بسم
الله الرحمن الرحيم
{يا أيها النبي حرّض المؤمنين على
القتال. إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا
من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون. الآن خفَّفَ الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا،
فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله،
والله مع الصابرين}.
ملخص معاني الآيتين:
·
أن يحرّض النبي ·
المؤمنين على القتال.
·
سوف ينتصر المسلمون على
عدو يزيدهم عشرة أضعاف. ففيه بشارة وأمر بمواجهة عدو يزيد عشرة أضعاف، ولا يولّوهم
الأدبار. ثم خفّف الله فيه، لكن البشارة لا زالت باقية، وبعد التخفيف يلزم على
المسلمين أن يواجهوا عدواً يزيدهم ضعفين.
·
المسلمون يدركون ما قدّر
الله تعالى في الجهاد من أجر وثواب، والكافر لا يدركها، لحرمانهم من ثواب الآخرة،
لذلك لا يثبتون في الجهاد أمام المسلمين، لأن من جعل الدنيا غايته، لا يقاتل
بالشجاعة والبسالة، وعلى المسلمين أن يتحلوا بالصبر (أي الثبات والهمة) كي يجدوا
نصر الله وتأييده معهم.
مضامين الآية:
* وجه ارتباطها بما قبلها؟
* المعنى الحقيقي لكلمة : (حرّض).
* لا يتلقى المشركون الهزائم إلا لأنهم لا
يفقهون، وما هذا الذي لا يفقهونه؟
* ما الحكم الذي بيّنته الآية؟
* هل الآية 66 نسخت آية 65؟
* كم من الصفات التي يجب أن يتحلى بها مسلم
صابر؟
* كان إيمان الصحابة يزداد كل يوم، فما معنى
قوله: {الآن خفَّفَ الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا}؟
الربط:
قال التهانوي رحمه الله تعالى:
فيما سبق كان بيانا للصلح، وفيما يأتي بيان أصلٍ
حول القتال، كما أن فيما مضى كان بيانا لنصر الله وكفايته، وفيما تأتي أمر بالقتال
تفريعا عليه، (أي بما أن نصر الله معكم، فلا تقعدوا عن القتال بحجة قلة عددكم
وعُدتكم، واخرجوا للجهاد).
معنى «حرّض» :
قال الله تعالى: {يا أيها النبي حرِّض المؤمنين
على القتال}.
لم يأمر بالدعوة إلى الجهاد أو الترغيب فيه أو
التشويق إليه، إنما أمر بالتحريض عليه، وفيما يلي نسرد معاني كلمة «حرّض» في
اللغة:
(1) قال صاحب القاموس: «حرَّضه على الشيء» أي حثه
وحضّه وأهاجه. قال الله تعالى: {يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال} (القاموس
الوحيد، ص 328).
(2) قال صاحب مصباح اللغات:
حرّضه على الأمر: حثّه، فلانا: دفع ما كان بأحد
من فساد في بدنه أو عقله. الحرض: الفساد في البدن أو الدين أو العقل. الحرض: قريب
من الهلاك. (مصباح اللغات، ص 147)
(3) قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:
«أي حثهم وحضهم يقال حارض على الأمر وواظب
وواصب واكب بمعنى واحد. والحارض: الذي قد قارب الهلاك. ومنه قوله عزوجل : {حتى تكون
حرضا} (يوسف 85) أي تذوب غما. (القرطبي)
(4) وقال صاحب الكشاف:
التحريض المبالغة في الحث على الأمر، من الحرض،
وهو أن ينهكه المرض، ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت، أو أن تسميه حرضا: وتقول له:
ما أراك إلا حرضا في هذا الأمر وممرضا فيه، ليهيجه ويحرك منه. (الكشاف)
والنسفي في المدارك اختار الجملة الأولى من هذه
العبارة.
