{سورة الأنفال مدنية، الآية : 47}


   بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئآء النّاس ويصدون عن سبيل الله، والله يما يعملون محيط}.

ملخص معاني الآية:

في الآيات السابقة ذكر خمسة من أحكام الجهاد وآدابه، وفي هذه الآية ذكر الحكم السادس.
6- أخلصوا نياتكم، (بالتواضع) ولا تكونوا في الفخر والخيلاء مثل أولئك المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس، إضافة إلى ذلك فإنهم كانوا ينوون صدّ الناس عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط، فسوف ينزل بهم عقوبة كاملة. (ملخص من بيان القرآن)

موضوع الآية:

ذكر أهل العلم موضوعات متنوعة لهذه الآية الكريمة:
1- ذكر فيه الأدب السادس للظفر في الجهاد والوصفة السادسة للنصر فيه.
2- في الآيات السابقة أشار إلى أسباب الفتح، وفي هذه الآية ذكر أسباب الهزيمة، وهي: الغرور، والفخر، والرياء ومعاداة الإسلام.
3- في الآيات السابقة أمر بذكر الله تعالى، والابتعاد عن المنازعة والمشاجرة، وفي هذه الآية أشار إلى أنكم إن تخليتم عن الذكر وتنازعتم فيما بينكم، نشأت فيكم خصال المشركين من الرئاء والبطر.
4- في الآيات السابقة أمَرَ بالثبات في القتال، وفي هذه الآية أكّد على أن الثبات يجب أن يكون خالصا لله تعالى، وليس للرياء والبطر.
5- موضوع هذه الآية أن الجهاد عبادة، ولا مساغ للفخر والخيلاء في الجهاد.

العبارات

1- كلام بركة:

الجهاد عبادة، ولا تُقبل العبادة مع الرئاء والبطر. (موضح القرآن)

2- ترك الذكر وشؤم النزاع:

«إن تركوا ذكر الله، وأحدثوا النزاع فيما بينهم، حدثت فيهم الرئاء والعصيان، وهما من مقدمات الهلاك». (حاشية اللاهوري رحمه الله تعالى)

3- أسباب الهزيمة:

«إن كان الله قد أشار إلى أسباب الظفر والفتح في الجهاد، فقد أكّد على أنه يجب على المجاهدين أن يتخلوا عن الرئاء والبطر والخيلاء والنخوة والغرور والشهرة أثناء التوجه إلى ساحة القتال. إذ هي من أسباب الهزيمة، انظروا إلى المشركين خرجوا مع جند عظيم، لكنه عاد إلى مكة يجر أذيال الهزيمة والندامة، لأنهم ما خرجوا من بيوتهم إلا للشهرة والرئاء والفخر والخيلاء». (التفسير الفرقان)

4- الجهاد عبادة عظيمة:

«كان أبو جهل قد خرج مع جنده في حشم وشهم، ودف وطبل، ليُرعب المسلمين، وتسمع بهم القبائل فتخافهم، لكنه تلقى رسالة من أبي سفيان أن العير قد نجا من أيدي المسلمين، لذلك عليك أن ترجع إلى مكة. فقال في نخوة: لن نعود إلى مكة حتى نصل بدراً، فتعزف علينا القيان ويضرب الغلمان بالدف، ونشرب وننحر الجزور ونطعم العرب، لكي يسمعوا عنا، ويذكروا أيامنا هذه، ويخافنا المسلمون فلا يجترئوا على مواجهتنا. لم يكن يدر أن ما يذكره ويتخيله ليس بيده إنما بيد الله تعالى، يفعل ما يشاء، وقد يعيد الكرة على أصحابها، فيخابوا ويخسروا. وهذا الذي حصل معه. شرب كأس الموت مكان ماء بدر، ما أقيم حفل للغناء والعزف، إنما كانت مجالس للنياحة والبكاء من بدر إلى مكة. أما الأموال التي ادّخروها للفخر والمباهاة فتحولت إلى مغانم للمسلمين، وهكذا تمّ نصب حجر انتصار الإيمان والتوحيد الأبدي في ساحة بدر، فكأنّ الله سبحانه وتعالى قضى بهذه القطعة الصغيرة من أرض بدر بتقادير الأمم والملل. وعلى كلٍ، فقد أشار في هذه الآية الكريمة إلى أن الجهاد ليس مجرد معركة تدور بين طائفة ويقتل فيها العشرات والمئآت، بل هو عبادة عظيمة، لا يقبلها الله تعالى من كل من يُقدم عليها بطراً ورئاء الناس. فلا تقلدوا المشركين في الفخر والخيلاء والمباهاة». (التفسير العثماني)

