قال الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام:
قال البكائي، عن ابن إسحاق: ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة،
وهم على ماء بأسفل مكة يقال له الوتير. وكان الذي هاج ما بين بكر وخزاعة رجلاً من بني
الحضرمي خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله. فعدت بنو بكر
على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على سلمى وكلثوم وذؤيب بني الأسود
بن رزن الديلي، وهم منخر بني كنانة وأشرافهم، فقتلوهم بعرفة.
فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به. فلما كان
صلح الحديبية بين رسول لله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وشرط لهم أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده فليدخل فيه
ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت
خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنها وكافرها.
فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل؛ أحد بني بكر من خزاعة؛ وأرادوا أن يصيبوا
منهم ثأراً بأولئك الإخوة. فخرج نوفل بن معاوية الديلي في قومه حتى بيت خزاعة على الوتير،
فاقتتلوا. وردفت قريش بني الديل بالسلاح، وقوم من قريش أعانت خزاعة بأنفسهم، مستخفين
بذلك، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم. فقال قوم نوفل: اتق إلهك ولا تستحل الحرم. فقال:
لا إله لي اليوم، والله يا بني كنانة إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون فيه ثأركم
- فقتلوا رجلاً من خزاعة. ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار رافع مولى
خزاعة.
فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، كان ذلك نقضاً للهدنة التي بينهم وبين رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وخرج عمرو بن سالم الخزاعي فقدم على النبي صلى الله عليه
وسلم في طائفة مستغيثين به، فوقف عمرو عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهري الناس فقال:
يا رب إني ناشد محمداً ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولداً وكنا والداً ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يداً
فانصر هداك الله نصراً أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مدداً
فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيم خسفاً وجهه تربداً
في فيلق كالبحر يجري مزبداً ... إن قريشاً أخلفوك الموعداً
ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كداء رصداً
وزعموا أن لست أدعو أحداً ... وهم أذل وأقل عدداً
هم بيتونا بالوتير هجداً ... وقتلونا ركعاً وسجداً
فانصر، هداك الله، نصراً أيداً
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نصرت يا عمرو بن سالم " .
وقال
الواقدي: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ
عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَجُرّ طَرَفَ رِدَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ لَا نَصَرْت إنْ
لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ مِمّا أَنْصُرُ مِنْهُ نَفْسِي.
ثم أرسل النبي · رجلا
إلى قريش، وعرض عليهم إحدى الخصال الثلاثة:
1- ادُوا قَتْلَى خُزَاعَة
َ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ قَتِيلًا
2- أَوْ تَبْرَءُوا مِنْ
حِلْفِ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ بَيْنَنَا - بَنُو نُفَاثَةَ -
3- أَوْ نَنْبِذُ إلَيْكُمْ
الْحَرْبَ
ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة
لتستهل بنصر بني كعب؛ يعني خزاعة. ثم قدم بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة على النبي
صلى الله عليه وسلم فأخبروه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأنكم بأبي سفيان
قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة. ومضى بديل وأصحابه فلقوا أبا سفيان ابن حرب بعسفان،
قد جاء ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا. فلما لقى بديل بن ورقاء قال:
من أين أقبلت يا بديل - وظن أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سرت في خزاعة
على الساحل. قال: أو ما جئت محمداً - قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان:
لئن كان جاء إلى المدينة لقد علف بها النوى. فأتى مبرك راحلته ففته فرأى فيه النوى
فقال: أحلف بالله لقد أتى محمداً.
ثم قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين. فلما ذهب ليجلس
على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش
أم رغبت به عني - قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك، نجس.
قال: والله قد أصابك يا بنية بعدي شر.
ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئاً. فذهب إلى أبي
بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى إلى
عمر فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! فوالله لو لم أجد
إلا الذر لجالدتكم عليه. ثم خرج حتى أتى علياً وعنده فاطمة وابنها الحسن وهو غلام يدب،
فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً،
فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول
الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا
ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر
- قالت: والله ما بلغ بني ذلك، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: يا أبا حسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني. قال: والله ما أعلم شيئاً
يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك
مغنياً عني - قال: لا والله ما أظنه، ولكن لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد
فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس.
ثم ركب بعيره وانطلق. فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك - فقص شأنه، وأنه أجار
بين الناس. قالوا: فهل أجاز ذلك محمد - قال: لا. قالوا: والله إن زاد الرجل على أن
لعب بك.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه. ثم أعلم
الناس بأنه يريد مكة، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتهم في بلادهم.
فعن عروة وغيره قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة،
كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش بذلك مع امرأة، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها
ثم خرجت به. وأتى النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بفعله. فأرسل في طلبها علياً والزبير.
وذكر الحديث.
أخبرنا محمد بن أبي الحرم القرشي وجماعة، قالوا: ثنا الحسن بن يحيى المخزومي،
ثنا عبد الله بن رفاعة، أنا علي بن الحسن الشافعي، أنا عبد الرحمن بن عمر بن النحاس،
أنبأ عثمان بن محمد السمرقندي، ثنا أحمد بن شعبان، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن
حسن بن محمد، أخبرني عبيد الله بن أبي رافع - وهو كاتب علي - قال: سمعت علياً يقول:
بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة
خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها.
فانطلقنا تعادي بنا خليلنا حتى انتهينا إلى الروضة. قلنا: أخرجي الكتاب قالت:
ما معي كتاب، قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنقلعن الثياب. فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي
صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض
أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا حاطب ما هذا
" - قال: يا رسول الله لا تعجل، إني كنت امرؤاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها،
وكان من كان من المهاجرين معك لهم قرابات يحمون بها أهليهم بمكة، ولم يكن لي قرابة،
فأحببت أن أتخذ فيهم يداً - إذا فاتني ذلك - يحمون بها قرابتي، وما فعلته كفراً ولا
ارتداداً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
إنه قد صدقكم " . فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال:
" إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا
ما شئتم فقد غفرت لكم " .
أخرجه البخاري عن قتيبة ومسلم عن ابن أبي شيبة وأبو داود عن مسدد كلهم عن سفيان.
أبو حذيفة النهدي: ثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، عن ابن عباس قال: قال عمر:
كتب حاطب إلى المشركين بكتاب فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا
حاطب ما دعاك إلى هذا - قال: كان أهلي فيهم وخشيت أن يصرموا عليهم، فقلت أكتب كتاباً
لا يضر الله ورسوله. فاخترطت السيف فقلت: يا رسول الله، أضرب عنقه فقد كفر. فقال:
" وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
" . هذا حديث حسن.
وعن ابن إسحاق نحوه، وزاد: فنزلت: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي
وعدوكم أولياء " .
قال
الواقدي رحمه الله:
وَحَدّثَنِي
مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَتَبَ حَاطِبٌ إلَى ثَلَاثَةِ
نَفَرٍ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي
جَهْلٍ : « إنّ رَسُولَ اللّهِ قَدْ أَذّنَ فِي النّاسِ بِالْغَزْوِ وَلَا أَرَاهُ
يُرِيدُ غَيْرَكُمْ وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَكُمْ يَدٌ بِكِتَابِي
إلَيْكُمْ » .
ولفظ رواية:
«أما بعد يا معشر قريش فإن رسول الل · جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل فوالله
لو جاءكم وحده لنصره الله، وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم.
وفي رواية:
إن محمدا قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر.
وعن ابن إسحاق، قال: عن ابن عباس قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره،
واستعمل على المدينة أبا رهم الغفاري. وخرج لعشر مضين من رمضان. فصام وصام الناس معه،
حتى إذا كان بالكديد، بين عسفان وأمج أفطر. اسم أبي رهم: كلثوم بن حصين.
وقال
سعيد بن بشير، عن قتادة: إن خزاعة أسلمت في دارهم، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
إسلامها، وجعل إسلامها في دارها.
وقال
سعيد بن عبد العزيز، وغيره: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل في عهده يوم الحديبية
خزاعة.