(5) وقال الإمام الرازي في التفسير الكبير:
والتحريض في اللغة كالتحضيض، وهو الحث على
الشيء، وذكر الزجاج في اشتقاقه وجهاً آخر بعيداً فقال: التحريض في اللغة أن يحث
الإنسان غيره على شيء حثاً يعلم منه أنه إن تخلف عنه كان حارضا، والحارض الذي قارب
الهلاك، أشار بهذا إلى أن المؤمنين لو تخلفوا عن القتال بعد حث النبي · كانوا
حارضين أي هالكين. (التفسير الكبير)
(6) وقد أيّد الآلوسي ما ذكره الزجاج، ثم أورد
العبارة الإيمانية التالية:
والحق معه، ويؤيده ما قاله الراغب من أن الحرض
يقال لما أشرف على الهلاك، والتحريض الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب
فيه، كأنه في الأصل إزالة الحرض.
المعنى هنا يا أيها النبي بالغ في حث المؤمنين
على قتال الكفار. (روح المعاني)
وبما ذكرنا اتضح معنى «حرِّضْ» ويمكن تلخيص
مراده بما يلي:
1- أن يبالغ في حث المؤمنين على الجهاد.
2- الاستمرار في الدعوة إلى الجهاد.
3- يجب أن ترافق دعوة الجهاد إحساس بهلاك
المسلمين إن لم يخرجوا للجهاد، فمثلاً مرض ولد شخص، فقال طبيب حاذق: إن لم يتناول
الدواء الفلاني مات، وهنا قدّروا الجهد الذي يبذله هذا الشخص كي يتناول ابنه ذلك
الدواء، كذلك يجب تحريض الأمة الإسلامية على الجهاد، لأنه لا حياة لها بدونه.
(4) الحرض: المرض الشديد الذي يشرف صاحبه على
الهلاك. أما حرّض فمن باب التفعيل، ومن خاصياته: سلب المأخذ، والمعنى: بالغ في
دعوة المسلمين الذين حدث فيهم مرض الجُبن وحب الدنيا حتى تندفع منهم تلك الأمراض.
أو المعنى أن المسلمين يشرفون على الموت بسبب تخليهم عن الجهاد، فادعهم إلى الجهاد
حتى يندفع الهلاك عنهم.
(5) تزيين دعوة الجهاد وتحليتها بحيث تميل قلوب
سامعيها إلى الآخرة، وإلى البقاء من الفناء والهلاك.
فهذه أمور خمسة عرفناها من خلال عبارات
المفسرين، ويلزم على العلماء والدعاة إلى الجهاد أن يقوموا بواجب الدعوة إلى
الجهاد كما أمرهم الله تعالى. إضافة إلى ما ذكرنا فإن هناك نكتتين أخريين:
(1) في المواضع الأخرى أمر الله تعالى نبيه
محمداً · بالقتال والتحريض عليه، كما في قوله تعالى: {فقاتِلْ في سبيل الله لا
تكلف إلا نفسك وحرّض المؤمنين}. وقد سبق تفسيره، ومن هنا عرفنا أن الداعي إلى
الجهاد إن كان مجاهدا فعلاً كان لقوله أثراً على النفوس، وأدعى للاستجابة، إذ
الجهاد عبادة عملية، وليست علمية بحتة.
(2) جمع الله تعالى بين كلمتي «حرِّض» و «القتال»
في قوله {حرِّض المؤمنين على القتال} ولم يذكر الجهاد، للإشارة إلى نكتة مهمة، وهي
أن في الجهاد أعمالاً كثيرة، كالتخبيز وحمل الأمتعة، فمن كلّفه الأمير بعمل وجد
أجر الجهاد كاملا بإذن الله تعالى، أما الدعوة فيجب أن تقتصر على القتال، حتى
يستعد الجيش بكامله للقتال ويندفع له، الجميع منهم يسعى إلى مواجهة العدو، وبعد
التعبئة الكاملة واستعداد الجميع للتضحية بالروح والنفس، إن وكّل الأمير إلى أحدهم
عملا، قام به على أتم وجه. وعلى كل حال، يجب على كل شخص أن يمتلئ بالروح القتالي
والفداء، وهذا معنى التحريض على القتال. والله أعلم بالصواب.
