بسم
الله الرحمن الرحيم
{وَإذْ يقول المنافقون والذين في
قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}.
ملخص معاني الآية:
لمّا رأى المنافقون بالمدينة والضعفاء من
المسلمين بمكة خروج المسلمين إلى بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر لمواجهة جيش عظيم من
المشركين، قالوا: غرّ هؤلاء دينُهم، ولم يكن إلقاء أنفسهم لمواجهة الخطر الجسيم
إلا ثقة بالله، لذلك قال الله تعالى لهم: ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم.
كلام بركة:
قال الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى:
انتقد المنافقون المسلمين بعدما رأوا تحمّس
المسلمين، فردّ الله عليهم، وقال إنه توكل بالله تعالى، وليس اغترار بالدين. (موضح
القرآن)
لا تتحقق الغلبة إلا بنصر الله:
قال اللاهوري رحمه الله تعالى:
كان المنافقون يقولون إن المسلمين اغتروا
بدينهم، فقد زعموا أنهم ينتصرون على الأعداء ببركة دينهم، وكان ذلك مستحيلا في
عيون المنافقين، لجهلهم أن من يتوكل على الله، وصار لله، كان غالباً على الأعداء
بنصر الله. (حاشية اللاهوري رحمه الله)
المسلمون متوكلون وليسوا
مغرورين:
قال
العثماني رحمه الله:
لمّا رأى المنافقون والضعفاء من المسلمين حفنة
من المؤمنين غير مجهزين بالسلاح مندفعين بالحماس والشجاعة نحو العدو قالوا: إنما
غرّهم دينُهم وزعمُهم أنهم على الحق، واستعدوا لإلقاء أنفسهم في التهلكة. أجاب
الله تعالى عنهم وقال إنهم متوكلون على الله وليسوا بمغرورين بدينهم، فكل من آمن
بقدرة الله واطمأنّ قلبه على أن شيئا لن يتحقق بدون أمر الله وحكمه وإرادته، صار
شجاعا وباسلاً في سبيل الحق. (التفسير الحقاني)
ربط الآيات:
كيف ترتبط هذه الآية بما سبقتها من الآيات؟
فيها آراء عديدة:
الأول: أغلب الظن أن الكفار يغلبون على
المسلمين يوم بدر، ففي الآيات السابقة فنّد هذا الزعم، وفي هذه الآية أراد إبطال
زعم آخر، وهو أن المنافقين كانوا يظنون أن المسلمين ينهزمون، ويغلب عليهم
المشركون. كما قال التهانوي رحمه الله تعالى:
فيما سبق أراد إبطال ظن خاطئ ... وهو أن
المشركين يتغلبون على المسلمين عادةً، لكنهم هُزموا وغلب عليهم المسلمون في هذه
المرة، وفي هذه الآية أكّد على خطأ هذا الظن، حيث بدا المسلمون ينهزمون في بادي
الأمر، لكنهم غلبوا على أعدائهم ببركة التوكل على الله. (بيان القرآن)
الثاني: في الآيات السابقة أشار إلى أن الشيطان
زيّن للمشركين أعمالهم القبيحة، وفي هذه الآية أشار إلى أن الشيطان زيّن للمنافقين
أن المسلمين سينهزمون، كما قال الحقاني رحمه الله تعالى:
بما أن الآيات السابقة ذكرت تزيين الشيطان
للمشركين وإضلاله لهم، وهنا أراد الإشارة إلى أن التزيين لم يكن منحصرا على
المشركين، إذ تعدّى إلى المنافقين الذين في قلوبهم مرض النفاق والشك صاروا يقولون
للمسلمين: هؤلاء غرّهم دينهم حتى تَجَرَّأ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا منهم على
مجابهة ألف بطل قرشي. (التفسير الحقاني)
الثالث: في الآيات السابقة ذكر نِعَم الله على
المؤمنين يوم بدر، وفي هذه الآية أشار إلى نعمة جديدة، وهي وفق المثل القائل:
«صاحب الدار أدرى بما في الدار» كان الضعفاء من المسلمين والمنافقون يظنون أن
المسلمين بما هم عليه من الضعف والقلة ليس بإمكانهم مواجهة قريش، وأن قريشاً سوف
تقضي على الوجود الإسلامي يوم بدر، إلا أن الله أمدّهم بنصره وتأييده، حتى تأكّد
للمنافقين وغيرهم من المشركين أن الله مع المؤمنين. (والله أعلم بالصواب)
من كان المنافقون؟
قال الرازي:
أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج.