وقال
الوليد بن مسلم: أخبرني من سمع عمرو بن دينار، عن ابن عمر قال: كانت خزاعة حلف رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ونفاثة حلف أبي سفيان فعدت نفاثة على خزاعة، فأمدتها قريش.
فلم يغز رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً حتى بعث إليهم ضمرة، فخيرهم بين إحدى
ثلاث: أن يدوا قتلى خزاعة، وبين أن يبرأوا من حلف نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء. قالوا:
ننبذ على سواء. فلما سار ندمت قريش، وأرسلت أبا سفيان يسأل تجديد العهد.
وقال:
ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: كانت بين نفاثة من بني الديل، وبين بني كعب،
حرب. فأعانت قريش وبنو كنانة بني نفاثة على بني كعب. فنكثوا العهد إلا بنو مدلج، فإنهم
وفوا بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر القصة، وشعر عمرو بن سالم. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي
" . فأنشأت سحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذه السحابة
تستهل بنصر بني كعب، أبصروا أبا سفيان فإنه قادم عليكم يلتمس تجديد العهد والزيادة
في المدة " .
فأقبل
أبو سفيان فقال: يا محمد جدد العهد وزدنا في المدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أو لذلك قدمت - هل كان من حدث قبلكم - " قال: معاذ الله. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " فنحن على عهدنا وصلحنا " . ثم ذكر ذهابه إلى أبي بكر
وعمر وعثمان وعلي، وأنه قال له: أنت أكبر قريش فأجر بينها. قال: صدقت إني كذلك فصاح:
ألا إني قد أجرت بين الناس، وما أظن أن يرد جواري ولا يحقر بي. قال: أنت تقول ذاك يا
أبا حنظلة - ثم خرج.
فقال
النبي صلى الله عليه وسلم حين أدبر: " اللهم سد على أبصارهم وأسماعهم فلا يروني
إلا بغتة " . فانطلق أبو سفيان حتى قدم مكة فحدث قومه، فقالوا: أرضيت بالباطل
وجئتنا بما لا يغني عنا شيئاً، وإنما لعب بك علي.
وأغبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاز، مخيفاً لذلك. فدخل أبو بكر على ابنته، فرأى
شيئاً من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر وقال: أين يريد رسول الله صلى الله
عليه وسلم - فقالت عائشة: تجهز، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم غاز قومك، قد غضب
لبني كعب. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشفقت عائشة أن يسقط أبوها بما أخبرته
قبل أن يذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشارت إلى أبيها بعينها، فسكت. فمكث رسول
الله صلى الله عليه وسلم ساعة يتحدث مع أبي بكر ثم قال: " هل تجهزت يا أبا بكر
" - قال: لماذا يا رسول الله - قال: " لغزو قريش، فإنهم قد غدروا ونقضوا
العهد، وإنا غازون إن شاء الله " .
ولقيه
العباس بن عبد المطلب بالجحفة، وقيل: بذي الحليفة، مهاجراً، فأمره رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، أن يرسل رحله إلى المدينة ويعود معه، وقال له: أنت آخر المهاجرين، وأنا
آخر الأنبياء.
قال
الواقدي:
قَالَ
حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قَمَادِينَ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ
. وَغَيْرِهِ قَالَ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
أَخَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ أَرْضَعَتْهُ
حَلِيمَةُ أَيّامًا ، وَكَانَ يَأْلَفُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
. وَكَانَ لَهُ تِرْبًا ، فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَادَاهُ عَدَاوَةً لَمْ يُعَادِ أَحَدٌ قَطّ ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ الشّعْبَ ، وَهَجَا
رَسُولَ اللّهِ وَهَجَا أَصْحَابَهُ وَهَجَا حَسّانَ
وقال
ابن إسحاق: وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة؛
قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبق العقاب - فيما بين مكة والمدينة - فالتمسا
الدخول عليه، فكلمته أم سملة فيهما، فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك.
قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة
ما قال. فلما بلغهما قوله قال أبو سفيان: والله لتأذنن لي أو لأخذن بيد بني هذا ثم
لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
رق لهما، وأذن لهما فدخلا وأسلما.
وقيل:
إن علياً قال لأبي سفيان بن الحارث: إيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من قبل وجهه
فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: (تَاللهِ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإنْ كَنّا لَخَاطِئِينَ)
يوسف: 91 فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه فعلاً ولا قولاً، ففعل ذلك. فقال له رسول
الله، صلى الله عليه وسلم: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ
وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يوسف: 92، وقربهما، فأسلما، وأنشده أبو سفيان قوله في
إسلامه واعتذاره مما مضى:
لعمرك
إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج
الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدي وأهتدي
هداني
هاد غير نفسي ونالني ... إلى الله من طردت كل مطرد
أصد وأنأى
جاهداً عن محمد ... وأدعى وإن لم أنتسب من محمد
فذكروا
أنه حين أنشد النبي صلى الله عليه وسلم هذه ضرب في صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد.
وقيل:
إن أبا سفيان لم يرفع رأسه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، حياء منه.
قال
الواقدي رحمه الله:
وَخَرَجَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَنَادَى مُنَادِيهِ
مَنْ أَحَبّ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يُفْطِرَ فَلْيُفْطِرْ وَصَامَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
قَالَ
وَحَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، عَنْ سُمَيّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ رَجُلٍ رَأَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْعَرْجِ يَصُبّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ مِنْ
الْعَطَشِ . [ ص 802 ]
قَالَ
وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ لَمّا كُنّا بِالْكَدِيدِ
بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ أَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إنَاءً مِنْ مَاءٍ فِي يَدِهِ حَتّى رَآهُ الْمُسْلِمُونَ ثُمّ أَفْطَرَ تِلْكَ السّاعَةَ
. وَبَلَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ قَوْمًا صَامُوا فَقَالَ
أُولَئِكَ الْعُصَاةُ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّكُمْ مُصَبّحُو عَدُوّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ
قَالَ ذَلِك بِمَرّ الظّهْرَانِ .
ثم خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفاً من المهاجرين، والأنصار، وأسلم، وغفار،
ومزينة، وجهينة، وبني سليم. وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران، ولم تعلم بهم قريش.
قال: فبعثوا حكيم بن حزام وأبا سفيان وقالوا: خذوا لنا جواراً أو آذنوا بالحرب. فخرجا
فلقيا بديل بن ورقاء فاستصحباه، فخرج معهما حتى إذا كانوا بالأراك بمكة، وذلك عشاء،
رأوا الفساطيط والعسكر، وسمعوا صهيل الخيل ففزعوا. فقال: هؤلاء بنو كعب جاءت بهم الحرب.
قال بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب، ما بلغ تأليبها هذا.
وكان
النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بين يديه خيلاً لا يتركون أحداً يمضي. فلما دخل أبو
سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل تحت الليل وأتوا بهم. فقام عمر إلى أبي سفيان
فوجأ عنقه، والتزمه القوم وخرجوا به ليدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم به، فحبسه
الحرس أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاف القتل، وكان العباس بن عبد المطلب
خالصة له في الجاهلية، فنادى بأعلى صوته: ألا تأمر بي عباس - فأتاه فدفع عنه، وسأل
النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبضه إليه. فركب به تحت الليل، فسار به في عسكر القوم
حتى أبصره أجمع. وكان عمر قال له حين وجأه: لا تدن من رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى تموت. فاستغاث بالعباس وقال: إني مقتول. فمنعه من الناس. فلما رأى كثرة الجيش قال:
لم أر كالليلة جمعاً لقوم. فخلصه عباس من أيديهم، وقال: إنك مقتول إن لم تسلم وتشهد
أن محمداً رسول الله. فجعل يريد أن يقول الذي يأمره عباس، ولا ينطلق به لسانه وبات
معه.
وأما
حكيم وبديل فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما. وجعل يستخبرهما عن أهل
مكة.
