{سورة الأنفال مدنية، الآيات : 70، 71}

   بسم الله الرحمن الرحيم
{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما اُخذ منكم ويغفر لكم، والله غفور رحيم. وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبلُ فأمكن منهم، والله عليم حكيم}.

ملخص معاني الآيتين:

من هؤلاء الأسرى من آمن منهم، وأخلص إيمانه لله، وافتدى نفسه بالمال، لا يتأسف عليه، فإن الله سيُعوّضه بمال أكثر منه، ويغفر له، فإن عادوا وخانوا الله ورسوله، فإنهم سيواجهون مصيرا مخزيا.

سبب نزول الآيتين:

هذه الآيت نزلت في عباس بن عبد المطلب وأبناء إخوته عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في العباس، وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث. (التفسير الكبير)
وقال الرازي: إنها نزلت في الكل، وهذا أولى. (التفسير الكبير)
أقصى ما في الباب أن يقال: سبب نزول الآية هو العباس رضي الله عنه، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. (التفسير الكبير)

تفسير موجز:

«أبدى بعض الأسرى استعدادهم للدخول في الإسلام، (مثل العباس رضي الله عنه) فقيل له: إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيراً مما اُخذ منكم، ويغفر لكم، والله غفور رحيم. وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل، وهنا إشارة إلى العهد الذي أخذ من بني آدم من ذريته، قال ألست بربكم قالوا بلى. أو أراد به بعض بني هاشم الذين وعدوا في حياة أبي طالب بحماية النبي ·، والآن جاءوا لمحاربته مع المشركين في بدر، وليشهدوا الآن عاقبة خيانتهم، فقد وقعوا في أيدي المسلمين، وسوف يعاقبون في المستقبل إن عادوا لحالهم، ولا يمكنهم إخفاء ما في قلوبهم، ولا إعاقة الترتيبات الحكيمة التي اتخذها. قال الشاه عبد القادر رحمه الله: فتحقق ما وعدهم الله تعالى، فقد أثرى ثراءً فاحشا منهم من أسلم، ومن بقي على كفره خاب وخسر». (التفسير العثماني)
وقال اللاهوري رحمه الله:
قال بعض أسارى بدر: لم نخرج لقتالكم إلا بعدما أجبرونا عليه، ما أردنا قتالكم، فقيل لهم: إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما اُخذ منكم إن أسلمتم، وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل، فأمكن منهم. (حاشية اللاهوري)

قصة العباس بن عبد المطلب:

كان العباس عم النبي · الذي كان يحبه حبا جمًّا، وقد قال له عمر: أسلم فإن إسلامك أحب إليَّ من إسلام والدي الخطاب، فإنني أدري كم يفرح النبي · بإسلامك. (تفسير ابن كثير)
أورد الرازي وغيره من المفسرين قصص عباس الكاملة تحت هذه الآية، وفيما يلي نسرد بعضها التي لها علاقة بالآية، لاحظوا نص ما ذكره صاحب تفسير «أنوار البيان»:
قدم عباس إلى بدر مع المشركين في جندهم، خرج من بيته مع عشرين أوقية يُطعم بها أصحابه. (وكان العباس واحداً من أولئك الذين انتابوا على إطعام الجند أجمعه، ولم  تأتِ نوبته إلا يوم القتال) فبقيت عنده عشرون أوقية، وقد أخذها الصحابة منه في بدر، ولمّا اُسِرَ، وجِيئَ به إلى المدينة، طُولب بالفدية، فقال: لقد أخذتم مني عشرون أوقية في بدر، فقال النبي · ادفع غيرها، فقد أردتَ بها محاربتنا، وكان مما قال العباس: يا رسول الله: لقد كنتُ مسلماً، فقال النبي ·: يعلم الله بإسلامك، وسوف يؤتِكَ خيراً مما اُخذ منك، فافدِ عن نفسك وابني إخوتك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبه بن عمرو، فقال العباس: ما أردتَ إلا أن أتسوّل قريشا ما بقيتُ، ليس لديَّ من المال ما أفدى، فقال النبي ·: أين المال الذي دفنتما أنتَ وأم الفضل؟ وقد قلتَ لها: سوف يكفي هذا المال أبناي عبد الله وعبيد الله وفضل وقثم إن أنا قُتلتُ في بدر، فقال العباس: والله لا يعلمه أحد سوى أم الفضل، فمن أخبرك به؟ فقال: الله، فقال العباس: أشهد أنك رسول الله. (من معالم التنزيل 2/263 وابن كثير 2/367)
وعند البخاري في صحيحه (1/428) قال بعض الأنصار: يا رسول ائذن لنا نخلّي عن العباس، ولا نأخذ منه الفدية، فقال النبي ·: لا تتركوا درهما واحداً.
هذا خير نموذج للعدل في الإسلام. ولمّا دخل العباس في الإسلام كافة، رأى ما وعده الله تعالى صادقاً، كان يقول: لقد عوّضني الله تعالى عن عشرين أوقية بعشرين رقيقا كلهم يكسبون المال لي، وأرجو من الله تعالى المغفرة التي وعدني بها. وفي رواية قال: لقد عوّضني الله تعالى بما اُخذ مني بأربعين رقيقا. وفي رواية: لقد عوّضني الله تعالى بمائة أضعاف مما اُخذ مني. (أنوار البيان)
وقد أورد صاحب المدارك القصة التي جاء فيها أن النبي · أعطى العباس بملإ رداءه لمّا جاءه مال البحرين.
«روي أنه قدم على رسول الله · مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضأ لصلاة الظهر، وما صلى حتى فرّقه وأمر العباس أن يأخذ منه، فأخذ منه ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما اُخذ مني، وأرجو المغفرة، وكان له عشرون عبداً، وإن أدناهم ليتجر في عشرين ألفاً. وكان يقول: أنجز الله أحد الوعدين، وأنا على ثقة من الآخر». (المدارك)
وقال القرطبي رحمه الله:
وذكر أنه أسلم حين أسر يوم بدر، وذكر أنه أسلم عام خيبر، وكان يكتب لرسول الله · بأخبار المشركين، وكان يحب أن يهاجر، فكتب إليه رسول الله ·: امكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا. (القرطبي)

وعد الله تعالى:

وعد الله تعالى برسوله أنهم إن خانوا ومكروا أو حاربوا، فإن الله أمكنك منهم وهو معك، وسوف يجازيهم على أعمالهم.
ويجب على المسلمين أن يجتهدوا في دعوتهم إلى الإسلام، ويسخروهم لنصر الدين وتأييده، فإن أرادوا الكيد، فإن الله يعلم كيدهم، وسوف يعاقبهم عليه. (والله أعلم بالصواب)

إن يعلم الله في قلوبكم خيراً:

المراد من الخير في الآية الإيمان عند أكثر أهل العلم، أي إن صدقتم في إيمانكم مع الله، وذكر الإمام الرازي ستة أشياء ضمن هذا الخير:
1- الإيمان
2- العزم القوي على طاعة الله ورسوله ·.
3- التوبة عن الكفر.
4- التوبة عن الذنوب كلها.
5- العزم على نصر الرسول.
6- التوبة عن محاربة الرسول. (التفسير الكبير)
وهذه الأمور متقاربة المعنى، ومجموعها يسمى «الخير». والمعنى: إن كان في قلوبكم هذا الخير الذي ذكرناه، فإن الله يجازيكم عليه خيرا ويغفر لكم.

معنى الخيانة في الآية:

{وإن يريدوا خيانتك} ما المراد من الخيانة في الآية؟ أورد الإمام الرازي عدة أقوال فيه:
1- الخيانة في الدين، أي الكفر بالله.
2- الخيانة في وعدهم في دفع الفدية.
3- الخيانة في العهد الذي أعطوك أنهم لا يحاربونك فيما تأتي من الأيام. (التفسير الكبير)
والمهم، ما من خيانة أرادوا ارتكابها، إلا وخابوا وخسروا فيها بفضل الله تعالى.
في الآية الأولى تطمين للأسرى بأن أبواب الرحمة والعفو مفتوحة لهم، وفي الآية الثانية تسلية للمؤمنين بالمداومة على الدين والجهاد، ولا يضرهم خيانة خائن ولا كيد كائد. ويمكن استنباط بعض الرموز الحربية من الآيتين، ومنها أن الأسرى لا يزالون يعملون لحساب العدو، ويسعون إلى الاطلاع على الأسرار ونقاط الضعف في الطرف الآخر، فإن أسلموا وأخلصوا إيمانهم لله، أمكنهم أن يقدّموا إلى الإسلام الكثير من الخدمات فيما يتعلق بتقدّم عملية الجهاد، فإن أردتم استبقاءهم، فأحسنوا إليهم، وتعاملوا معهم بالخلق الحسن، ليقتربوا من الإسلام، كما يجب على المسلمين أن لا يغتمّوا بخيانات المشركين ومكرهم، بل عليهم أن يفعلوا ما أمرهم الله تعالى، ويتوكلوا عليه، إنه عليم حكيم.. {والله عليم حكيم} فإنه عليم بخيانة الخائن وكيده، وسوف يهيئ بحكمته من الظروف ما تقضي على خياناتهم فيخيبوا ويخسروا. وكلما نظر المسلمون إلى كيد العدو وخيانته، جعلوا نصب عينهم أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، حتى يزيّن الله قلوبهم بنعمة التوكل على الله والثقة به. (والله أعلم بالصواب)

لاحظوا العبارة التالية:

والمعنى أنهم إن لم يخلصوا نياتهم، وما قصدوا إلا خداعك، فلا تقلق، فإن الله سيبطّل كيدهم، وسوف يمكّنك منهم فتأسرهم، كما وقع ذلك يوم بدر {وإن يريدوا خيانتك} أي إن لم يصدقوا في إيمانهم بقلوبهم، بل أرادوا بإسلامهم خداعك. ومعنى «الخيانة» عام يشمل كل أصناف الكيد وما يبطّنون من الغدر والخيانة، و «الأمانة» ضدها.
«الخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ونقيض الخيانة الأمانة». (راغب)
{فقد خانوا الله من قبل} أي خانوك بغدرك وخروجهم لمحاربتك. (والخيانة مع الرسول خيانة مع الله).
{فأمكن منهم} أي جعلهم الله في يدك تأسرهم، كما في بدر «أي أقدرك عليهم حسبما رأيت في بدر». (روح المعاني)
{والله عليم حكيم} يعلم الخائن من غيره. {حكيم} سيتخذ من التدابير ما تُبطّل خيانتهم، حتى يتحقق معنى العلم والخيانة. (التفسير الماجدي)