ثبات بدون خيلاء:

وحاصل الكلام أنه تعالى أمرهم عند لقاء العدو بالثبات، والاشتغال بذكر الله، ومنعهم من أن يحملهم على الثبات: البطر والرياء بل أوجب عليهم أن لا يحملهم عليه إلا طلب العبدية لله. (التفسير الكبير)
تعين موضوع الآية الكريمة من خلال ما ذكرنا من خلاصة التفسير والعبارات الخمسة، والآن لاحظوا الفوائد التفسيرية الباقية.

نصيحة مهمة للمجاهدين:

من ضمن الأمور القبيحة التي أمرت هذه الآية الكريمة المجاهدين باجتنابها «البطر» ذكر الإمام الرازي معنى البطر بما يأتي:
«قال الزجاج: البطر: الطغيان في نعمة، والتحقيق أن النعم إذا كثرت من الله على العبد، فإن صَرَفَها إلى مرضاته، وعرف أنها من الله تعالى، فذاك هو الشكر، وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر. (التفسير الكبير)
وقال القرطبي في شرح معنى كلمة «بطر»:
والبطر في اللغة : التقوية بنعم الله عزوجل وما ألبسه من العافية على المعاصي.
والمعنى أن يستغل نعم الله من مال وصحة وعافية في معصيته.
وقال النسفي موضحا معنى البطر: والبطر أن تشغله كثرة النعمة عن شكرها. (المدارك)
أي رجل كان مطيعا لربه، مجتنبا عن معاصيه، فأنعم الله عليه بنعم كثيرة، وأعزه وقوّاه، فتغيّر حاله، وصار لا يجتنب عن المعاصي ولا يطيع ربه،  ولا يتواضع، بل اغترّ بما عنده من النعم، يتبختر ويتكبر، فذلك البطر.
قال صاحب أنوار البيان:
كما ثبت في الصحيحين خ م عن أبي موسى الأشعري قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله فقال: من قاتل لتكون  كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (مشكاة المصابيح ص 1331 من البخاري ومسلم)
الاختيال والتبختر، والثقة بالذات والجماعة لا تزين المؤمن، وقد تسبب في حرمانه من إخلاص النية، يتحلى بالتواضع من رغب في رضى الله تعالى، يثق بالله فلا يقاتل إلا لله، ولا يموت إلا لله وفي سبيله. ولاشك أن الاختيال والتبختر أثناء مبارزة المشركين ومنازلتهم محبوب عند الله، إن ملأ قلبه بالتواضع والثقة بالله ثم اختال وتبختر أمام الكفار ليُضعف هممهم ومعنوياتهم، فذلك مما يحبه الله تعالى.
في الحديث فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل عند القتال واختياله عند الصدقة. (كما في مشكاة المصابيح ص 287) (تفسير أنوار البيان)
وقال المفسرون: لمّا دعا النبي · على المشركين يوم بدر أشار إلى خيلائهم وفخرهم، وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدل على شناعتها. قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى:
روي أنه · لمّا رآهم في موقف بدر قال: «اللهم إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها لمعارضة دينك ومحاربة رسولك. (التفسير الكبير)
الفخر والخيلاء من أكثر الأمور ضرراً بالمجاهدين، وعليهم أن يتحلوا بالتواضع كلّما أكرمهم الله تعالى بالفتح والقوة والعزة والمال، فمن اختار منهم الفخر والخيلاء فقد سار على نهج المشركين، وتنطبق عليه طريقتهم، ويُحرم من النصر والتأييد. (والله أعلم بالصواب)