وبيّن العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى مثالا
على تحريض النبي · على القتال بما يأتي:
ولهذا كان رسول الله · يحرض على القتال، عند
صفهم ومواجهة العدو، كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عَددهم وعُددهم
قوموا إلى الجنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير بن الحمام: عرضها السماوات
والأرض؟ فقال رسول الله · «نعم» فقال: بخ بخ ... الخ (تفسير ابن كثير)
إلى هنا كان بيانا لمضمونين من مضامين الآية
السبعة، وقبل تناول بقية المضامين لاحظوا بعض النصوص فيما يلي، لأن فيها إشارات
إلى تلك المضامين، وفي النهاية نذكر خلاصتها، بإذن الله تعالى.
البيان العثماني:
هذه الآية تحثَّ المسلمين على الجهاد، وتأمر
بعدم التهرب منه إن كانوا أقل عدداً، وسوف يغلبون على عدو أكثر منهم عشرة أضعاف
بفضل الله ورحمته، لأن المسلم لا يقاتل إلا لله، فهو يعلم ربه ويسعى إلى تحصيل
مرضاته، ولا ينزل في ساحة القتال إلا بعد معرفته وإيمانه بأن الحياة الحقيقية هي
الموت في سبيل الله، وعلى يقين بأن ثمار فداءه وتضحياته جاهزة له في الآخرة، وسوف
ينالها هناك، سواء انتصر على العدو أو لم ينتصر. ولا يتحمل شيئا من أذى أو ضرر في
سبيل إعلاء كلمة الله تعالى إلا جلب المسرة الأبدية إليه، إن كان من نيته من
الجهاد ما ذكرنا رافقه النصر والتأييد من الله، ولا يتوحش من الموت، فكان أشجع
وأقوى في القتال، أما الكافر ففي غفلة عن هذه الحقيقة، لذلك لا يقاتل إلا لغرض من
أغراض الدنيا الفانية مثل البهائم، ولا يتنعم بنعمة القوة القلبية والنصر الإلهي،
فبناء على ما ذكرنا أمر الله تعالى المؤمنين بالثبات أمام العدو الذي يكبرهم عشرة
أضعاف، إن كان المسلمون عشرون لا يتهربون عن قتال مائتين، وإن كانوا مائة لا
يتهربون عن قتال ألف.
تنبيه:
ذكر الله تعالى عدد 20 و100، ولعل السبب فيه أن
عدد المسلمين لم يكن يتجاوز على عشرين في السرية وعلى مائة في الجيش في ذلك العهد،
والآية الثانية نزلت بعد مدة، وقد تزايد عدد المسلمين، لذلك لا يكون في السرية أقل
من مائة، وفي الجيش أقل من ألف، والتفاوت في بيان النسبة بين الآيتين دليل على
زيادة أعداد المسلمين بين الفترتين.
أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن
آية التخفيف وهي {الآن خفف الله} نزلت بعد أن شقّ على المسلمين الثبات أمام
المشركين إن كانوا عشرة أضعاف المسلمين كما في الآية الأولى، والمعنى أن الله
سبحانه وتعالى رفع الحكم الأول بعدما لاحظ فيكم التهاون، والآن ليس عليكم إلا أن
تثبتوا أمام جيش لا يكبر عنكم إلا مرتين، ولا يجوز الفرار. وهذا الضعف أو التهاون
كان وراء التخفيف، ويمكن أن يكون له عدة أسباب: في أول الهجرة لم يكن المسلمين
بأعداد كبيرة، كما أن قوتهم وجلادتهم كانت مكشوفة، وبعد مدة هرم كثير منهم وضعفوا،
أما الجُدد الذين اعتنقوا الإسلام لم يتحلوا بتلك الصفات التي تحلى بها أوائلهم من
البصيرة والثبات والتسليم والتفويض، وبزيادة العدد حصل الاغترار بالكثرة والضعف في
جانب التوكل على الله، وقد جُبلت الطبائع البشرية على أن ما من عمل وُكّل به ثُلّة
من الناس إلاّ ارتفعت معنوياتهم، وقاموا به بأتم وجه، وما من عمل وُكّل به جماعة
