{سورة النساء مدنية، الآية 71}



{بسم الله الرحمن الرحيم}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)}.

ملخص معاني الآية:

يا أيها الذين آمنوا حذوا سلاحكم وأجهزتكم الدفاعية، ثم فوّجوا أنفسكم في كتائب صغيرة وكبيرة، حسب الضرورة والحاجة، واخرجوا للقتال في سبيل الله.

وجه الإرتباط:

فيما يلي لاحظوا أقوال أهل العلم في وجه الارتباط بما قبلها من الآيات:
(1) الجهاد من أهم المسؤوليات:
واعلم أنه تعالى عاد بعد الترغيب في طاعة الله وطاعة رسوله إلى ذكر الجهاد الذي تقدم، لأنه أشق الطاعات، ولأنه أعظم الأمور التي بها يحصل تقوية الدين. (التفسير الكبير)
(2) الجهاد أصل الأصول:
لمّا أكّد الله تعالى على ضرورة طاعة الله والرسول ·، بات يذكر الأمور التي تتطلب طاعة الله ورسوله أكثر، ومن أهمها وأصل أصولها الجهاد في سبيل الله، فقال: يا أيها الذين آمنوا خذوا سلاحكم، واخرجوا لقتال أعداء الله بشكل جماعي أو أرتالاً.
(3) مرافقة الأنبياء والصديقين تتطلب الجهاد:
من هنا يذكر الجهاد، وقبلها أشار إلى أن من أطاع الله ورسوله كان مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وبما أن الجهاد من أشد و أصعب أوامر الله تعالى، خاصة للمنافقين، الذين سوف يذكرهم الله تعالى، لذلك أمر بالجهاد حتى لا يتمنّى متمنّ بمرافقة الأنبياء والصديقين، إذ هي ليست بهيّنة ولا متاحة للجميع. رُوي أن كثيرا من الناس دخلوا في الإسلام في أول الأمر، منهم من كان ضعيف الإيمان، فلما كتب الله عليهم الجهاد تزلزلت أقدامهم، وبعضهم أضحوا يواطئون الكفار في أقاويلهم، فنزلت هذه الآية. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا، لقد عرفتم أحوال المنافقين، فالأولى بكم أن تُصلحوا أحوالكم، وتأخذوا حذركم، سواء كان ذلك بالسلاح أو بالتدبير، بالعقل أو الأجهزة، وانفروا لقتال الأعداء مجتمعين أو متفرقين. (التفسير العثماني)
(4) الغرض نفض الأيدي من مخلّفات الهزيمة:
يجب ملاحظة خلفية هذه الآيات لإدراك أبعادها ومفاهيمها مثل الآيات الأخرى، فقد مُني المسلمون بهزيمة آنية يوم اُحد، والتي رفعت معنويات المشركين المشلولة، فلم ينهض المشركون وحدهم إنما شاركهم غيرهم من القبائل المجاورة في إعداد جبهة قتالية خطيرة، في مثل هذا الوقت الحَرِجِ وُجّه المسلمون إلى الهمة والثبات والاستقامة، فقال: {خذوا حذركم} وفي معنى الحذر توسع، يشمل كل شيء يساعد في الحماية من العدو، سواء كان سلاحا أو تدابير عسكرية، وقس على هذا. والمعنى: استعدوا لمواجهة العدو بكافة الأدوات القتالية، وأقبلوا عليه. (التفسير الماجدي).
وبعد إدراك وجوه الارتباط بين الآيات لاحظوا معنى أخذ الحذر فيما يلي:

{خذوا حذركم}:

(1) قال الواحدي رحمه الله: فيه قولان، أحدهما المراد بالحذر السلاح، والمعنى خذوا سلاحكم. الخ (التفسير الكبير)
(2) أي احترزوا منه وتيقظوا له. (تفسير الجلالين)
وقال القرطبي رحمه الله:
(3) هذا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد ·، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع.
ثم قال بعدما ذكر وجه الربط بين الآيتين:
وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم، ويعلموا كيف يردون عليهم، فذلك أثبت لهم، فقال: {خذوا حذركم} فعلمهم مباشرة الحروب. (القرطبي)

كلام بركة:

أي لا بأس بلبس الدرع أو استخدام الترس أو اتخاذ تدابير وقائية أو تعلّم فنون الحرب بنية الوقاية أثناء القتال.

خلاصة الأقوال الأربعة:

وبتأمّل الأقوال الأربعة يتضح كامل استراتيجية الدفاع في الحرب، كما أشارت إلى ضرورة الاهتمام بتوجيه ضربة قاسية إلى العدو وباتخاذ تدابير وقائية، ونشر شبكة استخباراتية لرصد تحركات العدو، والاطلاع على كافة الممرات، وحسن اختيار الهدف والطرف الأضعف، واستخدام الطرقات الآمنة، ومراقبة تنقلات العدو، وإعداد السلاح وفق استعدادات العدو، وتسخير المواهب العقلية والجسدية للإضرار بالعدو بالقدر الممكن، وانتهاج نهج يضمن ضرراً أكبر للعدو ووقاية أكبر للمجاهدين، فباختصار يجب أن يكون نُصب أعينكم إلحاق الأذى بالعدو والدفاع عن النفس، و خوض القتال منطلقين منها. (والله أعلم بالصواب)