الفخر والخيلاء والكبرياء من صفات المشركين:

أشار الإمام الرازي إلى نكتة مهمة في الآية الكريمة، وقال: إن الله ذكر كلمات «بطراً» و «رئاءً» بصيغة الاسم، فيما ذكر كلمة «يصدون» بصيغة الفعل، وفي ذلك إشارة إلى أن الفخر والخيلاء كانت من صفاتهم الملازمة التي لا تفارقهم، أما الصد عن الدين فقد ابتدؤه بعد ظهور الدعوة الإسلامية، والاسم يدل على الاستمرار، والفعل على الحدوث. (التفسير الكبير)

الابتعاد عن الرئاء:

إن يسير الرياء شرك، يُبطّل جميع الأعمال، ما من عمل صالح يرافقه الرياء إلا وأفسده، لأنه ليس لله، وكل ما ليس لله ليس بصالح، وإلى هذا المعنى أشار الإمام الرازي في قوله:
«والرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع أن باطنه يكون قبيحا». (التفسير الكبير)
وقال صاحب التفسير الماجدي:
{بطراً رئآء الناس} أكثر ما تنطبق هذه الكلمات من الآية الكريمة على ما تقوم به القوات الفرنجية من الفخر والرئآء، والغرور واستعراض العضلات، وعلى جنودها في ثياب خضراء وصفراء، وأعلام وعلامات، ودعاوي غرورية وبيانات، ومدفعيات وطائرات حربية وأساطيل وغواصات وقاذفات وقذائف ذرية، وأكثر منها على ما تصدر من بيانات وإعلانات. (التفسير الماجدي)

عبارة من سبب نزول الآية:

تكفينا للإشارة إلى سبب نزول الآية الكريمة عبارة واحدة من التفسير العثماني، ذكرها علماء التفسير في كتبهم من القرطبي والتفسير الكبير وروح المعاني والمدارك وغيرها، إلا القرطبي والتفسير الكبير اللذان أخرجا نصاً متقاربا منه، وهنا نسرده حتى يتيسر لطلاب العلم مراجعته:
«يعني أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير، خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث «خفاف الكناني» وكان صديقا لأبي جهل بهدايا إليه مع ابن له وقال: إن شئت أمددتك بالرجال، وإن شئت أمددتك بنفسي مع من خفّ من قومي. فقال أبو جهل: إن كنّا نقاتل الله كما يزعم محمد (·) فوالله مالنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا علي الناس لقوة. والله لا نرجع عن قتال محمد (·) حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدراً موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب بمخرجنا فتهابنا آخر الأبد». (القرطبي)
ومثله ما نقله الرازي مع اختلاف قليل، وقال في آخره:
قال المفسرون: فوردوا بدراً وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان. (التفسير الكبير)
فالحمد لله رب العالمين.

آية مهمة حول موضوع الجهاد:

«أشار في الآية الكريمة إلى الفارق الكبير بين مَن يُقاتل في سبيل الله وبين مَن عامة المقاتلين، فهذه الآية من إحدى الآيات الأساسية في باب الجهاد، فجنود الدنيا لا يقاتلون إلا للدنيا، ولا تهمهم إلا تطويع الدنيا وتسخيرها، ولا تظهر من قيامهم وقعودهم وكرّهم وفرّهم إلا الدنيا، وعكسه المجاهد والغازي الذي أفنى أنانيته قبل خوض المعركة، لا يهمه بفعله وقوله وظاهره وباطنه إلا رفع شأن الدين وإعلاء كلمته. وهنا يجب التأمل في لفظ {كالذين} في الآية الكريمة، فالمسلمون كانوا بريئيين من كل ما من شأنه الفخر والخيلاء، ومع ذلك اُمروا بالابتعاد عن التشابه بالمشركين بلفظ واضح صريح. وهنا وقفة مع المسلمين اليوم، عليهم أن يتأملوا وجوه التشابه مع المشركين رغم ادّعاءهم محبة الله وولايتهم له». (التفسير الماجدي)