فلما
نودي بالفجر تجسس القوم، ففزع أبو سفيان وقال: يا عباس، ما يريدون - قال: سمعوا النداء
بالصلاة فتبشروا بحضور النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم أبو سفيان يمرون إلى الصلاة،
وأبصرهم يركعون ويسجدون إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا عباس، ما يأمرهم
بشيء إلا فعلوه - ! فقال: هل عنده من عفو عنهم - فانطلق عباس بأبي سفيان حتى أدخله
على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان. فقال أبو سفيان:
يا محمد قد اسنتصرت بإلهي واستنصرت بإلهك، فوالله ما لقيتك من مر إلا ظهرت علي، فلو
كان إليهم محقاً وإلهك باطلاً ظهرت عليك، فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله.
وقال
عباس: يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي إلى قومك فأنذرهم ما نزل بهم، وأدعوهم إلى الله
ورسوله. فأذن له. قال: كيف أقول لهم - قال: " من قال لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وشهد أن محمداً عبده ورسوله، وكف يده، فهو آمن. ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه
فهو آمن. ومن أغلق عليه بابه فهو آمن " . قال: يا رسول الله، أبو سفيان ابن عمنا،
فأحب أن يرجع معي، وقد خصصته بمعروف. فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فجعل أبو
سفيان يستفهمه. ودار أبي سفيان بأعلى مكة. وقال: من دخل دارك يا حكيم فهو آمن. ودار
حكيم في أسفل مكة.
وحمل
النبي صلى الله عليه وسلم العباس على بغلته البيضاء التي أهداها إليه دحية الكلبي،
فانطلق العباس وأبو سفيان قد أردفه. ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم في أثره، فقال:
أدركوا العباس فردوه علي. وحدثهم بالذي خاف عليه. فأدركه الرسول، فكره عباس الرجوع،
وقال: أترهب يا رسول الله أن يرجع أبو سفيان راغباً في قلة الناس فيكفر بعد إسلامه
- فقال: احبسه فحبسه. فقال أبو سفيان: غدراً يا بني هاشم - فقال عباس: إنا لسنا نغدر،
ولكن بي إليك بعض الحاجة. فقال: وما هي، فأقضيها لك - قال: إنما نفاذها حين يقدم عليك
خالد بن الوليد والزبير بن العوام. فوقف عباس بالمضيق دون الأراك، وقد وعى منه أبو
سفيان حديثه.
قال عبد
الله بن أبي بكر: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى ورأى ما أكرمه الله
به من الفتح جعل يتواضع لله حتى إنك لتقول قد كاد عثنونه أن يصيب واسطة الرحل.
وقال
ثابت، عن أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وذقنه على رحله متخشعاً.
حديث صحيح.
وقال
معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل
مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. أخرجه مسلم.
وفي مسند
الطيالسي حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء.
وقال
مساور الوراق: سمعت جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه.
قال:
كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء خرقانية،
قد أرخى طرفها بين كتفيه. أخرجه مسلم.
وقال
ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن عائشة قالت: كان لواء رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم الفتح أبيض، ورايته سوداء؛ قطعة من مرط لي مرجل، وكانت الراية تسمى العقاب.
ثم بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل بعضها على أثر بعض، وقسم الخيل شطرين، فبعث الزبير
في خيل عظيمة. فلما مروا بأبي سفيان قال للعباس: من هذا - قال: الزبير. وردفه خالد
بن الوليد بالجيش من أسلم وغفار وقضاعة، فقال أبو سفيان: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم هذا يا عباس - قال: لا، ولكن هذا خالد بن الوليد. وبعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم سعد بن عبادة بين يديه في كتيبة الأنصار، فقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل
الحرمة. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الإيمان من المهاجرين والأنصار.
فلما
رأى أبو سفيان وجوهاً كثيرة لا يعرفها قال: يا رسول الله، اخترت هذه الوجوه على قومك
- قال: أنت فعلت ذلك وقومك. إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني، ونصروني إذ أخرتموني، ومع
النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ الأقرع بن حابس، وعباس بن مرادس السلمي، وعيينة بن
بدر، فلما أبصرهم حول النبي صلى الله عليه وسلم قال: من هؤلاء يا عباس - قال: هذه كتيبة
النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذه الموت الأحمر، هؤلاء المهاجرون والأنصار. قال: امض
يا عباس، فلم أر كاليوم جنوداً قط ولا جماعة، وسار الزبير بالناس حتى إذا وقف بالحجون،
واندفع خالد حتى دخل من أسفل مكة. فلقيته بنو بكر فقاتلهم فهزمهم، وقتل منهم قريباً
من عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وهزموا وقتلوا بالحزورة، حتى دخلوا الدور، وارتفعت
طائفة منه على الجبل على الخندمة، واتبعهم المسلمون بالسيوف.
ودخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس، وندى مناد: من أغلق عليه داره وكف يده
فهو آمن. وكان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً بذي طوى، فقال: " كيف قال حسان
" - فقال رجل من أصحابه: قال:
عدمت
بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كتفي كداء
فأمرهم
فأدخلوا الخيل من حيث قال حسان فأدخلت من ذي طوى من أسفل مكة. واستحر القتل ببني بكر.
فأحل الله له مكة ساعة من نهار، وذلك قوله تعالى " لا أقسم بهذا البلد وأنت حل
بهذا البلد " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحلت الحرمة لأحد قبلي ولا
بعدي، ولا أحلت لي إلا ساعة من نهار.
ونادى
أبو سفيان بمكة: أسلموا تسلموا. وكفهم الله عن عباس.
وقال
شعبة، عن معاوية بن قرة، سمع عبد الله بن مغفل، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم الفتح سورة الفتح وهو على بعير، فرجع فيها. ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل
عن النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه، ولفظه للبخاري.
وقال
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود، قال: دخل النبي صلى الله
عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً، فجعل يطعنها بعود في يده
ويقول: " جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد " . " جاء الحق وزهق الباطل
إن الباطل كان زهوقاً " . متفق عليه.
وقال
ابن إسحاق: ثنا عبد الله بن أبي بكر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: دخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وعلى الكعبة ثلاثمائة صنم، فأخذ قضيبه فجعل
يهوي به إلى صنم صنم، وهو يهوي حتى مر عليها كلها. حديث حسن.
وقال
القاسم بن عبد الله العمري - هو ضعيف - عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلاثمائة وستين صنماً. فأشار إلى كل صنم بعصاً
من غير أن يمسها. وقال: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً " ،
فكان لا يشير إلى صنم إلا سقط.
وقال
عبد الوارث، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم
مكة، أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت. فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل
وفي أيديهما الأزلام، فقال: " قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما
بها قط " . ودخل البيت وكبر في نواحيه.
ودخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف سبعاً على راحلته.
وقال
هوذة: ثنا عوف الأعرابي، عن رجل، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح،
شيبة بن عثمان فأعطاه المفتاح، وقال له: دونك هذا، فأنت أمين الله على بيته.
قال الواقدي:
هذا غلط، إنما أعطى المفتاح عثمان بن طلحة؛ ابن عم شيبة؛ يوم الفتح، وشيبة يومئذ كافر.
ولم يزل عثمان على البيت حتى مات ثم ولي شيبة.
قلت:
قول الواقدي لم يزل عثمان على البيت حتى مات، فيه نظر. فإن أراد لم يزل منفرداً بالحجابة،
فلا نسلم. وإن أراد مشاركاً لشيبة، فقريب. فإن شيبة كان حاجباً في خلافة عمر. ويحتمل
أن النبي صلى الله عليه وسلم وفي الحجابة لشيبة لما أسلم. وكان إسلامه عام الفتح، لا
يوم الفتح.
وقال
محمد بن حمران، أنا أبو بشرن عن مسافع بن شيبة، عن أبيه، قال: دخل النبي صلى الله عليه
وسلم الكعبة فصلى، فإذا فيها تصاوير، فقال: يا شيبة، اكفني هذه. فاشتد ذلك عليه. فقال
له رجل: طينها ثم الطخها بزعفران. ففعل.
