بسم
الله الرحمن الرحيم
{وَإن يريدوا أن يخدعوك فإنَّ حسبك
الله هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم، لو أنفقتَ ما في الأرض
جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم إنّه عزيز حكيم}.
ملخص معاني الآيتين:
أشار إلى أن الكفار إن أرادوا أن يخدعوك من
وراء الصلح، فلا تبال بهم، لأن الله معك، وحسبكَ نصره، فهو الذي أيّدك بنصره من
الغيب، كما أيدك بالمؤمنين في الظاهر، وانظر كيف نصرك الله نصراً مؤزّراً بتأليف
قلوب المؤمنين، الذي لم تكن لتتوصل إليه ولو أنفقتَ خزائن الدنيا كلها، لكن الله
ألّف بين قلوبهم بفضله وقوته، والله غالب أمره، يفعل ما يشاء، لا يخلو عمله عن
حكمة. (كما بدّل ما في القلوب بحكمته وقوته فإنه سوف يبدّل أحوال الدنيا، وسيخسر
أولئك الذين أرادوا مخادعتك).
التذكير ببدر:
{هو الذي أيّدك بنصره} فيه إشارة إلى بدر.
قال القرطبي: أي قوّاك بنصره، يريد يوم بدر.
(القرطبي)
وقال صاحب التفسير العثماني:
إن عزموا على الغدر والخيانة من وراء الصلح فلا
تبال بهم، فإن الله يؤيدك بنصره، ويُفنّد كافة ترتيباتهم، فهو الذي أيّدك ونصرك
بجماعة الصحابة المخلصين يوم بدر. (التفسير العثماني)
ذكّرهم بيوم بدر في ثنايا بيان ضوابط الهدنة،
وأرشده إلى عدم الالتفات إلى غدرهم، فالله الذي نصرك يوم بدر، معك في المناسبات
كلها.
وقال البعض: أراد به كل نصر أيد الله به رسوله
في المواقع كلها، كما قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى:
«قال المفسرون: يريد قواك وأعانك بنصره يوم
يدر، وأقول هذا التقييد خطأ، لأن أمر النبي · من أول حياته إلى آخر وفاته ساعة
فساعة كان أمراً إلهيا وتدبيرا علويا، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل. (التفسير
الكبير)
ولا مانع من الجمع بين القولين، بأن يعم النصر
والتأييد بكافة أشكاله وأنواعه، وتشير إلى بدر على وجه الخصوص. (والله أعلم
بالصواب)
نصر بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {هو الذي أيّدك بنصره
وبالمؤمنين} والمراد منهم المهاجرون والأنصار، كما قال الآلوسي رحمه الله تعالى:
«من المهاجرين والأنصار على ما هو المتبادر».
(روح المعاني)
وقيل: بل المراد منهم الأنصار على وجه الخصوص:
«قال النعمان بن بشير رضي الله عنه: نزلت في
الأنصار». (القرطبي)
وعن أبي جعفر والنعمان بن بشير وابن عباس
والسدي رحمه الله أنهم الأنصار رضي الله عنهم. (روح المعاني)
جواب سؤال:
إن كان النصر والتأييد من الله تعالى، فما معنى
قوله: «وبالمؤمنين»؟ أجاب عنه الإمام الرازي وقال:
«التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين: الأول:
ما كان من الله إلى عباده مباشرة بدون أسباب ظاهرة. والثاني: ما كان بواسطة
الأسباب الظاهرة».
ففي قوله: {هو الذي أيدك بنصره} أراد الأول،
وفي قوله: {وبالمؤمنين} الثاني. (التفسير الكبير).
ويمكن أن نرد عليه بجواب بسيط، نقول: إن الجهاد
عمل جماعي يتطلب الأفراد والمجاهدين، والمسلمون أمة واحدة وجماعة واحدة، لذلك
ذكرهم على وجه الخصوص، وقال: إن الله أعطاك جماعة قوية من المؤمنين، ولا تقدر قوةٌ
و لا غدرٌ على إعاقة طريقه، وقد جعل صاحب التفسير الحقاني الآية بكاملها بشرى
بالفتوحات المستقبلية، وهو ما أشارت إليه الآية. (والله أعلم بالصواب)
تآلف القلوب نعمة:
قال الله تعالى: {وألَّفَ بين قلوبهم} أي ألقى
في قلوبهم المودة والمحبة والاتحاد بحيث صاروا مثل الجسم الواحد والقلب الواحد.
