بسم
الله الرحمن الرحيم
{لو لا كتاب من الله سَبَقَ
لمسَّكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله، إن الله
غفور رحيم}.
ملخص معاني الآيتين:
لو لم يسبق كتاب من الله بالعفو، لمسَّكم عذاب
أليم فيما أخذتم من المال والفدية.
وما أخذتم من المال فهو حلال وطيب لكم، واتقوا
الله فيما تأتي من الأيام، إن الله غفور رحيم. فلقد عفا عنكم، ورحم عليكم، إذ أحل
لكم مال الفدية والغنيمة، وجعلهما طيبا.
{لو لا كتاب من الله سبق} ما
المراد منه؟
فيه عدة أقوال لأهل العلم. ردّ الرازي على
أكثرها، وقال:
«معناه: لو لا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو
عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم». (التفسير الكبير)
أما الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى فله رأي
مختلف عنه، حيث قال:
«لو لم يسبق في علم الله تعالى إسلام عدد من
هؤلاء الأسرى..لمسَّكم..» (موضح القرآن)
أما القرطبي فذكر الأقوال التالية:
1- أي بتحليل الغنائم.
2- الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر ما
تقدم أو تأخر من ذنوبهم. لقول رسول الله · لعمر في أهل بدر: وما يدريك لعل الله
اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. خرّجه مسلم (القرطبي)
3- الكتاب السابق هو ألا يعذبهم ومحمد عليه
السلام فيهم.
4- الكتاب السابق هو ألا يعذب أحداً بذنب أتاه
جاهلا حتى يتقدم إليه.
5- الكتاب السابق هو مما قضى الله من محو
الصغائر باجتناب الكبائر.
(وهذا القول نسبه الرازي إلى المعتزلة)
6- وذهب الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة
تحت اللفظ وأنه يعمها. (القرطبي)
أما ما ورد في المدارك وروح المعاني وبيان
القرآن حول معاني هذه الآية الكريمة، فقد جمعها العلامة العثماني في التفسير
العثماني بما يلي:
«والمعنى أن ما فعلتموه يستدعي معاقبة أولئك
الذين أشاروا عليك بنية جمع المال، لكن المعاقبة ممتنعة لما سبق في كتاب الله
تعالى، وهي أمور كثيرة:
1- المجتهد لا يعاقب على مثل هذا الخطأ
الاجتهادي 2- ليس من سنة الله تعالى تعذيب أحد ما لم يصرّح بالحكم أمراً أو نهياً
3- لقد عفا الله أخطاء أهل بدر 4- السلوك الذي انتهجوه قبل الموعد بالخطأ، وهو
إطلاق الأسرى بالفدية، كان مما تقرَّرَ في علم الله أنه سيُؤذَنُ لهم به فيما تأتي
من الأيام، كما في سورة محمد: {فإمَّا مَنَّاً بعدُ وإما فداءً}. 5- كما أن الله
لا يُعذِّبُ أحداً مادام فيهم رسول الله ·، أو كانوا يستغفرون بنية صادقة 6- لقد
سبق في علم الله أن كثيراً من هؤلاء الأسرى يُسلمون. وعلى كل حال، لو لم تكن تلك
الموانع التي أسلفناها، لكان الخطأ الذي صدر منهم جليلاً يستدعي عذاباً عظيما.
(التفسير العثماني)
فائدة:
لم نسرد ما سردنا من الأقوال إلا لاستيعاب معني
الآية الكريمة، وإلا فالمقصود الحقيقي من إنزال هذه الآية هو العتاب على تضييع
فرصة سنحت لهم لإذلال الكفر والشرك، وإعزاز الإسلام وتكريمه وحماية أهله، فقد أفرجتم
عن أعداء الإسلام بعدما أخذتم منهم الفدية. وفي الواقع يجب على المسلمين أن
ينفعلوا مع القرآن والروح الذي يريد أن ينفخ في قلوب المسلمين، وأن يسألوا الله
تعالى إصلاح طبائعهم وعاداتهم وأحوالهم. وهذه الآيات الثلاث تدعو المسلمين إلى طبع
نفوسهم على تلك الخصال التي ذكرها فيها، وأنهم إن فعلوا ذلك اطَّلعُوا على حقيقة
الإسلام ومكانته العظيمة، كما عرفوا نجس الكفر وخبثه الباطني. (والله أعلم
بالصواب)
أراهم الله العذاب:
والعذاب الذي كان من المقرر إنزاله عليهم أراه
الله نبيه، فبكى رسول الله · كثيرا، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه.
قال الإمام النسفي رحمه الله تعالى:
روي أن عمر رضي الله عنه دخل على رسول الله ·
فإذا هو وأبو بكر يبكيان، فقال: يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيتُ، وإن لم
أجد بكاءً تباكيت، فقال: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض عليَّ عذابهم
أدنى من هذه الشجرة. (لشجرة قريبة منه). (المدارك)
واللفظ في رواية:
«لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر
وسعد بن معاذ». (المدارك)
{فكلوا مما غنمتم}
جاء في الروايات أن الصحابة امتنعوا عن أكل مال
الفدية بعدما نزل عليهم الوعيد الشديد بالعذاب، خوفا منه، فنزلت هذه الآية، وأشارت
إلى أنه مال حلال وطيب، فكلوه.
قال النسفي:
«رُوي أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم
إليها، فنزلت. وقيل: هو إباحة للفداء، لأنه من جملة الغنائم». (المدارك)
وقال الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى:
{واتقوا الله} أي اخشوه رغم ما تصدر منكم من
أخطاء، فإنه يغفر لكم، لقد تخوّف المسلمون بعدما سمعوا حكم الأسرى، فنزلت هذه
الآية لتسليتهم، وقالت كلوا هذه الأموال فإنها مما أعطاها الله لكم، فكلوها هنيئا
مريئا، لكن لا تقاتلوا من أجل الغنيمة، ومن هنا قالت الحنفية: لا يجوز الإفراج عن
الكافر بالمال إذا أمسكهم المسلمون أثناء القتال، ولا بدون مال حتى يلحقوا
بالمشركين، لكن يجوز استرقاقهم، أو الإخلاء عنهم حتى يسكنوا بين المسلمين بذمتهم
وعهدهم، أما الإمام الشافعي فيجوز عنده الأول، وهو إطلاق سراحهم بالمال، قال الله
تعالى في سورة محمد: {فإمَّا مَنَّاً بعدُ وإما فداء}. (موضح القرآن)