{سورة الأنفال مدنية، الآية : 46}


   بسم الله الرحمن الرحيم
{وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}.

ملخص معاني الآية الكريمة:

في الآيات السابقة أشار إلى أحد أهم مفاتيح الظفر في الجهاد، وهما: الثبات والإكثار من الذكر. وهنا يشير إلى ثلاثة أمور إضافية:
الثالث: طاعة الله ورسوله في جميع معاملات الجهاد، وعدم مخالفتهما في شيء منها.
الرابع: عدم المنازعة مع الأمير أو مع الزملاء، وإلا أصبتم بالضعف، لانتشار قواكم، وعدم ثقة بعضكم ببعض، وماذا بإمكان الرجل أن يفعل إن كان لوحده؟ وذهب ريحكم، أي رعبكم من قلوب الأعداء.
الخامس: الصبر والنصح عند وقوع أمر يسوءكم، والله مع الصابرين، ومعية الله كافية لجلب نصره وتأييده. (ملخص ما ذكر في بيان القرآن)

الأقوال

الخلافات البينية تمنع رحمة الله تعالى:

قال اللاهوري رحمه الله:
ولا تنازعوا فيما بينكم فتحرموا من رحمة الله، وواجهوا كل ملمة بالصبر، فالله ظهيركم وناصركم. (حاشية اللاهوري)
في عبارة اللاهوري إشارة إلى قول الرسول ·: «يد الله على الجماعة» فإن تنازعوا تفرق الجمع، وانفرد كل بما لديه، حتى إن كانوا في الظاهر جماعةً فإن نصر الله لا ينزل عليهم، ولا رحمته وتأييده. (والله أعلم بالصواب)

مفتاح السعادة:

«واجهوا ما تتعرَّض لكم من الشدائد والصعوبات أثناء الجهاد بالصبر والثبات، والمثل المعروف يقول: يحمي الله الهمم. وهنا في الآية الكريمة إشارة إلى مفاتيح النجاح والسعادة، وأكّد على أنّ المال والجنود والذخيرة لا تجلب النصر والفتح، بل بالصبر والاستقامة على الحق، والثبات واليقين، وطمأنينة القلب، وطاعة من نصبه الله ورسوله بمنصب الأمير والحاكم، والتواصل والتلاحم وجمع الكلمة ونبذ الفُرقة». (التفسير العثماني)

تفسير جامع لجميع كلمات الآية:

{وأطيعوا الله ورسوله} لاشك أن طاعة الله والرسول واجبة في الأحوال كلها، فما معنى التأكيد عليها في الجهاد؟ أجيب عنه أن المقصود هنا الإشارة إلى أهمية طاعتهما وعدم الخروج عن طاعتهما قيد أنملة، بأن تثوروا فتقدّموا هواكم وشهواتكم عليهما، أو توافقوا نفوسكم في هواها، أو تعملوا بما تُملي عليكم عقولكم القاصرة.
{ورسوله} ومعنى طاعة الرسول · في هذا السياق أن تؤمنوا بوجوب طاعة الرسول فيما يتعلق بأحكام الجهاد والتدابير القتالية، وتعلموا أن الواسطة بينكم وبين الله ذات الرسول ·، ينقل إليكم مرضاة ربكم، ويبيّن لكم أحكامه ويفسّرها.
«وأطيعوا رسوله فيما أمر به ونهى عنه من شؤون القتال وغيرها من حيث انه هو المبين لكلام الله» (المنار).
{ولا تنازعوا} لا يُقبل نزاع بين أفراد الأمة، أو بين الأمير ومأموريه، فالخلافات الداخلية مرفوضة على الإطلاق، إذ هي بمثابة السموم للروح الجماعي.
{فتفشلوا} هنا إشارة إلى أن الخلافات والنزاعات الداخلية تؤدّي إلى الجبن وضعف الهمة.
{تذهب ريحكم} أي يزول الرعب الذي وُجد في قلوب عدوكم بفضل توحّدكم وتكاتفكم وتلاحمكم.
«أي قوّتكم ونصركم، كما تقول: الريح لفلان إذا كان غالبا في الأمر». (القرطبي)
{واصبِروا} أي اصبروا على ما تواجهون من ظروف غير ملائمة لكم أثناء القتال، فالصبر محمود في المواقع كلها، خاصة عند الزحف.
«أمر بالصبر وهو محمود في كل المواطن وخاصة موطن الحرب». (القرطبي)
«الصبر» في المصطلحات القرآنية تُطلق على معاني أوسع وأجمع، فهي تشمل كافة اللوائح والإرشادات العسكرية التي تُنظم الجيش في يومنا هذا، إضافة إلى القوة الروحية والطمأنينة القلبية والثقة بالله التي تخلو منها أغلب التعليمات العسكرية.
وكل ما ورد في هذه الآية من أحكام لا تتقيد بغزوة، إذ هي عامة تشمل بدر وغيرها من الملاحم إلى يوم القيامة. (التفسير الماجدي)

