{سورة الأنفال مدنية، الآية : 53}


   بسم الله الرحمن الرحيم
{ذلك بأن الله لم يك مغيًّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الله سميع عليم}.

ملخص معاني الآية:

أشار فيها إلى أن الله تعالى لا يعاقب أحدا بدون ذنب، وأنه لا يبدل نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيّروا أحوالهم وظروفهم، لا تخفى عليه نوايا الناس وإراداتهم، ووفق هذا الأصل استوجب أهل مكة العذاب، شأنهم شأن آل فرعون.

كلام بركة:

قال الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى:
لا تُسلب نعمة من نعم الله تعالى ما لم تتبدل النوايا والعقائد. (موضح القرآن)

العقوبة بعد الرحمة:

لا يغير الله تعالى ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فلم ينزل عليهم العقاب بعد الرحمة إلا بسبب أعمالهم. (حاشية اللاهوري)

وضع المشركين السيء بمكة:

«كتبديل كفار مكة من إطعامهم من جوع، وأمنهم من خوف، وبعث النبي · إليهم بالكفر والصد عن سبيل الله وقتال المؤمنين». (الجلالين)
وكان الله قد أنعم على المشركين بمكة بثلاث نِعَمٍ كبيرة: الأولى: أبعد عنهم الجوع ووسّع لهم فيما رزقهم. الثانية: بدّل خوفهم بالأمن. الثالثة: أرسل إليهم محمداً ·.
أما المشركون فقد كفروا بالنِعَم الثلاث، ثم (1) أنكروا بالرسول. (2) صدوا الناس عن دين الله. (3) حاربوا المسلمين.
قال السدّي:
نعمة الله عليهم محمد · فكفروا به فنقل إلى المدينة وحل بالمشركين العقاب. (القرطبي)
وقال القرطبي:
ونعمة الله على قريش الخصب والسعة والأمن والعافية. (القرطبي)

النكتة النسفية:

كان المشركون على الكفر والشرك قبل البعثة، فما معنى سوء أحوالهم؟ أجاب عنه النسفي وقال:
تغيرت الحال المسخوطة إلى أسخط منها... الخ
أي معنى سوء أحوالهم أن تتبدل أحوالهم من السيء إلى الأسوأ، حالة سخط الله تعالى تزداد سوءً، لاشك أن المشركين كانوا على الكفر والشرك قبل البعثة المحمدية، يعبدون الأصنام، ولمّا أنزل الله عليهم آياته، كذّبوها، وتصدوا لإراقة دم الرسول الذي بُعث إليهم، فاستبدلوا حالتهم السيئة بحالة أسوأ منها، حتى ازدادوا سُوءاً، فسلب الله تعالى نعمة الإمهال منهم، حتى حل بهم عذاب عاجل، فالمعنى أن الإمهال كان من النعم التي سُلبت منهم. (المدارك)
لاحظوا عبارتين اُخريين فيهما العبرة والنصيحة:
البيان العثماني:
أي عندما يغيّر الناس بإفراطهم وأعمالهم السيئة القُوى الطبيعية التي أودعها الله تعالى في كل إنسان، ولا يوجّهون نِعَمه الظاهرة والباطنة إلى ما أرشد إليها من الأعمال الحسنة، وظلوا يعادونها ويتصدون لإعاقتها، عاقبهم الله تعالى بإذهاب تلك النعم منهم، ويستبدل حالة النعمة بالنقمة، فهو مطلع على أحوالهم كلها ويسمعها، لا تخفى عليه خافية، لذلك لا يتعامل مع أحد منهم إلا بما كان الأصلح لأحواله. (التفسير العثماني)
البيان الماجدي:
هنا أشار إلى حقيقة ثابتة أن ما من قوم لا يغير ما به من حالة عند نزول الرحمة عليها، ولا يُحدث فيه الكفر والخبث مكان الإيمان والطاعة... إذ الجمع بين النعمة والخبث يخالف حكمة الله تعالى... فتاريخ الأمة الإسلامية خير شرح وبيان لهذه الآية، فقد بلغت أوج الرُقي والتقدم في كافة مجالات الحياة عقب البعثة النبوية وعهود الخلفاء الراشدين، حتى بسطت نفوذها على العالم كله، وكان ذلك معجزة من معجزاته، إذ لا نظير له في تاريخ بقية الأمم والشعوب، ثم انظروا إليها لما سقطت هبطت إلى حيث صارت عبرة للمعتبرين. حكموا على بلاد الأندلس لمدة سبعمائة سنة، ثم اضطروا إلى الجلاء في وضع مأساوي، ولم تقدر نفس واحدة منهم البقاء على تلك الأراضي، وفي أرض الهند رفعوا رايتهم لمدة تسعمائة سنة أو أكثر، ثم انسحب بساط الحكم من تحت أرجلهم، وصاروا الآن يتعرضون للويلات على يد الهندوس. الدولة التركية شهدت التفكك والانقسام وتراجعت إلى أهون ما تكون. حاكم ولاية حيدرآباد الهندية الغنية بثرواتها أقدم على الانتحار. فهذه كلها نعيم الدنيا بثمرها المسلوب على ما بدّلت الأمة ما كان بها، حتى تغيرت عليها الدنيا، لمّا استبدلت العدل والخشية بالظلم والعدوان والهوى والشقاء والخيانة والانهماك في الملذات وقطيعة الرحم وبكل أصناف الشر والخبث. (التفسير الماجدي).

فائدة:

في الآيات السابقة ذكر أحوال غزوة بدر، وأمر المسلمين بقتال المشركين، لاشك أن جهادهم هذا في مواجهة قوة عظيمة تعيق طريق الإسلام والمسلمين، أو تسلط الحرب عليهم، والسؤال هو: كيف بإمكان المسلمين الضعفاء مواجهة قوة عظيمة؟ رد الله تعالى عليهم بذكر فرعون وجنوده أن قوة المشركين لا عبرة بها أمام قوة الله تعالى، فملك مثل فرعون في البطش والظلم لقي حتفه بأمواج البحر. ما بهم من نعمة وملك وجنود وسلطة فلأجل معين، ينقضي عند خروجهم لقتال المؤمنين، فيأخذهم العذاب الدنيوي، كما حدث مع أهل مكة وآل فرعون، وهكذا يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن هنا وجب على المسلمين أن يقوموا بتبيلغ الرسالة إلى الأمم شعوب الدنيا في شرقها وغربها، فمن أعاق طريقهم وواجهم بالقوة كان مصيرهم مثل آل فرعون وأهل مكة في بدر. ويجب هنا أن ندرك بأن قانون المعاقبة الإلهية عام شامل للجميع، مسلمهم وكافرهم، فمن ضيّع ما كان معه من الدين، وطمع في الدنيا ونعيمها، منعهم الله تعالى من نعيمه.
وقال صلى الله عليه وسلم: إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم.
وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول لثوبان كيف بك يا ثوبان إذا تداعت عليكم الأمم كتداعيكم على قصعة الطعام تصيبون منه قال ثوبان بأبي أنت وأمي يا رسول الله أمن قلة بنا قال لا أنتم يومئذ كثير ولكن يلقي في قلوبكم   الوهن قالوا وما الوهن يا رسول الله قال حبكم الدنيا وكراهيتكم القتال رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه وإسناد أحمد جيد.
فماداموا على توكلهم وإيمانهم بالله، أكرمهم بنعمة النصر والفتح والغلبة، فإن تخلوا عنها نزع منهم النعمة، وهذه سنة الله في الناس، لا يظلم الله أحدا ولا يعاقبهم بلا ذنب. (والله أعلم)