من الناس إلا سعى كل منهم في التخلص منه، ويرى أنه ليس المسئول الوحيد، فلماذا
يقوم به قبل الآخرين. قال الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى: كان المسلمون الأوائل
موفوروا الإيمان واليقين، اُمروا بقتال عدو يزيدهم عشرة أضعاف، أما المسلمين الذين
جاءوا بعدهم كانوا متخلفين عنهم في جانب الإيمان بقدم، فاُمروا بقتال عدو يزيدهم
ضعفين، وهذا الحكم لا زال باقيا، فإن هاجموا على من هو أكبر منهم من ضعفيهم، استزادوا
أجرا وثوابا، ألف من المسلمين في عهد الرسول · جاهدوا ثمانين ألفا من المشركين،
وفي غزوة موتة ثبت ثلاثة آلاف من المسلمين أمام مائتي ألف مشرك، وقد حفل تاريخ
الإسلام بمثل هذه الوقائع. (التفسير العثماني)
البيان الأحمدي:
«يجب الاستمرار في تجنيد الناس، وإلا يورث ضعفا
في القوات. وكان مواجهة جيش يكبر عشرة أضعاف ضروريا في أول الإسلام، ثم خفّفَ فلا
يجب مواجهة ما كان أزيد من المسلمين ضعفيهم». (حاشية اللاهوري رحمه الله)
بيان الخواجه:
لقد تكاثر الأعداء، وأقبلوا على القتال، أما
المسلمون فلاشك أن عليهم أن يعيشوا بهذه الأرض، ولا يعلمون شيئا عن أماكن تواجد
الأعداء، ولا عن عددهم وعُدّتهم، ولمواجهة مثل هذه الظروف أمر الله تعالى رسوله
بالبقاء بحالة الاستعداد التام في الأوقات كلها.
كل من تجهَّزَ للقتال بصحبة الرسول · ومرافقته،
استطاع عشرون منهم على مواجهة مائتي كافر شريطة استعدادهم للتفاني لتحقيق أسمى
مقاصد الحياة، ومائة منهم يغلبون ألفا، وكيف لا يغلب المؤمنون على هؤلاء الكفار
المحرومين عن العقل والحكمة، إضافة إلى حرمانهم من توحيد الهدف والثقة بالله تعالى،
يجهلون الرقي الجماعي والتعبئة العامة، ولا يسعى أحدهم إلا للمنفعة الذاتية، لذلك
يقدمونها على مصالح الملة والشعب، فمن ملأ قلبه رُعبا من مئات الآلهة الباطلة، لا
يقوى على مواجهة تلك النفوس الزكية التي لا تخاف إلا الله، والظاهر أن من تمتع
بصحبة رسول الله · بلغ في الشجاعة والتضحية ما لا يبلغه من جاء بعده، وقد تميّز
بها أصحابه المهاجرون والأنصار الذين عاصروه، كان الواحد منهم يواجه عشرة من الأعداء،
ولمّا رأى الله تعالى في المسلمين ضعفاً خفّف عليهم، وأمر الواحد بمواجهة الاثنين
من الكفار، وهذه من تلك الآيات الخمسة التي اعترف الشاه ولي الله رحمه الله تعالى
بنسخها في القرآن الكريم، لكن لا حاجة إلى القول بنسخها، لأن أحداً من المسلمين إن
استعد لمواجهة عشرة من المشركين، فإن الشرع لا يمنعه منها. (تفسير القرآن)
أسباب ضعف الكفار:
{بأنهم قوم لا يفقهون} ولإدراك تلك الأبعاد
التي أشار إليها القرآن لاحظوا النصوص التالية التي ذكرها أهل العلم:
1- ذلك بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه، وهو
الثواب، وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه. (القرطبي)
(لاشك أن بين معنويات الرجلين فرقا، إذ أحدهما
يسعى لتحقيق رضا ربه، والجنة الجميلة تبتسم وتناديه، وثانيهما يتقدم إلى الظلمات)
2- قال الشاه عبد القادر رحمه الله:
الكافر لا يؤمن بالله ولا بثوابه، وكل من آمن
بهما تحمّس لمواجهة الموت. (موضح القرآن)
فالمسلم متحمس للموت، يلهث وراءه، والكافر
يخافه، والموت يلاحقه.