ملحوظة:

معنى الحذر الوقاية، لكنه لا يعني الفرار عن القتال، بل المراد الدفاع بشكل أفضل عن النفس وعن الجيش الإسلامي أثناء القتال، كما يتضح ذلك بألفاظ الآية الكريمة. (والله أعلم بالصواب)
{فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} فانفروا أي انهضوا لقتال العدو. (القرطبي)
ثبات.. كناية عن السرايا. (القرطبي)
جميعا معناه الجيش الكثيف. (القرطبي)
وهذا هو المعنى الذي ذكره أكثر أهل العلم. فيما يلي لاحظوا عبارتين من عباراتهم:
(1) {ثبات} متفرقين، سرية بعد أخرى. {أو انفروا جميعا} مجتمعين (جيشا واحدا) (الجلالين).
(2) معناه: انفروا إلى العدو إما ثبات، أي جماعات متفرقة، سرية بعد سرية، وإما جميعا، أي مجتمعين كوكبة واحدة. (التفسير الكبير)

خلاصة الأقوال كلها:

وخلاصة هذه الأقوال ما نقلنا عن الإمام القرطبي، أن الله سبحانه وتعالى يريد تعليم طريقة الجهاد للمجاهدين. فقد وجّه أولاً إلى استراتيجية الدفاع بكلمة {خذوا حذركم} والآن بلفظ {انفروا} يشير إلى طريقة الخروج للقتال، وبما أن الغرض من القتال هو إعلاء كلمة الله تعالى، لذلك أمر باختيار الاستراتيجية التي تضمن ضرراً أكبر بالعدو ونفعاً أكبر ودفاعاً أعظم عن الجيش الإسلامي، فإن رأيتم حرب العصابات تلائم الموقع، فتلك كما قال {انفروا ثبات} وإن رأيتم الزحف مع جيش عظيم فكما قال {انفروا جميعا}.
كما يمكن أن يكون المراد - والعلم عند الله - التجسس الكامل عن العدو ومراقبته واتخاذ التدابير ثم القيام بحرب عصابات فرادى فرادى أو مثنى مثنى أو سرية صغيرة، لإلحاق الأذى بالعدو، وإتعابه، وتدمير طرقه، ثم تنظيم هجوم كبير عليه منطلقين من قوله تعالى {انفروا جميعا}. لكنه مستبعد لكلمة (أو) في الآية الكريمة.

فائدة:

قال اللاهوري رحمه الله:
لقد أرسل الله المسلمين حُكّاما يحكمون بالعدل، الذي أكرمهم به. وكلما تقدموا بهذا العدل إلى الأمام، تخلقت أسباب القتال، يسعى الضعفاء والمجموعات الصغيرة إلى تبجيله وتعظيمه، والكبراء إلى معارضته. ومن هنا وجب على الجماعة الكبيرة تخليص هذه المجموعات الصغيرة من بطش وظلم أعداء الإسلام، فتضطر إلى القتال.
إلى الركوع التاسع كان بيانا لبرنامج تعليم وتربية دعاة الحق تربية كاملة، ومن الركوع العاشر بدأ ببيان رحلة الدعوة. (انتهى)
وبعد هذه الجملة المعترضة نودّ الإشارة إلى معنى الآية الكريمة بالألفاظ التالية:
يا أيها الذين آمنوا.. كلّما خرجتم للدعوة ونشر القرآن خذوا سلاحكم معكم لحماية أنفسكم.

فائدة:

إن المنهج الذي أشار الله تعالى إليه في هذه الآية لطاعة الله والرسول والمصاحبة العالية في الجنة هو عبارة عن الجهاد في سبيل الله، عمل به صحابة رسول الله · عملاً كاملاً، خرجوا في سرايا، فقد قضوا على المتطاولين على الرسول · وأئمة الكفر منطلقين من قوله {انفروا ثبات}. كما خرجوا في جيوش كبيرة، فأنزلوا بها هزائم في أمم العالم. والواجب على المسلمين إحياء طريقتي القتال في كل عصر وزمان. ولا يتغافلوا عن قوله {خذوا حذركم} من أخذ السلاح معهم بشكل إلزامي.

فائدة جليلة:

قال الآلوسي محدّداً معنى الجيش والسرية:
ويسمى الجيش إذا اجتمع ولم ينتشر كتيبة ، وللقطعة المنتخبة المقتطعة منه سرية ، وعن بعضهم أنها التي تخرج ليلاً وتعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة ، أو من خمسة أنفس إلى ثلثمائة وأربعمائة ، وما زاد على السرية منسر كمجلس ومنبر إلى الثمانمائة فإن زاد يقال له : جيش إلى أربعة آلاف ، فإن زاد يسمى جحفلاً ويسمى الجيش العظيم خميساً وما افترق من السرية بعثاً وقد تطلق السرية على مطلق الجماعة. (روح المعاني)

دعاء:

اللهم وفّق الحكومات الإسلامية والجماعات الدينية لإحياء المصطلحات المذكورة. (آمين يا أرحم الراحمين)