(التفسير الكبير)
الذين أظهروا الإيمان وبطّنوا الكفر. (القرطبي)
من كانوا مرضى القلوب؟
قيل: هو اسم آخر للمنافقين:
«والذين في قلوبهم مرض». فالعطف تفسيري (التفسير
القرطبي)
وقيل: هم الضعفاء من المسلمين الشاكّين. كما
قال القرطبي:
«الشاكون» القرطبي.
وقال الرازي رحمه الله:
«وأما الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش
أسلموا وما قوي إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا ثم إن قريشا لما خرجوا لحرب رسول
الله · قال أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد (·) في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في
قلة أقمنا في قومنا. قال محمد بن إسحاق: ثم قتل هؤلاء جميعا مع المشركين يوم بدر».
أرجو قراءة عبارة الرازي هذه مراراً وتكراراًَ،
والحذر من تقليد أولئك الذين ذكرهم الله تعالى في الآية، فقد كانوا يتّسمون
بالخنوع أمام القوة والطغيان، خاصة إذا وجدوا المؤمنين أقل من المشركين شأنا
وظرفاً. (والعياذ بالله)
غرهم دينهم بماذا؟
قال الله تعالى: {وَإذْ يقول المنافقون والذين
في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم} فما هذا الشيئ الذي انخدع به المسلمون يوم بدر؟
ذكر الإمام الرازي له معنيين، وقال:
الأول: قال ابن عباس: معناه إنه خرج بثلثمائة
وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم. (لأن الناس لا
يخوضون المعارك إلا استناداً إلى العدد والعُدة، وهما لا يتوفران لدى المسلمين،
فدل على أنهم انخدعوا بدينهم).
الثاني: وقيل المراد أن هؤلاء يسعون في قتل
أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت ويثابون على هذا القتل. (التفسير الكبير)
أرجو ملاحظة القولين، والمقارنة بين ما قاله
المنافقون في عهد النبي · وما يقوله مثقفوا اليوم من مناوئي الجهاد ذوي الأفكار
النيّرة.
وما قاله المنافقون وضعفاء الإيمان بناءً على
الأوضاع العامة لم يكن من المستبعد. (التفسير الماجدي)
أي لا يتعدى نظر المنافقين الأوضاع العامة.
قوله: {عزيز حكيم}:
قال التهانوي رحمه الله تعالى: إن الله سبحانه
وتعالى عزيز، يُغَلِّبُ من يتوكل عليه على أعدائه في عموم الأحوال، ثم إنه «حكيم»
فإنه إن لم يغلّب المسلمين على المشركين فلحكمة أرادها. (معنى بيان القرآن)
والغرض منها الإشارة إلى أن مدار الغلبة ليس
على الاستعداد الظاهري أو ضده.
رفع كلمة الله:
فيما يلي لاحظوا عبارة مستغربة:
«لمّا خرج حفنة من المسلمين يوم بدر لمواجهة
العدو، عجز المنافقون والضعفاء من المسلمين عن تفسيره، وفي النهاية قالوا: ما غَرَّ
هؤلاء إلا دينهم، ولاشك أنه صحيح ببعض الاعتبارات، خاصة لأنه قيل في معرض نقد
المسلمين، فكلامهم صحيح من ناحيةٍ، إذ المسلمين سُكروا بدينهم، لذلك لم يرد القرآن
على قولهم في الآية (49) إنما اكتفى بقوله: {ومن يتوكل على الله..} » (ترجمان
القرآن).