3- «بسبب أن الكفار قوم جهلة يقاتلون غير
احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته بخلاف من
يقاتل على بصيرة وهو يرجو النصر من الله». (المدارك)
وهذه الأقوال الثلاثة متشابهة، وفيما يلي
لاحظوا ملخص تحقيقات الإمام الرازي:
4- من كان يكفر بالله واليوم الآخر، فإن الحياة
الدنيوية هي أغلى شيء لديه، لذلك يسعى إلى المحافظة عليها، أما الذي يؤمن بالله
واليوم الآخر فإن السعادة الحقيقية لديه هي سعادة الآخرة، وأن السعادة الدنيوية
ليست بمهمة، لذلك لا يعبأ بها، وبالتالي يخوض المعارك مع فرط الشجاعة والإخلاص،
ولاشك أن الساعين إلى المحافظة على أرواحهم لا يطيقون مواجهته مهما بلغوا في
العدد. (التفسير الكبير)
5- الكفار أغبياء، لا يثقون إلا بقوتهم وطاقتهم،
والمسلمون يبتهلون ويتضرعون إلى ربهم، يسألون نصره وتأييده، فهم أولى به من غيرهم.
(لأن النصر يتحقق بإذن الله وليس بفضل القوة)
6- يتمتع المؤمنون بنور معين ورعب مخصوص،
والكفار لا نور لهم ولا رعب. إن المؤمن الذي خرج للجهاد مُضَحِّياً بروحه وماله
لربه، فهو بحالة يشاهد نور ربه وجلاله، فيتقوّى قلبه، ويكتمل روحه، ويتميز بقوة
وطاقة عن غيره، أما قلب الكافر الغبي فيخلو عن العلم والمعرفة ومشاهدة النور
المذكور. (التفسير الكبير)
حكم الآية المباركة:
في السابق أمر بالثبات أمام عدو يكبر المسلمين
عشرة أضعاف، والآن أمر بالثبات أمام عدو يكبرهم ضعفين، كما قال الإمام أبو بكر
الجصاص رحمه الله تعالى:
وكان الفرض في أول الإسلام على الواحد قتال
العشرة من الكفار لصحة بصائر المؤمنين في ذلك الوقت وصدق يقينهم، ثم لما أسلم قوم
آخرون خالطهم من لم يكن لهم بصائرهم ونياتهم، خفف عن الجميع وأجراهم مجرى واحداً
ففرض على الواحد مقاومة الاثنين. (أحكام القرآن)
والمعنى أن الله ألزم الجميع حكماً واحدا يخص
الضعفاء، لكن البشارة لا زالت باقية للأقوياء، الذين إن ثبتوا وواجهوا عدوا يكبرهم
عشرة أضعاف، فإن الله ينصرهم ويؤازرهم. كما قال الإمام ابن كثير:
«ثم نسخ هذا الأمر، وبقيت البشارة». (تفسير ابن
كثير)
وقال الشاه عبد القادر رحمه الله:
يعظّم الله أجر من هاجم على عدو يزيدون عليهم
أضعافا مضاعفة، فقد قاوم ألف مجاهد ثمانين ألفا من المشركين في عهد الرسول ·.
(موضح القرآن)
هل الأمر الذي في هذه الآية قد
نُسخ؟
لاشك أن التخفيف وقع فيه، كما أخرج البخاري عن
عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ذكره ابن كثير بطرق عديدة، قال:
عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت {إن يكن
منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} شق ذلك على المسلمين حتى فرض الله عليهم أن لا
يفر واحد من عشرة، ثم جاء التخفيف، فقال: الآن خفف الله عنكم. (التفسير ابن كثير)
قال البعض: حكم الآية الأولى منسوخ، ورفض ذلك
آخرون.
وقد أورد القرطبي والجصاص رحمهما الله تعالى
كلاما جيدا في هذا الموضع، فليرجع إليه من شاء. لكن الأولى عدم القول بنسخ هذه
الآية لعدة أسباب، إذ فيها كثير من الأحكام ما عدا الحكم المخفف. (والله أعلم
بالصواب)
المسلمون الصابرون:
للصبر معاني كثيرة، وهو عبارة عن وصف يتخلص في
«ضبط النفس» والتعلق مع الله تعالى في الحالات كلها، والثبات على الحق والأعمال
الصالحة، والاجتناب عن المعاصي، والصبر عند المصيبة، كل هذه المعاني تشملها كلمة
الصبر.
