والآية الثالثة أشارت إلى أن الكفار المهزومين والمغلوبين يمكن أن يدخلوا في دين الله، فلا يجوز اليأس والقنوط منهم، كما ثبت ذلك بقصة إسلام هوازن.
عند مطالبة وفد هوازن بأهلهم وأولادهم شفع النبي · لهم، فرضي المسلمون على إطلاق الأسرى عن طيب خاطرهم، لكنه · لم يكتف بالقول بشكل عام، حتى سألهم بشكل خاص.
ثبت بهذا أنه لا يجوز أخذ مال أحد إلا بطيب نفس منه، وأن سكوت أحد حياء من الناس، أو إبداء الموافقة بشكل جماعي لا يكفي، ومن هنا قال أهل العلم: لا يجوز الحصول على التبرعات من الناس باستغلال الرعب الشخصي أو الهيبة بين الناس، لأن كثيرا من الناس في مثل هذه الظروف يستحيون، فيتبرعون حياء بدون طيب نفس، ولا يبارك الله في مثل هذا المال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق