{سورة النساء مدنية، الآية 88}



{بسم الله الرحمن الرحيم}

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)}.

ملخص معاني الآية:

لا يليق بالمؤمنين أن ينقسموا على أنفسهم لأجل المنافقين، ويفرّقوا كلمتهم، فقد أركسهم الله وأرجعهم إلى الكفر بما كسبوا، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً.

الأقوال والمراجع:

(1) الخلط بين الكفر والنفاق:
وفي الآيات من 88 إلى 91 من سورة النساء ضوابط بشأن قتال الكفار الذين يظهرون بلونين، من الكفر البواح والنفاق الخالص، فقد اختلط نفاقهم بكفرهم. في الآيات المذكورة أشار إلى أحكامهم فيما تتعلق بقتالهم، بمن يقاتلون ومن لا يقاتلونه. وقبلها وجّه تعليمات صريحة ومؤكدة إلي المسلمين بعدم تفريق كلمتهم وشق عصاهم لأجل المنافقين، إنما عليهم أن يوّحدوا كلمتهم، لأن المنافقين ما يريدون إلا ذلك، يريدون أن تقاتلوا فيما بينكم، لذلك يسعون إلى كسب وُدّكم. فباختصار حافظوا على وحدتكم بشكل كامل. قال الحقاني رحمه الله:
«بعض الناس بالمدينة تظاهروا بالإسلام في بداية أمرهم، لكنهم كانوا مفتونين بحب المال والجاه، فكانوا يعادون رسول الله · والمهاجرين، يطعنون فيهم ويُطلعون الأعداء على أسرار المسلمين، ويحرّضونهم على قتالهم. ومن جهة ثانية كان المؤمنون يتمنون طردهم من المدينة، لكن بعض الأنصار ذوي القلوب الرحيمة كانوا يميلون إلى التسامح معهم لقراباتهم، وهكذا صار المسلمون فئتين في المنافقين. (التفسير الحقاني)

وقال في موضع آخر:

وفي يوم اُحد لمّا انسحب عبد الله بن اُبي بن سلول مع أصحابه عن ساحة القتال، وانهزم المسلمون، انقسم المسلمون بالمدينة إلى فئتين، فئة تُطالب بقتل المنافقين، وفئة تقول: يُصلحهم الله، إن قتلهم قالوا، محمد · يقتل أصحابه، فنزلت هذه الآية. (التفسير الحقاني)
(3) ثلاث روايات :
في هذه الآيات ذكر طبقات الكفار والمنافقين الثلاث، ولمعرفة أحوالهم وأحكامهم لاحظوا الروايات التالية:
(1) روى عبد بن حميد عن مجاهد: {فما لكم في المنافقين فئتين}، قال: قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتّجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون. فبين الله نفاقهم فأمر بقتالهم.
(2) أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن عن سراقة بن مالك المدلجي قال : فلما قدم المدينة وظهر على أهل بدر وأحد وأسلم الناس ومن حولهم ، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى بني مدلج ، قال : فأتيته فقلت له : أنشدك النعمة ، فقال القوم : مه ، فقال رسول الله · : (دعوه ، فقال رسول الله · ما تريد ؟ فقلت : بلغني أنك تريد أن تبعث خالد بن الوليد إلى قومي ، فأنا أحب أن توادعهم ، فإن أسلم قومهم أسلموا معهم وإن لم يسلموا لم تخشن صدور قومهم عليهم ، فأخذ رسول الله · بيد خالد بن الوليد فقال له : إذهب معه فاصنع ما أراد ، فذهب إلى بني مدلج ، فأخذوا عليهم أن لا يعينوا على رسول الله · ، فإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، فأنزل الله {ودوا لو تكفرون} حتى بلغ {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} قال الحسن : فالذين حصرت صدورهم بنو مدلج ، فمن وصل إلى بني مدلج من غيرهم كان في مثل عهدهم.
(3) وأخرج الكلبي بطريق أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الذين ذكرهم الله تعالى في قوله {ستجدون آخرين} أراد بهم قبائل أسد وغطفان، كانوا يأتون المدينة ويتظاهرون بالإسلام، ثم يقولون لقومهم: إنما آمنا بالقرد والعقرب، ويقولون للمسلمين: إننا على دينكم. (تفسير بيان القرآن)
(3) لا تتفرقوا على فئتين:
«ومنهم المنافقون الذين لم يُظهروا الإسلام، وتمسكوا بكفرهم ظاهرا وباطنا، لكنهم تظاهروا بالمودة والاختلاط إلى النبي · والمسلمين، يريدون حماية أنفسهم وأموالهم من غارة المسلمين، ولمّا علم المسلمون أن اختلاطهم مع المسلمين ليس إلا لهذا الغرض، وليس لمحبة قلبية، قال بعضهم: نقاطع هؤلاء الأشرار حتى يبتعدوا عنا. وقال آخرون: نخالطهم حتى يؤمنوا. فنزلت هذه الآية، وأكّدت على أن الهدي والضلال بيد الله، فلا تهتموا بهما، وعليكم أن تعاملوهم على الطريقة التي ذُكرت في الآية التي تليها، لكنكم لا تتفرقوا فيهم على فئتين». (التفسير العثماني)
(4) كافر ذو وجهين:
«أراد بالمنافقين في الآية الكفار ذوي الوجهين، لأنه قال في الآية التي تلي {فخذوهم واقتلوهم..} ولم يكن هناك قتال مع المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام، لذلك أمرهم بعدم التنازع بشأن المنافقين ذوي الوجهين». (حاشية اللاهوري رحمه الله)

فائدة:

لقد لاحظتم كثيرا من العبارات والروايات، وكلها دلت على أن المنافقين والكفار كانوا على أقسام، كأنّ الشيطان قد تمكن إيجاد خلطة. يقول الضعفاء إلى أين نذهب؟ وآخرون كانوا متذبذبين، وبعض الأعداء المخادعين أرادوا الغارة بهيئة مختلفة. ففي هذه الآيات الأربع أوضح الله تعالى بعض الأصول الأساسية للمسلمين، التي تعينهم على اتخاذ قرار موحد بشأن الكفار والمنافقين. وقد بيّنا مطالب آية واحدة، واقرءوا الثلاثة الباقية، وفي النهاية نورد موجز المبحث بأكمله. (والله أعلم بالصواب)