وإذا كان اللقاء مع عدو يزيدهم أضعافا مضاعفة،
فإن الواجب على المؤمنين أن يتحلوا بصفات إضافية حسب تحقيق الإمام الرازي، وهي كما
يلي:
1- أن يكون شديد الأعضاء قويا جلدا.
2- أن يكون قوي القلب شجاعا غير جبان.
3- أن يكون غير منحرف إلا لقتال أو متحيزا إلى
فئة. (التفسير الكبير)
ما معنى الضعف؟
قال الله تعالى: {وعلم أن فيكم ضعفا} قد يتساءل
هنا أحد: أن المؤمنين في عهده · كانوا في تقدم وازدهار في إيمانهم، فما معنى حدوث
ضعف فيهم؟ والجواب عنه قد تناولته النصوص التي أسلفناها، وفيما يلي ما قاله
العلامة أشرف علي التهانوي:
«أما معنى الضعف فأرى أن هناك ضابطة عامة، وهي:
إن كان العاملون قليلون، وخوّلت إليهم مهمة، حسبوها ضرورية، وشعر الجميع بالقوة
والاندفاع إلى العمل، لأن كل واحد منهم ظنّ أنه هو خوطب بها، وأن عليه إنجازها.
أما إن كثُر العدد، ظنّ كل منهم أنه ليس الوحيد الذي يجب عليه أن يقوم به، ويقتصر
عليه، فهناك غيره من يقدر عليه، ولماذا لا يقوم الجميع به على وجه التساوي؟، وهذا
يؤدى إلى إضعاف معنوياتهم. ومن هنا عرفنا أن حماسهم وشجاعتهم في بدر وغيرها من
المعارك الأوّلية تختلف عما لحقتها من المعارك، وكلما زاد العدد ضعفت المعنويات،
وهذا الذي نُقل عن بعض السلف، بأن الحكم بمواجهة عشرة أضعاف كان في بدر، والتخفيف
كان فيما بعدُ، ولا شك أنه أمر طبيعي، فلا يجوز الشك في الصحابة، لأن إيمانهم كان
في ازدياد باستمرار ولم يلحقهم ضعف قط. (بيان القرآن)
وسيلة استمرار الجهاد:
الجهاد ماض إلى يوم القيامة، إذ لا بقاء
للإسلام بدونه، وقد أشار الله تعالى في هذه الآية المباركة إلى طريقة الاستمرار في
الجهاد، وهي التحريض على القتال، كما قال الله تعالى: {يا أيها النبي حرّض
المؤمنين على القتال} والمعنى أن الدعوة القوية ضرورية لاستمرار الجهاد، ولا يمكن
إيجاد جهاد قوي بدون دعوة قوية له، وقد عمل به النبي · كما عمل بغيره من أوامر
الله تعالى، ودعا إليه بشدة وقوة، افتحوا ما شئتم من كتب الحديث، تلاحظون مئات
الأحاديث التي تصرّح بذلك، إضافة إلى ما ذكر من فضائل الجهاد التي تبعث في القلب
القوة والنشاط والحياة والاندفاع، حتى يشعر روحه يرغب فيما أعد الله له في الآخرة.
ومن هنا عرفنا أنه إن دعونا الناس إلى الجهاد
وفق ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم، لن يتخلف أحد من المسلمين عن الجهاد في
سبيل الله، أدرك ذلك أعداء الإسلام، حتى تناولوا كلمة الجهاد بالتشكيك، وبه ترتبت
آثار سيئة على الدعوة والجهاد، وأدى إلى إضعاف المسلمين في العالم. فظروف اليوم
تستدعي العلماء إلى إحياء فريضة الجهاد عملاً بقوله تعالى: {حرِّض المؤمنين على
القتال} فليحرضوهم على القتال، ثم إن من فضل الله علينا أنه ذكر لفظ «القتال» في
الموضعين اللذين فيهما دعوة للجهاد، فلا مساغ للتأويل فيه، ومعناه الواضح هو:
القتال في سبيل الله، والأمر بالتحريض عليه.