قَالُوا
: فَلَمّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى النّاسِ وَقَدْ
لِيطَ بِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَهُمْ جُلُوسٌ . قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي صَدَقَ
وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ مَاذَا تَقُولُونَ وَمَاذَا
تَظُنّونَ ؟ قَالُوا : نَقُولُ خَيْرًا وَنَظُنّ خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ
كَرِيمٍ وَقَدْ قَدَرْت فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّي
أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ
لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ أَلَا إنّ كُلّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيّةِ أَوْ
دَمٍ [ ص 836 ] أَوْ مَالٍ أَوْ مَأْثُرَةٍ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمِي هَاتَيْنِ إلّا سِدَانَةَ
الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا وَفِي قَتِيلِ الْعَصَا وَالسّوْطِ الْخَطَأِ
شِبْهُ الْعَمْدِ الدّيَةُ مُغَلّظَةٌ مِائَةُ نَاقَةٍ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا
أَوْلَادُهَا . إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَكَبّرَهَا بِآبَائِهَا
، كُلّكُمْ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ وَأَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ
. أَلَا إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ
بِحُرْمَةِ اللّهِ لَمْ تَحِلّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلّ لِأَحَدٍ كَائِنٍ بَعْدِي
، وَلَمْ تَحِلّ لِي إلّا سَاعَةً مِنْ النّهَارِ - يُقَصّرُهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِهِ هَكَذَا - لَا يُنَفّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ
عِضَاهُهَا ، وَلَا تَحِلّ لُقَطَتُهَا إلّا لِمُنْشِدٍ وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا
. فَقَالَ الْعَبّاسُ وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا : إلّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللّهِ
فَإِنّهُ لَا بُدّ مِنْهُ إنّهُ لِلْقَبْرِ وَطَهُورُ الْبُيُوتِ . قَالَ فَسَكَتَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَاعَةً ثُمّ قَالَ إلّا الْإِذْخِرَ
فَإِنّهُ حَلَالٌ . وَلَا وَصِيّةَ لِوَارِثٍ وَإِنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ
الْحَجَرُ ، وَلَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُعْطِي مِنْ مَالِهَا إلّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا
، وَالْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمُونَ إخْوَةٌ وَالْمُسْلِمُونَ يَدٌ
وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ
وَيَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ وَمُشِدّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمَيْسَرَتُهُمْ
عَلَى قَاعِدِهِمْ وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ
. وَلَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَلَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ
وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ [ ص 837 ] الْمُسْلِمِينَ إلّا فِي بُيُوتِهِمْ وَبِأَفْنِيَتِهِمْ
وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمّتِهَا وَخَالَتِهَا ، وَالْبَيّنَةُ عَلَى مَنْ
ادّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَلَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ ثَلَاثٍ
إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصّبْحِ وَأَنْهَاكُمْ
عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ وَعَنْ لُبْسَتَيْنِ
لَا يَحْتَبِ أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِي بِعَوْرَتِهِ إلَى السّمَاءِ وَلَا
يَشْتَمِلُ الصّمّاءَ وَلَا إخَالُكُمْ إلّا وَقَدْ عَرَفْتُمُوهَا
قَالَ
ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَهُ الْمِفْتَاحُ
فَتَنَحّى نَاحِيَةَ الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَدْ قَبَضَ السّقَايَةَ مِنْ الْعَبّاسِ وَقَبَضَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ
فَلَمّا جَلَسَ قَالَ اُدْعُوا إلَيّ عُثْمَانَ فَدُعِيَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي
طَلْحَةَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِعُثْمَانَ
يَوْمًا ، وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَمَعَ عُثْمَانَ الْمِفْتَاحُ فَقَالَ
لَعَلّك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت فَقَالَ عُثْمَانُ
لَقَدْ هَلَكَتْ إذًا قُرَيْشٌ وَذَلّتْ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بَلْ عَمُرَتْ [ ص 838 ] وَعَزّتْ يَوْمَئِذٍ . فَلَمّا دَعَانِي بَعْدَ أَخْذِهِ
الْمِفْتَاحَ ذَكَرْت قَوْلَةَ مَا كَانَ قَالَ . فَأَقْبَلْت فَاسْتَقْبَلْته بِبِشْرٍ
وَاسْتَقْبَلَنِي بِبِشْرٍ . ثُمّ قَالَ خُذُوهَا يَا بَنِي أَبِي طَلْحَةَ تَالِدَةً
خَالِدَةً لَا يَنْزِعُهَا إلّا ظَالِمٌ يَا عُثْمَانُ إنّ اللّهَ اسْتَأْمَنَكُمْ
عَلَى بَيْتِهِ . فَكُلُوا بِالْمَعْرُوفِ . قَالَ عُثْمَانُ فَلَمّا وُلِيَتْ نَادَانِي
فَرَجَعَتْ إلَيْهِ . فَقَالَ أَلَمْ يَكُنْ الّذِي قُلْت لَك ؟ قَالَ فَذَكَرْت قَوْلَهُ
لِي بِمَكّةَ فَقُلْت : بَلَى ، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ فَأَعْطَاهُ الْمِفْتَاحَ
وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُضْطَجِعٌ بِثَوْبِهِ وَقَالَ أَعِينُوهُ
وَقَالَ قُمْ عَلَى الْبَابِ وَكُلْ بِالْمَعْرُوفِ . وَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّقَايَةَ إلَى الْعَبّاسِ فَكَانَ الْعَبّاسُ يَلِيهَا
دُونَ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَوَلَدُهُ بَعْدَهُمْ . فَكَانَ
مُحَمّدُ بْنُ الْحَنَفِيّةِ كَلّمَ فِيهَا ابْنَ عَبّاسٍ ، فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ
: مَا لَك وَلَهَا ؟ نَحْنُ أَوْلَى بِهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَقَدْ كَانَ أَبُوك
كَلّمَ فِيهَا فَأَقَمْت الْبَيّنَةَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللّهِ وَعَامِرَ بْنَ
رَبِيعَةَ ، وَأَزْهَرَ بْنَ عَوْفٍ وَمَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ أَنّ الْعَبّاسَ كَانَ
يَلِيهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَأَبُوك فِي نَادِيَتِهِ بِعُرَنَةَ فِي إبِلِهِ وَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَاهَا الْعَبّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ
. فَعَرَفَ ذَلِكَ مَنْ حَضَرَ فَكَانَتْ بِيَدِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ بَعْدَ
أَبِيهِ لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهَا مُنَازِعٌ وَلَا يَتَكَلّمُ فِيهَا مُتَكَلّمٌ .
وَكَانَ لِلْعَبّاسِ مَالٌ بِالطّائِفِ ، كَرْمٌ كَانَ يَحْمِلُ زَبِيبَهُ إلَيْهَا
فَيُنْبَذُ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ ثُمّ كَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ
يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمّ كَانَ عَلِيّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ يَفْعَلُ
مِثْلَ ذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ .
قَالَ
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي الزّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ ، عَنْ
ابْنِ الْمُسَيّبِ ، قَالَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَنِي
كَعْبٍ فَأَعْطَوْا الْقَتِيلَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ . قَالُوا : وَجَاءَتْ الظّهْرُ
فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذّنَ بِالظّهْرِ
فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ يَوْمَئِذٍ وَقُرَيْشٌ فَوْقَ رُءُوسِ الْجِبَالِ وَقَدْ
فَرّ وُجُوهُهُمْ وَتَغَيّبُوا خَوْفًا أَنْ يُقَتّلُوا ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ
الْأَمَانَ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ أُومِنَ . فَلَمّا أَذّنَ بِلَالٌ وَرَفَعَ صَوْتَهُ
كَأَشَدّ مَا يَكُونُ فَلَمّا بَلَغَ » أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ « ،
تَقُولُ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ قَدْ لَعَمْرِي رَفَعَ لَك ذِكْرَك أَمّا
الصّلَاةُ فَسَنُصَلّي ، وَاَللّهِ لَا نُحِبّ مَنْ قَتَلَ الْأَحِبّةَ أَبَدًا ; وَلَقَدْ
كَانَ جَاءَ أَبِي الّذِي جَاءَ مُحَمّدًا مِنْ النّبُوّةِ فَرَدّهَا وَلَمْ يُرِدْ
خِلَافَ قَوْمِهِ . وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أُسَيْدٍ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَكْرَمَ
أَبِي فَلَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْيَوْمَ وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ : وَاثُكْلَاه
لَيْتَنِي مُتّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ أَسْمَعُ بِلَالًا يَنْهَقُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ هَذَا وَاَللّهِ الْحَدَثُ الْعَظِيمُ أَنْ
يَصِيحَ عَبْدُ بَنِي جُمَحَ عَلَى بَنِيّةِ أَبِي طَلْحَةَ . قَالَ سُهَيْلُ بْنُ
عَمْرٍو : إنْ كَانَ هَذَا سَخَطَ اللّهِ فَسَيُغَيّرُهُ وَإِنْ كَانَ رِضَاءَ اللّهِ
فَسَيُقِرّهُ . وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ أَمّا أَنَا فَلَا أَقُولُ شَيْئًا ، لَوْ
قُلْت شَيْئًا لَأَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الْحَصْبَاءُ فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ .
عتاب
بن أسيد أسلم يوم فتح مكة، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة بعد الفتح لما
سار إلى حنين. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك معاذ بن جبل بمكة يفقه أهلها
واستعمل عتاباً بعد عوده من حصن الطائف. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يا عتاب، تدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله عز وجل، ولو أعلم لهم
خيراً منك استعملته عليهم " .
وكان
عمره لما استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم نيفاً وعشرين سنة، فأقام للناس الحج
وهي سنة ثمان، وحج المشركون على ما كانوا. وحج أبو بكر رضي الله عنه سنة تسع، فقيل:
كان أبو بكر أول أمير في الإسلام. وقيل بل كان عتاب، والله أعلم.
ولم يزل
عتبا على مكة إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقره أبو بكر عليها إلى أن
مات، وتوفي عتاب - في قول الواقدي - يوم مات أبو بكر، ومثله قال أولاد عتاب.
وقال
محمد بن سلام وغيره: جاء نعي أبي بكر إلى مكة يوم دفن عتاب.
وكان
عتاب رجلاً خيراً صالحاً فاضلاً، وأما أخوه " خالد بن اسيد " فروى محمد بن
إسحاق السراج، عن عبد العزيز بن معاوية، من ولد عتاب بن اسيد
أنه قال: توفي خالد بن أسيد وهو أخو عتاب لأبويه يوم فتح مكة، قبل دخول رسول الله صلى
الله عليه وسلم مكة.
روى ابن
أبي عقرب، عن عتاب بن أسيد قال: أصبت في عملي الذي استعملني عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم بردين معقدين، كسوتهما غلامي كيسان، فلا يقولن أحدكم: أخذ مني عتاب كذا!
فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم درهمين، فلا أشبع الله بطناً لا يشبعه
كل يوم درهمان.
وكان
أبو محذورة مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
سمعه يحكي الأذان، فأعجبه صوته، فأمر أن يؤتى به، فأسلم يومئذ وأمره بالأذان بمكة منصرفه
من حنين، فلم يزل يؤذن فيها، ثم ابن محيريز وهو ابن عمه، ثم ولد ابن محيريز، ثم صار
الأذان إلى ولد ربيعة بن سعد بن جمح. وكان أبو محذورة من أحسن الناس صوتاً، وسمعه عمر
يوما يؤذن فقال: كدت أن ينشق مريطاؤك.
أخبرنا
أبو إسحاق بن محمد الفقيه، وغيره بإسنادهم إلى أبي عيسى الترمذي: حدثنا بشر بن معاذ،
أخبرنا إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة قال أخبرني أبي وجدي جميعاً،
عن أبي محذورة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعده وألقى عليه الأذان حرفاُ حرفاً
قال إبراهيم: مثل أذاننا. فقال بشر: فقلت له: أعد علي. فوصف الأذان بالترجيع. وتوفي
أبو محذورة بمكة سنة تسع وخمسين. وقيل: سنة تسع وسبعين. ولم يهاجر، لم يزل مقيماً بمكة
حتى مات. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يده على رأسه وصدره إلى سرته، وأمره
بالأذان بمكة، فأتى عتاب بن أسيد فأذن معه.
قال
السهيلي: كان أبو محذورة ابن ست عشرة سنة إذ جعله النبي · مؤذنا، ثم بعد وفاته
أبناءه توارثوا الأذان جيلا عن جيل.
وقال
شاعر في أبي محذورة:
أما
ورب الكعبة المستورة
وما
تلا محمد من سورة
والنغمات
من أبي محذورة
لأفعلنّ
فعلة مذكورة
أخرج
الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله قال:
قَالَتْ
الْأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَمَّا الرَّجُلُ
فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
وَجَاءَ الْوَحْيُ وَكَانَ إِذَا جَاءَ الْوَحْيُ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا فَإِذَا جَاءَ
فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْوَحْيُ فَلَمَّا انْقَضَى الْوَحْيُ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ
قَالُوا لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ
رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ قَالُوا قَدْ كَانَ ذَاكَ قَالَ كَلَّا إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ
وَرَسُولُهُ هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ
مَمَاتُكُمْ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ وَاللَّهِ مَا قُلْنَا الَّذِي
قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ.
(رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة)
ثم جلس
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للبيعة على الصفا، وعمر بن الخطاب تحته، واجتمع الناس
لبيعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على الإسلام، فكان يبايعهم على السمع والطاعة
لله ولرسوله فيما استطاعوا، فكانت هذه بيعة الرجال.
وأما
بيعة النساء فإنه لما فرغ من الرجال بايع النساء، فأتاه منهن نساء من نساء قريش، منهن
أم هانئ بنت أبي طالب، وأم حبيب بنت العاص بن أمية، وكانت عند عمرو بن عبد ود العامري،
وأروى بنت أبي العيص عمة عتاب بن أسيد، وأختها عاتكة بنت أبي العيص، وكانت عند الطلب
بن أبي وداعة السهمي، وأمه بنت عفان بن العاص أخت عثمان، وكانت عند سعد حليف بني مخزوم،
وهند بنت عتبة، وكانت عند أبي سفيان، ويسيرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى،
وأم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت عند عكرمة بن أبي جهل، وفاختة بنت الوليد بن المغيرة
أخت خالد، وكانت عند صفوان بن أمية بن خلف، وريطة بنت الحجاج، وكانت عند عمرو بن العاص
في غيرهن وكانت هند متنكرة لصنيعها بحمزة، فهي تخاف أن تؤخذ به، وقال لهن: تبايعنني
على أن لا تشركن بالله شيئاً. قالت هند: إنك والله لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال
فسنؤتيكه. قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأصبت من مال أبي سفيان الهنة والهنة.
فقال أبو سفيان، وكان حاضراً: أما ما مضى فأنت منه في حل. فقال رسول الله، صلى الله
عليه وسلم: أهند ؟ قالت: أنا هند فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تزنين. قالت:
وهي تزني الحرة ؟ قال: ولا تقتلن أولادكن. قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً
فأنت وهم أعلم. فضحك عمر. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن. قالت:
والله إن إتيان البهتان لقبيح ولبعض التجاوز أمثل. قال: ولا تعصينني في معروف. قالت:
ما جلسنا هذا المجس ونحن نريد أن نعصيك. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمر:
بايعهن. وإستغفر لهن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله، صلى الله عليه
وسلم، لا يمس النساء ولا يصافح امرأة ولا تمسه امرأة إلا امرأة أحلها له أو ذات محرم
منه.
وفي
رواية لابن إسحاق أن خزاعيا قتل رجلا مشركا من بني هذيل، فبلغ ذلك النبي ·، فجمع
أصحابه وصعد الصفا ثم قال:
يا
أيها الناس إن الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة،
فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد شجرة فيها شجرة،
ولم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة غضباً
على أهلها، ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم
أن رسول الله · قاتل فيها فقولوا إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم. يا معشر
خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، فلقد كثر القتل، لقد قتلتم قتيلا لاديته، فمن قتل
بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله وإن شاءوا فعقله.
ثم
أرسل مائة من الإبل عقل الرجل الذي قتله الخزاعي من بني بكر.
قَالَ
حَدّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي رَافِعٍ قَالَ قِيلَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا تَنْزِلُ
مَنْزِلَك مِنْ الشّعْبِ ؟ قَالَ فَهَلْ تَرَكَ لَنَا عُقَيْلٌ مَنْزِلًا ؟ َكَانَ
عُقَيْلٌ قَدْ بَاعَ مَنْزِلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْزِلَ
إخْوَتِهِ مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ بِمَكّةَ . فَقِيلَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَانْزِلْ فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكّةَ فِي غَيْرِ مَنَازِلِك فَأَبَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ لَا أَدْخُلُ الْبُيُوتَ .
فَلَمْ يَزَلْ مُضْطَرِبًا بِالْحَجُونِ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتًا ، وَكَانَ يَأْتِي إلَى
الْمَسْجِدِ مِنْ الْحَجُونِ .
قَالُوا
: وَأَقَامَ أَبُو أَحَمْدَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ عَلَى
[ ص 840 ] جَمَلٍ لَهُ حِينَ فَرَغَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
خُطْبَتِهِ وَهُوَ يَصِيحُ أَنْشُدُ بِاَللّهِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ حِلْفِي ،
وَأَنْشُدُ بِاَللّهِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ دَارِي قَالَ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ ، فَسَارَ عُثْمَانُ بِشَيْءِ
فَذَهَبَ عُثْمَانُ إلَى أَبِي أَحْمَدَ فَسَارَهُ فَنَزَلَ أَبُو أَحْمَدَ عَنْ بَعِيرِهِ
وَجَلَسَ مَعَ الْقَوْمِ فَمَا سَمِعَ أَبُو أَحْمَدَ ذَاكَرَهَا حَتّى لَقِيَ اللّهُ
فَقِيلَ لِعُثْمَانِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَاذَا قَالَ لَك رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ
أَنْ تَقُولَهُ لِأَبِي أَحْمَدَ ؟ فَقَالَ لَمْ أَذْكُرْهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَأَذْكُرُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ ؟
لقد
نادى منادي الرسول بالعفو العام يوم فتح مكة، وكان منهم من يجعل الشوك في طريقه،
كانوا يرشقونه بالحجارة، وظلوا يقاتلونه، أدموا قدميه، لكنه · عفا عنهم، إلا بعض
أولئك الذين كانوا قد تجاوزوا كل الحدود، وآذوه فبالغوه فيه وأطلقوا ألسنتهم
البذيئة في هجاء النبي ·، فنزل فيهم الأمر بالقتل حيث وُجدوا، كما قال تعالى:
{ملعونين
أينما ثُقوا اُخذوا وقُتّلوا تقتيلا} (سورة الأحزاب، الآية 16).
إن
تعظيم رسول الله · وتقديره وتوقيره واجب على هذه الأمة، وإهانته يمثّل إهانة دين
الله تعالى، كما قال تعالى: {إن شانئك هو الأبتر}.
وقال
تعالى: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ
(12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ
وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)} (سورة التوبة، الآيات 12-13).
فيها
تحريض على قتال أولئك الذين هموا بإخراج الرسول، عليهم أن لا يرعبوا من صولاتهم
وجولاتهم، يضحّوا بالروح والغالي والنفيس في نصر دين الله ورسوله، ولا يخفى على
ذوي الرأي والعلم أن السب والشتم والاستهزاء والسخرية والإساءة وبذاءة اللسان أكبر
ذنبا من الإخراج، ومن عادة الملوك والحكام أنهم يغفرون كل ذنب إلا الإساءة إلى
الملك أو الحاكم، وأطلق لسانه فيه، لأن فيه مساسا بكرامة المملكة والحكم.
إضافة
إلى ذلك فإن الإساءة إلى الرسول بمثّل الإساءة إلى جميع أفراد الأمة، والواجب على
كل مسلم إذا رأى أحدا يسيء ذات الرسول · أن يتخلص منه، أو يُخلّص نفسه من الحياة.
تشتم
أيدينا ويحلم رأينا ونشتم بالأفعال لا
بالتكلم
وقال
القاضي عياض في الشفا قال : سأل هارون الرشيد مالكا عمن أساء إلى الرسول · ما
حكمه؟
فقال:
ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها.
لقد
أساء إلى الرسول · نصراني في عهد شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية الحرّاني قدس الله
سره، فكتب كتابا يربو على ستمائة صفحة، وسمّاه (بالصارم المسلول على شاتم الرسول
·) جمع فيه الآيات والأحاديث وإجماع الصحابة والتابعين وتعامل الخلفاء الراشدين
إضافة على الأدلة النقلية والعقلية، كلها تدل على وجوب قتل شاتم الرسول ·، جزاه
الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خيرا، آمين.
وكان
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أمر بقتل ثمانية رجال وأربع نسوة، ممن أساءوا إليه، فأما الرجال فمنهم :
عكرمة
بن أبي جهل، كان يشبه أباه في إيذاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعداوته والإنفاق
على محاربته، فلما فتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة خافه على نفسه فهرب إلى
اليمن وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فاستأمنت له وخرجت في طلبه ومعها غلام
لها رومي، فراودها عن نفسها، فأطعمته ولم تمكنه حتى أتت حياً من العرب فاستعانتهم عليه،
فأوثقوه، وأدركت عكرمة وهو يريد ركوب البحر فقالت: جئتك من عند أوصل الناس وأحملهم
وأكرمهم وقد آمنك، فرجع، وأخبرته خبر الرومي، فقتله قبل أن يسلم. فلما قدم على رسول
الله، صلى الله عليه وسلم، سر به، فأسلم وسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يستغفر
له، فاستغفر.
ومنهم
صفوان بن أمية بن خلف، وكان أيضاً شديداً على النبي، صلى الله عليه وسلم، فهرب خوفاً
منه إلى جدة، فقال بن وهب الجمحي: يا رسول الله إن صفوان سيد قومي وقد خرج هارباً منك
فآمنه. قال: هو آمنٌ، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ليعرف بها أمانه، فخرج بها عمير
فأدركه بجدة فأعلمه بأمانه وقال: إنه أحلم الناس وأوصلهم، وإنه ابن عمك وعزه عزك وشرفه
شرفك. قال: إني أخافه على نفسي. قال: هو أحلم من ذلك. فرجع صفوان وقال لرسول الله،
صلى الله عليه وسلم: إن هذا يزعم أنك آمنتني. قال: صدق. قال: اجعلني بالخيار شهرين.
قال: أنت فيه أربعة أشهر، فأقام معه كافراً وشهد معه حنيناً والطائف ثم أسلم وحسن إسلامه
وتوفي بمكة عند خروج الناس إلى البصرة ليوم الجمل.
ومنهم
عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤي، وكان قد أسلم وكتب الوحي إلى رسول
الله، صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه: عزيز حكيم، يكتب: عليم حكيم، وأشباه
ذلك، ثم ارتد وقال لقريش: إني أكتب أحرف محمدٍ في قرآنه حيث شئت ودينكم خير من دينه؛
فلما كان يوم الفتح فر إلى عثمان بن عفان، وكان أخاه من الرضاعة، فغيبه عثمان حتى اطمأن
الناس، ثم أحضره عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وطلب له الأمان، فصمت رسول الله،
صلى الله عليه وسلم، طويلاً ثم آمنه، فأسلم وعاد، فلما انصرف قال رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، لأصحابه: لقد صمت ليقتله أحدكم. فقال أحدهم: هلا أومأت إلينا ؟ فقال: ما
كان للنبي أن يقتل بالإشارة، إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين.
ومنهم
عبد الله بن خطل، وكان قد أسلم، فأرسله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مصدقاً ومعه
رجل من الأنصار وغلامٌ له رومي قد أسلم، فكان الرومي يخدمه ويصنع الطعام، فنسي يوماً
أن يصنع له طعاماً، فقتله وارتد، وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، فقتله سعيد بن حريث المخزومي، أخو عمرو بن حريث، وأبو برزة الأسلمي.
ومنهم
الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، وكان يؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة
وينشد الهجاء فيه، فلما كان يوم الفتح هرب من بيته، فلقيه علي بن أبي طالب فقتله.
ومنهم
مقيس بن صبابة، وإنما أمر بقتله لأنه قتل الأنصاري الذي قتل أخاه هشاماً خطأً وارتد،
فلما انهزم أهل مكة يوم الفتح اختفى بمكان هو وجماعة وشربوا الخمر، فعلم به نميلة بن
عبد الله الكناني، فأتاه فضربه بالسيف حتى قتله.
ومنهم
عبد الله بن الزبعري السهمي، وكان يهجو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة ويعظم
القول فيه، فهرب يوم الفتح هو وهبيرة بن أبي وهب المخزومي زوج أم هانئ بنت أبي طالب
إلى نجران، فأما هبيرة فأقام بها مشركاً حتى هلك، وأما ابن الزبعري فرجع إلى رسول الله،
صلى الله عليه وسلم، واعتذر، فقبل عذره، فقال حين أسلم:
يا رسول
المليك إنّ لساني ... راتقٌ ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري
الشّيطان في سنن الغ ... يّ ومن نال مثله مثبور
آمن اللّحم
والعظام بربّي ... ثمّ نفسي الشهيد أنت النّذير
في أشعار
له كثيرة يعتذر بها.
ومنهم
وحشي بن حرب قاتل حمزة، فهرب يوم الفتح إلى الطائف، ثم قدم في وفد أهله على رسول الله،
صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، أوحشي ؟ قال: نعم. قال: أخبرني كيف قتلت عمي ؟ فأخبره،
فبكى وقال: غيب وجهك عني. وهو أول من جلد في الخمر، وأول من لبس المعصفر المصقول في
الشام.
وهرب
حويطب بن عبد العزى، فرآه أبو ذر في حائط فأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، بمكانه،
فقال: أوليس قد آمنا الناس إلا من قد أمرنا بقتله ؟ فأخبره بذلك، فجاء إلى النبي فأسلم.
قيل: إنه دخل يوماً على مروان بن الحكم وهو على المدينة فقال له مروان: يا شيخ تأخر
إسلامك. فقال: لقد هممت به غير مرة فكان يصدني عنه أبوك.
فأما
النساء فمنهن هند بنت عتبة، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمر بقتلها لما فعلت
بحمزة ولما كانت تؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة، فجاءت إليه النساء متخفية
فأسلمت وكسرت كل صنم في بيتها وقالت: لقد كنا منكم في غرور، وأهدت إلى رسول الله، صلى
الله عليه وسلم، جديين، واعتذريت من قلة ولادة غنمها، فدعا لها بالبركة في غنمها فكثرت،
فكانت تهب وتقول: هذا من بركة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فالحمد لله الذي هدانا
للإسلام.
ومنهن
سارة، وهي مولاة عمرو بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وهي التي حملت كتاب حاطب
بن أبي بلتعة في قول بعضهم، وكانت قدمت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مسلمة فوصلها
فعادت إلى مكة مرتدة، فأمر بقتلها، فقتلها علي بن أبي طالب.
قالت:
فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده،
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون
أنا آتيه فيه ؟ " قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت
إليه.
فاجلسه
بين يديه، ثم مسح صدره ثم قال: اسلم فأسلم، قالت: ودخل به أبو بكر وكأن رأسه كالثغامة
بياضا.
فقال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " غيروا هذا من شعره " ثم قام أبو بكر فأخذ
بيد أخته وقال: أنشد الله والاسلام طوق أختي ؟ فلم يجبه أحد، قالت (1) فقال: أي أخية
احتسبي طوقك، فوالله إن الامانة في الناس اليوم لقليل.
وهرب
صفوان بن أمية، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه عمير بن وهب برداء
رسول الله صلى الله عليه وسلم أماناً لصفوان، ودعاه إلى الإسلام، وأن يقدم عليه، فإن
رضي أمراً قبله، وإلا سيره شهرين. فقدم فنادى على رؤوس الناس: يا محمد، هذا عمير بن
وهب جاءني بردائك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمراً قبلته، وإلا سيرتني
شهرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنزل أبا وهب. فقال: لا والله، لا أنزل
حتى تبين لي. فقال: بل لك تسيير أربعة أشهر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل
هوازن، فأرسل إلى صفوان يستعيره أداة وسلاحاً. فقال صفوان: أطوعاً أو كرهاً - فقال:
بل طوعاً. فأعاره الأداة والسلاح. وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر،
فشهد حنيناً والطائف، وهو كافر وامرأته مسلمة. فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم
بينهما حتى أسلم، واستقرت عنده بذلك النكاح. وكان بين إسلامهما نحو من شهر.
أحد أشراف
قريش وعقلائهم وخطبائهم وساداتهم. أسر يوم بدر كافراً، وكان أعلم الشفة، فقال عمر:
يا رسول الله، انزع ثنيتيه، فلا يقوم عليك خطيباً أبداً؟ فقال: " دعه يا عمر،
فعسى أن يقوم مقاماً تحمده عليه " ، فكان ذلك المقام أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما توفي ارتجت مكة، لما رأت قريش من ارتداد العرب، واختفى عتاب بن أسيد الأموي
أمير مكة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقام سهيل بن عمرو خطيباً، فقال: يا معشر قريش،
لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد، والله إن هذا الدين ليمتد امتداد الشمس والقمر
من طلوعهما إلى غروبهما في ظلام طويل، مثل كلام أبي بكر في ذكره وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم، وأحضر عتاب بن أسيد، وثبتت قريش على الإسلام.
وكان
الذي أسره يوم بدر مالك بن الدخشم. وأسلم سهيل يوم الفتح.
روى جرير
بن حازم، عن الحسن، قال: حضر الناس باب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن
عمرو، وأبو سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وأولئك الشيوخ من مسلمة الفتح، فخرج آذنه،
فجعل يأذن لأهل بدر كصهيب، وبلال، وعمار، وأهل بدر، وكان يحبهم، فقال أبو سفيان: ما
رأيت كاليوم قط، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل بن عمرو
قال الحسن: ويا له من رجل، ما كان أعقله! فقال: أيها القوم، إني والله قد أرى ما في
وجوهكم، فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم، دعى القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما
والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافسون عليه. ثم
قال: أيها الناس إن هؤلاء سبقوكم بما ترون، فلا سبيل، والله، إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا
هذا الجهاد فالزموه، عسى الله أن يرزقكم الشهادة، ثم نفض ثوبه، فقام، فلحق بالشام.
قال الحسن:
صدق والله عبداً أسرع إليه كعبد أبطأ عنه.
وخرج
سهيل بأهل بيته إلا ابنته هند إلى الشام مجاهداً، فماتوا هناك، ولم يبق إلا ابنته هند،
وفاختة بنت عتبة بن سهيل، فقدم بهما على عمر، وكان الحارث بن هشام قد خرج إلى الشام،
فلم يرجع من أهله إلا عبد الرحمن بن الحارث، فلما رجعت فاختة وعبد الرحمن قال عمر:
زوجوا الشريد الشريدة، ففعلوا، فنشر الله منهم عدداً كثيراً، فقيل مات سهيل في طاعون
عمواس، في خلافة عمر، سنة ثمان عشرة.
وهذا
سهيل هو صاحب القضية يوم الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين اصطلحوا، ذكر
محمد بن سعد عن الواقدي، عن سعيد بن مسلم، قال: لم يكن أحد من كبراء قريش الذين تأخر
إسلامهم فأسلموا يوم الفتح، أكثر صلاة ولا صوماً ولا صدقة، ولا أقبل على ما يعينه من
أمر الآخرة، من سهيل بن عمرو، حتى إنه كان قد شحب وتغير لونه، وكان كثير البكاء، رقيقاً
عند قراءة القرآن، لقد رؤي يختلف إلى معاذ بن جبل يقرئه القرآن وهو يبكي، حتى خرج معاذ
من مكة، فقال له ضرار بن الأزور: يا أبا يزيد، تختلف إلى هذا الخزرجي يقرئك القرآن!
ألا يكون اختلافك إلى رجل من قومك؟ فقال: يا ضرار، هذا الذي صنع بنا ما صنع حتى سبقنا
كل السبق، لعمري أختلف، لقد وضع الإسلام أمر الجاهلية، ورفع الله أقواماً بالإسلام
كانوا في الجاهلية لا يذكرون، فليتنا كنا مع أولئك فتقدمنا، وإني لأذكر ما قسم الله
لي في تقدم أهل بيتي الرجال والنساء، ومولاي عمير بن عوف فأسر به، وأحمد الله عليه،
وأرجو أن يكون الله نفعني بدعائهم ألا أكون هلكت على ما مات عليه نظرائي وقتلوا، فقد
شهدت مواطن كلها أنا فيها معاند للحق، يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق، وأنا وليت أمر
الكتاب يوم الحديبية يا ضرار، إني لأذكر مراجعتي رسول الله يومئذ، وما كنت ألظ به من
الباطل، فأستحي من رسول الله وأنا بمكة، وهو يومئذ بالمدينة، ثم قتل ابني عبد الله
يوم اليمامة شهيداً، فعزاني به أبو بكر، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" غن الشهيد ليشفع لسبعين من أهل بيته " ، فأنا أرجو أن أكون أول من يشفع
له " .
قيل:
استشهد باليرموك وهو على كردوس، وقيل: بل استشهد يوم الصفر، وقيل: مات في طاعون عمواس،
والله أعلم. أخرجه الثلاثة.
أسلم
هو وأخوه معتب يوم الفتح، وكان قد هربا من النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي صلى
الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب عمهما إليهما، فأتى بهما، فأسلما، فسر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بإسلامهما.
فقال
العباس لمّا رأى النبي · مسرورا: أضحك الله سنّك، لقد سُررتُ بسرورك، فقال النبي ·
لقد سألتُ ربي أن يهبني ابني عمي أبي لهب، فوهبنيهما.
وشهدا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، وكانا ممن ثبت ولم ينهزم، وشهدا الطائف ولم
يخرجا عن مكة، ولم يأتيا المدينة، ولهما عقب.
وقال
الزبير بن بكار، شهد عتبة ومعتب ابنا أبي لهب حنيناً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان فيمن ثبت، وأقام بمكة.
أخرجه
أبو عمر، وأبو موسى. وقال أبو موسى: " إن ثبت، وما أراه " وقول الزبير يرد
عليه، والله أعلم.
معاوية
بن صخر بن حرب بن أُمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأُموي. وهو معاوية بن أبي
سفيان، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، يجتمع أبوه وأمه في: عبد شمس. وكنيته
أبو عبد الرحمن.
وهو
شقيق أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب رضي الله عنهم، وأخ الأم خال، فهو
خال المؤمنين، وحب ذوي قرابة رسول الله · واجب، فكذلك حب أصهار رسول الله ·.
أسلم
هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه هند، في الفتح. وكان معاوية يقول: إنه أسلم عام القضية، وإنه
لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً وكتم إسلامه من أبيه وأمه.
وشهد
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، وأعطاه من غنائم هوازن مائة بعير، وأربعين
أُوقية.
هو
والد أم المؤمنين أم حبيبة، ومعاوية شقيقها، رضي الله عنهم وأرضاهم. حبهم واجب،
وبُغضهم حرام، والإسلام ما كان قبله، ولا يجوز ذكر ما حدث قبل الإسلام، كما في
الكتاب والسنة.
أقام
النبي · بمكة بعد الفتح خمسة عشر يوما، وأمر بهدم الأصنام، ونادى مناديه:
من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدع في بيته صنما.
وبعد
تطهير مكة من وجود الأصنام، أرسل سرايا لهدم ما تبقى من الأصنام بضواحي مكة.
قال
الواقدي: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْهُذَلِيّ
قَالَ [ ص 870 ] لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ
بَثّ السّرَايَا ، فَبَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى الْعُزّى ، وَبَعَثَ إلَى
ذِي الْكَفّيْنِ - صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ - الطّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدّوْسِيّ
، فَجَعَلَ يُحَرّقُهُ بِالنّارِ.
وَبَعَثَ
عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى صَنَمِ هُذَيْلٍ - سُوَاعٍ - فَهَدَمَهُ فَكَانَ عَمْرٌو
يَقُولُ انْتَهَيْت إلَيْهِ وَعِنْدَهُ السّادِنُ فَقَالَ مَا تُرِيدُ ؟ فَقُلْت :
هَدْمُ سُوَاعٍ . فَقَالَ مَا لَك وَلَهُ ؟ فَقُلْت : أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هَدْمِهِ . قُلْت : لِمَ ؟ قَالَ
يَمْتَنِعُ . قَالَ عَمْرٌو : حَتّى الْآنَ أَنْتَ فِي الْبَاطِلِ وَيْحَك هَلْ يَسْمَعُ
أَوْ يُبْصِرُ ؟ قَالَ عَمْرٌو : فَدَنَوْت إلَيْهِ فَكَسَرْته ، وَأَمَرْت أَصْحَابِي
فَهَدَمُوا بَيْتَ خِزَانَتِهِ وَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا شَيْئًا ، ثُمّ قَالَ لِلسّادِنِ
كَيْفَ رَأَيْت ؟ قَالَ أَسْلَمْت لِلّهِ.
وَبَعَثَ
سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ إلَى مَنَاةَ بِالْمُشَلّلِ ومعه عشرون راكبا، فَهَدَمَهُ.
وهكذا
اشتغل بهدم الأصنام في رمضان كله، وتطهير أرض الله تعالى من دنس الشرك والأوثان.
وفي
شوال لَمّا رَجَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ هَدْمِ الْعُزّى إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُقِيمٌ بِمَكّةَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ وَبَعَثَهُ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى الْإِسلَامِ
وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا . فَخَرَجَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَبَنِي سُلَيْمٍ ; فَكَانُوا ثَلَثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا ، فَانْتَهَى إلَيْهِمْ
بِأَسْفَلَ مَكّةَ ، فَقِيلَ لِبَنِي جَذِيمَةَ هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَهُ
الْمُسْلِمُونَ .
أرادوا
أن يقولوا أسلمنا، لكنهم كانوا مذعورين، فقالوا: صبأنا صبأنا.
فقتل
خالد بعضهم، وأسر آخرين.
فَلَمّا
بَلَغَ رَسُول اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
رَفَعَ يَدَيْهِ حَتّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ وَيَقُولُ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ
إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِد.
فَلَمّا
فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ اسْتَقْرَضَ مَالًا بِمَكّةَ
وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّا فَأَعْطَاهُ مَالًا
، فَقَالَ انْطَلِقْ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ
قَدَمَيْك ، فَدِ لَهُمْ مَا أَصَابَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ . فَخَرَجَ عَلِيّ بِذَلِكَ
الْمَالِ حَتّى جَاءَهُمْ فَوَدَى لَهُمْ مَا أَصَابَ خَالِدٌ وَدَفَعَ إلَيْهِمْ مَالَهُمْ
وَبَقِيَ لَهُمْ بَقِيّةُ الْمَالِ فَبَعَثَ عَلِيّ أَبَا رَافِعٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَسْتَزِيدَهُ فَزَادَهُ مَالًا ، فَوَدَى لَهُمْ
كُلّ مَا أَصَابَ حَتّى إنّهُ لَيَدِي لَهُمْ مِيلَغَةَ الْكَلْبِ حَتّى إذَا لَمْ
يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ يَطْلُبُونَهُ بَقِيَ مَعَ عَلِيّ بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ . فَقَالَ
عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ هَذِهِ الْبَقِيّةُ مِنْ هَذَا الْمَالِ لَكُمْ مِنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّا أَصَابَ خَالِدٌ مِمّا لَا يَعْلَمُهُ
وَلَا تَعْلَمُونَهُ .
ثم
رجع إلى النبي ·، فقال رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصَبْت
وأحسنت.