الخلافات تؤدّي إلى الهزيمة :

قال الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وتذهب ريحكم}:
«أي تُولّونهم ظهورهم بدلا من أن تُقدموا عليهم» (موضح القرآن)
والمعنى تتوقف الفتوحات والتقدم إلى الأمام، بل تلاحقكم الهزائم والتراجع. وقال صاحب التفسير الفرقان:
«والواقع إن توحّد جماعة متواضعة من البشر تحقق من النصر والظفر ما تعجز عنه الجيوش العظيمة، وهذا هو السبب في تأكيد القرآن على التماسك والتلاحم والتوحّد في المناسبات كلها. (تفسير القرآن)
فمن دعا إلى الشقاق والنزاع بين المسلمين فقد ظلم على الأمة بأسرها، وعَمِلَ لحساب المشركين والكفار. (والله أعلم بالصواب)
وقال بعض أهل العلم: المراد من ذهاب الريح : الريح التي يبعثها الله تعالى لنصر المؤمنين، وبشؤم الخلاف والنزاع تذهب هذه الريح.
قال القرطبي:
وقال قتادة وابن زيد: إنه لم يكن نصر قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار ومنه قوله عليه السلام:
«نُصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور».
قال الحكم: وتذهب ريحكم يعني الصبا، إذ بها نصر محمد · وأمته.
وقال مجاهد: وذهبت ريح أصحاب محمد · حين نازعوه يوم أحد. (القرطبي)
وقال ابن كثير:
وتذهب ريحكم أي قوتكم وما كنتم فيه من الإقبال. (تفسير ابن كثير)
وقال صاحب أنوار البيان:
منع من النزاع ثم أرشد إلى الصبر، للإشارة إلى أن الصبر من أقوى الأساليب للمحافظة على وحدة الكلمة، فالناس إن عاشوا معا، في بيت واحد، فإنهم يواجهون مواقف مختلفة لا توافق بعض الطبائع، نظراً لاختلافها، وبدون الصبر والمصابرة عليها لا يمكن المحافظة على وحدتهم. ومن هنا عرفنا أننا إذا جلسنا للتشاور، ليس علينا أكثر من تقديم آرائنا، بدون الإصرار عليها، لأن الإصرار يتسبب في النزاع وتفويت مقصود التشاور.
إن وجد الآراء متضاربة فليصبر، فإن رجّح الأمير رأيه، أو أحداً من الآراء فلا يجد في قلبه شيئا، بل يصبر، حتى إن أصيب بضرر بسبب بعض الآراء، لا يطعن في الأمير، فالاتحاد لا يتحقق إلا بعد صبر وثبات، وليتعوّد على قبول ما لا تُرضيه بالبشاشة والمصابرة، فقد عزل عمر خالداً عن القيادة، فقبله برحابة صدر، ولم يخلق له مشاكل، ولم يشق عصا المسلمين، وكان بإمكانه أن يفعل ذلك، لكنه حرص على جمع المسلمين ووحدة كلمتهم، واستمر في أعماله مع القائد الجديد. فالطاعة الحقيقية هي ما كانت مع مخالفة الطبع، لأن أحداً إن شاء أن يُسمَع له في المواقع كلها فمن أين يحصل الاتفاق والوحدة؟ لا يحصل منه إلا الفرقة والانتشار وذهاب الريح. (أنوار البيان)
معنى الصبر: ضبط النفس، أي تنشأ في النفس قوة المدافعة عند الغضب، إن هاجم الشيطان على نفسه وأشعل فيها نار الكبرياء والخروج عن الطاعة، والحسد، والشهوات، واليأس والقنوط، تَحكَّمَ عليها وصبر ولم يتعد حدود الشرع. وبفضل وصف الصبر الذي يتحلّى به المجاهد يكتمل جهاده.
قال الرازي رحمه الله تعالى:
والمقصود أن كمال أمر الجهاد مبني على الصبر. (التفسير الكبير)

عبارة تزيد في الإيمان:

كتب العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى العبارة الجياشة التالية في شرح الآية الكريمة:
«وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والايتمار بما أمرهم الله ورسوله به وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول · وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفُرس، والترك والصقالية والبربر والحبوش، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهّاب».