{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}.
ملخص معاني الآية:
(1) فضل الله ورحمته، وإحدى بركات
الجهاد، وضوابط الفيئ.
(2) الفيئ ليس مثل الغنيمة، حتى يُقسّم
مثلها على الغانمين، إذ لا حق لهم فيه، فلا يقسّمه إلا رسول الله · في ضوء
التعليمات الربانية، على أهله وضيوفه وذوي قرابته، واليتامى والمساكين وأبناء
السبيل، كي لا يكون دُولة بين الأغنياء من المسلمين. لذلك أذن إمام المسلمين بتقسيمه
على ذوي الحاجة أو يجعله على مصالح المسلمين، واعلموا أن طاعة الرسول هي طاعة
الله، فما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد
العقاب.
مباحث الآية الكريمة:
لقد بسط أهل العلم الكلام على هذه
الآية، وتناولوا ضمنها المباحث التالية:
(1) من قصد بلفظ {أهل القرى}؟ ذكر
البغوي والقرطبي والجلالان أسماء مناطق مختلفة.
(2) هل الآية نزلت في الفييء أو في
أراضي الغنيمة؟ فأكثر المفسرين أنها نزلت في الفيئ، والبعض يرى أنها نزلت في أموال
الغنيمة الثابتة غير المتنقلة، ولتفاصيل القول الأخير يرجى مراجعة أحكام القرآن
للجصاص وتفسير المدارك.
(3) أحكام الفيئ.. فقد تناول أهل العلم
أحكام الفيئ وأقوال الأئمة تحت هذه الآية الكريمة، وللتوسع يُرجى مراجعة أحكام
القرآن للجصاص وروح المعاني والقرطبي.
(4) في تقسيم الفيئ ورد اسم الله في رأس
القائمة، ولفظه {فلله}. قال المفسرون: لاشك أن الأموال كلها لله تعالى، وذكر اسمه
هنا لم يكن إلا من باب التبرّك والتيمّن. وقيل: أراد به مصاريف الكعبة والمساجد
العامة. وقيل: فيها إيذان بأن الفيئ لا ينحصر استحقاقه على الغانمين، إنما هو
بمثابة خزينة الدولة، يصرفها أمير المؤمنين في ضوء التوجيهات الربّانية. لاحظوا
موضح القرآن وروح المعاني والمظهري والحقاني وغيرها.
(5) نصيب ذوي قرابة رسول الله · هل بقي
إلى الآن أم لا؟ بسط المفسرون الكلام عليه في ضوء أقوال الأئمة.
(6) هل الخمس يجري في الفيئ؟ فعند
الحنفية لا، وعند الشافعية نعم، ارجع إلى تفسير البغوي والقرطبي وروح المعاني.
(7) مسألة حجّية الحديث؟ لقد تناول
المفسرون هذه المسألة بالتفصيل تحت هذه الآية الكريمة، وما ذكره الخازن والقرطبي
وابن كثير كان أكثر استيعابا وأوسع شمولا.
(8) ذووا قرابة النبي ·، وهم بنو هاشم
وبني عبد المطلب، والأدلة عليه في روح المعاني والمظهري. (والله أعلم بالصواب)
تفسير سهل:
هذه الآية تناولت أحكام الفيئ، وورد ذكر
الله في رأس القائمة بلفط {فلله} فقيل: ذكر اسم الله تعالى من باب التبرّك
والتيمّن، كما في الخمس، فقد قال الله تعالى: {فأن لله خمسه}. والبعض فسّر الآية
بلفظ: يحق لله تعالى أن يأمر بصرفها كما يشاء، وليس لأحد أن يقترح من عنده شيئا أو
تحديد نصيب البعض وحسم الأنصباء. ثم قال الله تعالى: {وللرسول} أي الفيئ للرسول
الله ·، بمعنى أن خيار التصرف فيها انتقل من الله إلى الرسول، وأعلمه بمصارفه.
(لا يجوز التصرف في الفيئ مثل الغنيمة،
ولا خمس فيه، على ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى. وكتب المفسرون أن
النبي · كان يتمتع بصلاحيات المالك في أموال الفيئ، ثم إن مصارفها التي بيّنها
الله تعالى فإنها شبيهة بالمصارف التي يُبيّن للمُلاّك. والمصرف الثالث {ولذي
القربى} وهم ذووا قرابة رسول الله ·. ثم ذكر المصرف الرابع والخامس والسادس، فقال
تعالى: {واليتامى والمساكين وابن السبيل} فالفيئ يُصرف في اليتامى والمساكين وابن
السبيل، فكان النبي · يصرف تلك الأموال في ذوي قرابته واليتامى والمساكين وابن
السبيل كما أمره الله، ونفقات أهله كانت من ضمنها يفرزها لسنة كاملة، وما تبقى
منها صرفها إلى مصالح المسلمين لشراء الكراع والسلاح.
وباختصار كان النبي · يتصرف في الفيئ
مثل المالك، وبما أنه كان قد قال في حياته: «لا نورث ما تركناه صدقة» (صحيح
البخاري 436/1). لذلك خلفاءه الراشدون صرفوا تلك الأموال إلى جهاتها المحدّدة في
الشرع. أما أمير المسلمين إذا أصاب الفيئ فليس له أن يتصرف فيه بصفته مالكا له،
إنما يتصرف فيه بصفته حاكم المسلمين وأميرهم، فلا يصرفه إلا في المصارف المحددة ومصالح
المسلمين من السلاح والكراع، وبناء الجسور والأنفاق والطرقات والشوارع، ودفع حوائج
المجاهدين وأهلهم وحوائج العلماء والقضاة والعمال. قال صاحب روح المعاني: أراد
بذوي قرابة رسول الله · : بني هاشم وبني عبد المطلب. ثم قال: يُدفع إليهم نصيب من
الفيئ عند أحمد والشافعي، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، والتقسيم لا يكون إلا وفق
قوله تعالى {للذكر مثل حظ الأنثيين}. ثم ذكر مذهب مالك، فقال: يجوز لإمام المسلمين
أن يصرف الفيئ على المذكورين كما يشاء، أعطى منهم من شاء، ومنع من شاء. ثم ذكر
مذهب الحنفية فقال: سقط نصيب ذوي القربى بعد وفاة رسول الله ·، لأن الخلفاء
الرشدين لم يفرزوا لهم نصيبا خاصا، اللهم إلا من كان يتيما أو مسكينا أو ابن
السبيل، فإنهم يُعطون من الفيئ وفق الأوصاف الثلاثة المذكورة، ويقدّمون على غيرهم
من المستحقين. ثم ذكر اليتامى وقال: يُصرف من الفيئ على يتامى المسلمين من الفقراء
والمساكين.
{كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم} فيها
إشارة إلى الحكمة من وراء تقسيم الفيئ بالشكل المذكور، وهي عدم ارتكاز تلك الأموال
بأيدي الأغنياء، كما كان في الجاهلية، وما يحدث اليوم لا يختلف كثيرا عن الجاهلية،
إذ الأموال التي يتلقاها الحكام من الدول والحكومات عقب الكوارث والحوادث
والزلازل، فإن جزءاً يسيرا منها يذهب إلى المستحقين ذوي الحاجات، والباقي يأكلها
المسئوولون الأثرياء والأغنياء، وذلك لقلة مراقبتهم لله تعالى، استحوذت عليهم
الدنيا ورغائبها، ورسخ حبها في قلوبهم، فيتسببون في خلق تلك الأصناف والألوان من
الاضطهاد والمظلمة، فالقرآن لم يحدّد تلك المصارف إلا ليتم تعاهد الفقراء
والمساكين واليتامى، وتتحقق مصالح المسلمين العامة.
{وما آتاكم الرسول فخذوه} أي ارضوا بما
يقسّم الرسول · من المغانم وغيرها، فخذوا ما آتاكم الرسول، وانتهوا عما نهاكم عنه،
وهكذا تقيّدوا بجميع الأوامر والنواهي. (أنوار البيان)
طاعة الرسول فريضة:
قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
قال الخازن رحمه الله:
«هذا نازل في أموال الفيئ وهو عام في كل
ما أمر به النبي ·، أو نهى عنه من قول أو عمل من واجب أو مندوب أو مستحب أو نهي عن
محرم، فيدخل فيه الفيئ وغيره». (الخازن)
وقد ذكر أهل العلم في هذا الموضع قصة،
واستدلوا بها على حجيّة الحديث، لاحظوها في ألفاظ صاحب أنوار البيان:
قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما
نهاكم عنه فانتهوا} فيها إشارة إلى عدم ضرورة وجود الأوامر والنواهي كلها في
القرآن، لاشك أن الله ذكر الأحكام في القرآن، وهناك عدد آخر منها ذكرها النبي ·
بسنته، فهناك أفعاله وأقواله وتقريراته، (والتقريرات هي ما أقره النبي · من عمل
وقع بين يديه، ولم ينه عنه) وهو من الحجج الشرعية، وقد أشار الله تعالى إلى صفاته
· فقال: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم
الخبائث}.