فكيف يضرك غدر وخيانة المشركين إن كان قد أحاط
بك هؤلاء المخلصون من الأصحاب، وكان من فضل الله وكرمه عليك أن جمع بينهم وألقى في
قلوبهم المودة والمحبة، التي أدت إلى تقوية أواصر الجماعة، ولم ينشق أحد من
أفرادها، إن كانوا مائة رجل متآلفون متوادون لأحس كل واحد منهم أن فيه قوة مائة
رجل. ثم إن أولئك الذين بعث الله رسوله إليهم كانوا فيما بينهم متباغضين متحاسدين،
فقد كانت بينهم عداوات يتصارعون ويتفانون، فلما دعاهم الرسول إلى توحيد الله تعالى
ونبذ الشرك تناسوا عداواتهم، وصاروا يعادونه جميعا ويُبغضونه.
فألّف الله قلوبهم بقدرته الخاصة القوية، وجعل
رسوله مرجعا لهذا التآلف والتآزر، ونسبه إلى نفسه، حتى تحوّل إلى «حب في الله».
فلما صار الحب لله تعالى، استبعد إمكانية تعرضه
للضياع والنفور، وتوحَّدت غايات حياتهم، وتكوُّنُ مثل هذه الجماعة العظيمة تحت
قيادة الرسول · كانت بشارة بغلبة الإسلام، والتي تحققت فيما بعد في مدة يسيرة. لقد
أشار المفسرون إلى نكات رائعة عن مشاعر الألفة والمحبة التي أنشأها الله تعالى في
قلوب الصحابة، خاصة الإمام الرازي الذي تناول الموضوع بشكل أوسع، وأشار إلى المحبة
الحقيقية وأسباب قوتها وضعفها، يمكن مراجعتها في التفسير الكبير للرازي، نكتفي هنا
بإيراد بعض النصوص المهمة منه:
تغيّرت القلوب تماماً:
قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى:
إن النبي · بعث إلى قوم أنفتهم شديد، وحميتهم
قوية، إن تعرض أحد منهم للطمة قامت القبيلة كلها تحارب حتى ينتقموا من المعتدي،
وبفضل الإسلام تغير حالهم، وصار الواحد منهم يقاتل أخاه وأباه وابنه لأجل الإسلام،
واتحدوا على مناصرة الإسلام وموازرته، وصاروا من أعوانه وأنصاره. قيل: هذه الآية
نزلت في الأوس والخزرج، لِمَا كانت بينهم من العداوات والقتال في الجاهلية، والتي
لقيت الزوال بعد الدخول في الإسلام، وصاروا يتحابون ويتوادون، فلو لا فضل الله
عليهم لما أمكن محو تلك العداوات التي توارثوها من الأجيال، واستبدالها بالوئام
والوفاق والألفة. (التفسير الكبير)
القضاء على عداء 120 سنة:
قال الإمام النسفي رحمه الله تعالى:
{وألَّفَ بين قلوبهم} قلوب الأوس والخزرج بعد
معاداتهم لمدة مائة وعشرين سنة. (المدارك)
لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما
ألَّفْتَ بين قلوبهم:
كان العرب مُغرَمون بالقتال وإراقة الدماء
والنهب والسلب قبل الإسلام، كانوا يتقاتلون لأمرٍ تافهٍ، ويستمر لسنوات طويلة، بل
لقرون، لا تخمد نيران الحرب، وكانت الأوس والخزرج بالمدينة قبيلتان متناحرتان،
تدور بينهما رحى الحرب منذ فترة، لا تكاد تتوقف، حريصة لإراقة الدماء والعبث
بالأعراض والحرمات.
فبعث الله محمداً بدعوة التوحيد والعلم
والمعرفة والوحدة والوئام والأخوة العالمية، لكن الناس اعتبروه أحد أطراف النزاع، ووجّهوا
إليه سهام الخلاف والشقاق، جعلوا نزاعاتهم القديمة جانباً، واتخذوا ذاته القدسية
هدفا لكافة أصناف العداء والضغينة والحقد، كانوا يتخوفون من نصائحه ومواعظه،
ويهربون من ظلاله، ففي مثل هذه الظروف لم يكن على وجه الأرض أحد يقدر على غرس روح
المعرفة الإلهية وحب الرسول في قطعان الذئاب وحظائر البهائم، وصهرهم في بوتقة
واحدة حتى يتأهبوا أخوة متحابين، ويعتبروا أنفسهم أتباعا وأحباباً له، والذي كانوا
يعتبرونه قبل أيام من أبغض الناس إليهم. لم يكن ليحصل ذلك بإنفاق جميع ما في
الأرض، فقد ألقى الله تعالى في قلوبهم المودة والمحبة يتحابون مثل الأشقاء، وجعل
ذات الرسول مرجعها ومصدر طاقتها، ولم تكن قلوبهم تتغير لو لا فضل الله عليهم
ورحمته وقدرته، وما ذلك إلا ليدل على قدرته وقوته، كما أن تركيزهم على نقطة واحدة
في وقت حرج دليلاً على حكمته وعلمه. (التفسير العثماني).
نكتة مهمة:
قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى: الحب إن
كان لغرض من أغراض الدنيا، لم يكتُب له الدوام والبقاء، وإن كان الغرض منه رضا
الله ونعيم الآخرة، طال ودام وتقوّى. والناس كانوا يتحابون فيما بينهم لأغراض
دنيوية من الجاه والمال والعزة، فدعاهم النبي · إلى الله والآخرة، ووضع أساس حبهم
عليه، فكان حبا حقيقيا وواقعيا، وهذه هي النكتة التي أشار إليها في التفسير العثماني
بأسلوبه الرائع البليغ. ويمكن استخلاص الأسس التي تبتني عليها بناية الحب في
الجماعة الإسلامية، وما مدى الإخلاص الذي يجب أن يتمتع به المجاهدون في سبيل الله.
(والله أعلم بالصواب)
4- البشارة بالظفر:
إضافة إلى الوثنية والفاحشة والمنكر كان
المجتمع العربي يمزّقه العداوات والحروب القبلية، فقد يلطم المرء طفلا من قوم،
فيثورون عليه، وتشتعل نيران الحرب، فتستمر لقرون. قبيلتا الأوس والخزرج بالمدينة
المنورة هما الأخريان المتناحرتين، تدور بينهما رحى الحرب، وقد طلعت شمس الهداية
من سماء مكة، فأنارت الدنيا وملأت قلوب العرب بالمحبة والمودة، إن لم يكن ذلك
عطراً وخلاصة لمعجزات الأنبياء الذين سلفوا فما هو؟ وفي {عزيز حكيم} إشارة إلى
المصلحة التي بفضلها تمكنوا من إخضاع الروم والفُرس، ورفع راية التوحيد خفاقة
خضراء. (التفسير الحقاني)
كلام خير وبركة:
قال الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى :
كانت الأمة العربية تمزقها العداوات، يريقون
الدماء، وبفضل دعوة النبي · توحّدوا وتحابوا.
مما ذكرنا من النصوص الخمسة يتضح تفسير الآية
الكريمة، قيل: هي نزلت فيمن كانوا يتحابون في الله. أما ابن كثير فقد أورد حديث
ابن مسعود هذا بالسند:
«قال هم المتحابون في الله، وفي رواية نزلت في
المتحابين في الله». (ابن كثير)
كما أشار ابن كثير إلى تلك الروايات التي تذكر قصة
مصافحة المتحابين في الله، أنهم إن تصافحوا غفر الله لهم، وتتساقط ذنوبهم كما
تتساقط الأوراق من الشجر اليابس، لاحظوا ما ذكرناه عند ابن كثير في تفسيره.
فائدة:
قال التهانوي رحمه الله في بيان القرآن:
«لاشك أن إنجاز عمل مّا خاصة إن كان مما يتعلق
بنصر الله، لا يمكن تحقيقه بدون اتحاد الكلمة. (بيان القرآن)
وأهم ما يتعلق بنصر الدين الجهاد، وقد نزلت
الآية في بيان الجهاد، ومن هنا يبرز مدى أهمية التوافق والتآلف بين المجاهدين، والواجب
عليهم نبذ فوارق الجنس واللون واللغة وراء ظهورهم، ويعتبروا جماعة المجاهدين أسرة
واحدة، والاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل المحالفة على تماسك الجماعة
ووحدتها واُلفتها ومودتها، وبعدها يمكن لهم أن يصبحوا جنود الله وجيوشه، وكلما
زادت المحبة والمودة بينهم زادت قوتهم وشوكتهم، حتى إن أحدهم يكفي لمواجهة جماعة الكفار
ودولتهم وجيشهم.
لا يمكن للمجاهدين إنشاء أواصر المودة والمحبة
في القلوب بدون التزهد في الدنيا والإعراض عنها، ويُلزموا أنفسهم طاعة الله
ورسوله، ويجعلوا الدار الآخرة غاية أعمالهم، ويلتزموا بطاعة الأمير... فالمودة
والمحبة من الأمور الضرورية التي لا يمكن التغافل عنها، كما في قوله تعالى {الله
عزيز حكيم} يشير إلى أنه سبحانه وتعالى قادر على إنشاء هذه المودة والمحبة في
القلوب، لذلك عليهم أن يسألوا الله تعالى نعمته هذه، ففيها سعادتهم وراحتهم.