{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}.
ملخص معاني الآية:
إن تخلفتم عن الجهاد، هل يعني ذلك نجاتكم من
الموت إذا حضر؟ كلاّ، الموت ليس بمختص بميدان الجهاد، أينما تكونوا يُدرككم الموت،
ولو كنتم في بروج مشيّدة. انظروا إلى المنافقين وأطوارهم الغريبة، إن كان لهم
الفتح والغنيمة قالوا هذا من عند الله، وإن أصابتهم هزيمة قالوا: هذه من عندك. قل
كل من عند الله، فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا.
الأقوال والمراجع:
(1)
الجزع من الجهاد دليل على الغباء:
أي مهما كانت الحصون والقلع التي تقيمون بها
فإنكم لا تنفلتون من الموت، إذ الموت مقدّر للجميع، لا يتأخر عن موعده ولا يتقدم.
يأتيكم الموت سواء حضرتم القتال أو غبتم عنه، فلا مفر لكم منه، فمن الجهل والغباء
خوف الموت وقتال الكفار، ودليل على ضعف الإيمان. (التفسير العثماني)
(2)
أقبلوا على الله وأنتم سعداء بالجهاد:
أوضح هنا أنه مادام لا مفر من الموت، فلماذا
تأتون على الله خالي الوفاض، ليس معكم شيء من أجور الجهاد، أقدموا عليه وأنتم
سُعداء بالجهاد. (التفسير الماجدي)
(3) رد على الخاشعين:
والمقصود من هذا الكلام تبكيت من حكى عنهم أنهم
عند فرض القتال يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال
، فقال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } فبيّن تعالى أنه لا خلاص
لهم من الموت ، والجهاد موت مستعقب لسعادة الآخرة ، فاذا كان لا بد من الموت ، فبأن
يقع على وجه يكون مستعقباً للسعادة الأبدية كان أولى من أن لا يكون كذلك. (التفسير
الكبير)
فائدة:
إلى هنا كان بيانا للجزء الأول من قوله تعالى:
{أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} وقد كتب ابن كثير عليه عدة
صفحات من كتابه، وأراد ترسيخ حقيقة الموت وتعيين وقته، بحيث لا يتقدم ولا يتأخر،
حتى لا يرتكب أحد خطأ التوقّي عن الجهاد خوفا من الموت، وقد أيّد كلامه بالقصص
والحكايات والروايات وما قاله خالد بن الوليد رضي الله يوم وفاته، كما استشهد
بالآيات القرآنية لتوضيحه، إضافة إلى جملة من الأبيات العربية الحلوة، وعلى
الراغبين مراجعة تفسيره. نعود الآن إلى الجزء الثاني من الآية وفيها مباحث جهادية.
فيما يلي بعض النصوص:
نفسية المنافقين المتذبذبة:
أي لاحظوا مزيدا من أطوار المنافقين الغريبة.
فهم إن حالفهم التوفيق، وتحقق لهم النصر، وأحرزوا الغنائم، قالوا هذا من الله، ومن
باب الصُدفة. ما كانوا مؤمنين بفضل لرسول الله · ولا تدبير له في الحرب. وإن تقلب
الأمر عليهم، وواجهوا الهزيمة والنكسة، قالوا: هذه من عندك، فرد الله تعالى عليهم
وقال: قل كل من عند الله، لأنه هو الخالق للأعمال كلها، ولا دخل فيها لأحد، حتى
تلك التي يتخذها رسول الله · هي في الواقع من الله تعالى، ألهمها في قلبه، فما
نسبتم إليه كان باطلا وزوراً ودليلاً على جهلكم، ولا تحسبوا ما حصل قلباً
للموازين، بل لله فيه حكمة، إذ ليس هدفه إلا تعليمكم وابتلاءكم على معاصيكم. فهذا
كان رداً إجماليا على أكاذيب المنافقين، أما تفصيلها ففي الآية اللاحقة. (التفسير
العثماني)
فائدة:
هذا الذي نقلناه عن التفسير العثماني كان
تسهيلا لما كتبه الشاه عبد القادر رحمه الله في الموضوع، وهو كلام شامل وجامع.
فالمنافقون ما كانوا واثقين بالجهاد ولا بأميره
·، لذلك كانوا يتحيّنون الفُرص لطعنهما. فإن تحقق للمسلمين نصر قالوا: ذلك
كان من باب الصُدفة. ثم قاموا بتحليله وتوضيحه بحيث لا يبدو شيء من الفضل للجهاد
والمجاهدين. وإن مُني المسلمون بهزيمة أحدثوا ضجّة ضد رسول الله · والجهاد، وقالوا:
ما الجهاد إلا الدمار، ثم يتناولون الترتيبات التي اختارها رسول الله · في القتال
بالنقد والطعن.
قال الشيخ التهانوي رحمه الله:
من الجهل نسبتها إلى «العمل بالأحكام الشرعية»
أو إلى الشارع (إلى حكم من أحكام الدين، أو إلى رسول الله ·) مثلما كان المنافقون
ينسبونه إلى الجهاد وإلى إمام الجهاد. (بيان القرآن)
يحسب
المنافق الجهاد موتاً..
لقد أشار صاحب بيان القرآن إلى نكتة مهمة،
وخلاصة تقريره: بعض المنافقين كانوا يحسبون المشاركة في الجهاد بمثابة الموت، أو
كانوا يعتقدون أن الجهاد وسيلة الموت، وأن التخلف عنه يزيد في العمر. فإن لقي
المسلمون هزيمة وشهادة في سبيل الله استدلوا بهما على صحة ما ادّعوا، وقالوا: لو
لم يخرجوا لما قتلوا وما ماتوا، وأنه دليل على صدق دعواهم. فإن كان الفتح
للمسلمين، وعادوا من ساحة القتال سالمين غانمين، ثم قيل لهم: لو كان الجهاد موتا
لما عُدنا سالمين، قالوا: ذلك كان من باب الصُدفة، وإلا فقد كنتم مستميتين. (خلاصة
بيان القرآن)
تأدّبوا مع رسول الله ·:
كيف الخوف من الموت؟ الموت لا يأتي إلا عند أجل
معلوم، فإن أصابتكم مصيبة بما كسبت أيديكم، لا تنسبوها إلى نبي الله ·. (حاشية
اللاهوري)