الرد على منكري الحديث:
ظهر في أيامنا هذه كثير من الزعماء
الأغبياء الذين قالوا: لا يجوز الاحتجاج بالأحاديث النبوية، وبالتالي رفضوا كثيرا
من الأمور الإسلامية. فهذا في الواقع ضلال وكفر، كما أن ادّعاءهم الإيمان بالقرآن
ادّعاء مزيّف، لأنهم إن كانوا يؤمنون بالقرآن، لَمَا رفضوا بحجيّة الحديث، إذ جاء
في القرآن: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} و {من يطع الرسول فقد أطاع الله} و{ما
آتاكم الرسول فخذوه}. (هؤلاء لا يهدفون من وراء رفضهم لحجية الحديث إلا التحريف في
الإسلام، وليس تصديق القرآن، فهم عملاء أعداء الإسلام، يستلمون منهم أموالا طائلة،
ويعملون لحسابهم، من نشر الزيغ والكفر بين المسلمين، (نسأل الله العافية).
فقد أخرج الإمام البخاري بسنده :
4507 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ
وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً
مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ إِنَّهُ بَلَغَنِي
عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ وَمَا لِي أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَتْ
لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ قَالَ
لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } قَالَتْ بَلَى قَالَ فَإِنَّهُ قَدْ
نَهَى عَنْهُ قَالَتْ فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ قَالَ فَاذْهَبِي فَانْظُرِي
فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا فَقَالَ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ
مَا جَامَعْتُهَا.
فعبد الله بن مسعود رضي الله عنه لم
يتردد في نسبة قول الرسول · إلى الله تعالى، وأشار إلى أن من لعنه الرسول فقد لعنه
الله. (أنوار البيان)
ضوابط الفيئ رحمة من الله ومن بركات الجهاد:
من رحمة الله وفضله على عباده، ومن
بركات الجهاد وخيراته أنهم وجدوا ضوابط الفيئ النافعة الطيبة، والمسلمون في القديم
حافظوا على الجهاد، فاستفادوا من بركات الفيئ، فبفضل أنظمة الفيئ وضوابطه يحتفظ
أمير المؤمنين ببعض الأموال التي يصرفها في شراء السلاح والكراع، يقوم برعاية
شئوون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، يَعُمُر مساجد الله، ويتعهد اليتامى
والمساكين، ويهيّئ أسباب الراحة للمسافرين والمعدمين، كما يوفّر منه رزق أهله عند
الحاجة. وبما أن دار الأمير تكتظ بالضيوف والوفود، لذلك يمكنه أن يستخدم هذا المال
في تكريمهم وقضاء حاجاتهم، وهكذا لا يتحمل بيت مال المسلمين المصارف المذكورة التي
تُثقل كاهله عادة، كما لا تُصرف أموال الزكاة والصدقات في غير أوجهها المحدّدة في
الشريعة.
فمن المعلوم أن أموال الزكاة والصدقات
لا يمكن استخدامها في عمارة المساجد وضيافة الأغنياء، ومن أكبر منافع الفيئ أن
أمير المؤمنين يقدر به على شراء السلاح والكراع استعداداً للجهاد، كما سبقت
الإشارة إلى أن النبي · كان يشتري بها السلاح والكراع. وباختصار إن ببركة الجهاد
في سبيل الله إن كان المجاهدون يحصلون على الغنائم من جهة، فإن خمسه الذي يُوجّه
إلى بيت مال المسلمين يتسبب في تقوية خزينة الدولة الإسلامية، ثم إن كان الجهاد من
ناحية القوة والشمولية بحيث يعجز العدو عن مقاومة المسلمين، واضطروا إلى الصلح
والهدنة، فإن ذلك يساعد في إقامة نظام أموال الفيئ الذي بإمكان الأمير أن يستخدمه
لتوفير أسباب الراحة لعامة المسلمين من الفقراء والمعدمين.
اللهم وفّق المسلمين للجهاد في سبيلك،
وللاستفادة من بركاته، وأنقذهم من كافة أشكال التبعية والعبودية. وفي النهاية
لاحظوا فيما يلي كلام بركة يحتوي على عصارة ما تم بسطه على عشرات الصفحات:
كلام بركة:
«أي إن الفيئ لله ورسوله، ينفق منه
أمراء المؤمنين على مصالح المسلمين، والكل لله، وقد شملت الآية مصاريف الكعبة
والمساجد العامة، وذوي قرابة رسول الله · الذين كانوا معه أو من جاءوا بعده، أما
الأغنياء فيجوز لهم الأخذ إن دفع الأمير إليهم». (موضح القرآن)