{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}.
ملخص معاني الآية:
لا يستوي القاعدون في بيوتهم بدون عذر
والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، لقد فضّل الله المجاهدين بأموالهم
وأنفسهم على القاعدين درجة، رغم وعده الحسنى للجميع، وفضّل الله المجاهدين على
القاعدين أجراً عظيما، لهم درجات عالية عند ربهم ومغفرة ورحمة، والله غفور رحيم.
الأقوال والمراجع:
(1)
فضل المجاهدين الواضح:
(لما حذّرهم على القتل خطأ) ظنّ البعض أن
القعود في البيوت والاهتمام بالرياضة والعبادة أفضل من الجهاد، لأنهم لا يواجهون
فيها تلك الحالات. لكن الله سبحانه وتعالى أراد إقامة حكم السماء في الأرض (الذي
أخبر عنه الأنبياء) لتطهيرها من الشر والكفر، وهذا لا يمكن تحقيقه في عالم الأسباب
بدون المجاهدين، لذلك أخبرهم أن القاعدين في البيوت بدون ضرر والمجاهدون في سبيل
الله بأموالهم وأنفسهم لا يستوون. فالآية إن دلت على نفي المساواة بينهما فإنها
دلت على فضل المجاهدين، لذلك أكّد عليه بقوله {فضّل الله المجاهدين} أن الذين
يقعدون في بيوتهم بدون عذر، لاشك أنه لا مقارنة بينهم وبين المجاهدين، لكن الذين
يقعدون بعذر يفضلهم المجاهدون درجات، وبما أن المعذورين كانوا يتمنون الخروج في
سبيل الله للجهاد، لذلك وعدهم الله تعالى بالحسنى من الجنة والمغفرة.
أخرج عبد الرزاق :
عن زيد بن ثابت، قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال : {اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاء
عبد الله ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من
الزمانة ما قد ترى، قد ذهب بصري. قال زيد: فثقلت فَخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
على فخذي، حتى خشيت أن ترضها ثم سُرِّي عنه، ثم قال: اكتب: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
}. (أخرجه ابن كثير عن عبد الرزاق)
وتم إدخالهم ضمن {وكلاً وعد الله الحسنى} لأجل
نياتهم. ولكن لاشك أن المجاهدين كانوا في مهمة صعبة، يضحّون بأموالهم وأنفسهم،
لذلك خصهم بقوله {وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما} ثم ذكر تفاصيل
الأجر العظيم فقال {درجات منه ومغفرة ورحمة} درجات خاصة ومغفرة بشكل الراحة
الأبدية، والرحمة الخاصة بشكل رؤية وجهه. ثم أشار إلى بقية العابدين ذوي الرياضات
والمجاهدات في الطاعات بقوله {وكان الله غفورا رحيما}. (التفسير الحقاني)
(2) ثلاث طبقات:
المسلمون على أربعة أصناف باعتبار الخروج إلى
القتال، ثلاثة منهم ذكرهم في هذه الآية، القاعد، والمجاهد، وأولي الضرر. فالقاعد
من كان مستعدا للقتال، لكنه لم يتلق بالأمر بالقتال إلى الآن. والمجاهد من ضحّي بالمال
والنفس في ساحة القتال. وأولى الضرر الذين لا يقدرون على الجهاد في سبيل الله
لعاهة بهم. وسوف يكرمهم الله جميعا بالدرجات والمغفرة والرحمة حسب أعمالهم
وإنجازاتهم. (حاشية اللاهوري رحمه الله)
(3) والله غفور رحيم:
«في الآية السابقة نزل عتاب أولئك الذين قتلوا
من ألقى إليهم السلام لجهل وخطإ، لذلك كان من المحتمل أن يتخلف البعض عن الجهاد،
لأن القتال لا يخلو عن حالات متشابهة بما سبق، لذلك بيّن في هذه الآيات فضلهم ورغّبهم
في الجهاد. ومعنى الآية باختصار أن الأعرج والأعمى والمريض معذورون عن الجهاد، أما
غيرهم من المسلمين فمن خرج منهم للجهاد لهم درجات عظيمة على القاعدين، رغم دخول
الجميع في الجنة. دلت الآية على أن الجهاد فرض على الكفاية، وليس على الأعيان.
بمعنى أن عددا كافيا من المسلمين لو خرج للجهاد في سبيل الله، فلا إثم على
القاعدين، وإلا أثِمَ الجميع. فالله غفور رحيم، يفي بما يعد بشأن المجاهدين من أجر
ومغفرة، أو يغفر تقصيراتهم في قتل مسلم بدون التدقيق في أمره، فلا تتخلفوا عن
الجهاد. (التفسير العثماني)
فائدة:
هذا ما كتبه معظم المفسرين بالعربية، وتناول
القرطبي مسألة ما إذا استعد شخص للجهاد بعزيمة صادقة، ثم حبسه عذر، فهل يستوي مع
من باشر القتال في الأجر؟ واستعرض أدلة الطرفين ثم أبدى ميوله إلى التساوي في
الأجر. وأشار التهانوي رحمه الله بلفظ {درجات منه} إلى الأعمال التي يقوم بها
المجاهدون أثناء الجهاد، من السير والإقدام والهجوم والظمإ والمخمصة وأعمال صالحة
كثيرة (سبق ذكر بعضها في سورة البراءة) لا تحصل درجاتها العالية إلا بالجهاد. وبضم
تحقيقات الإمامين القرطبي والتهانوي بعضها إلى بعض يتضح معنى الآية والمسألة التي
تناولتها بحيث تندفع كافة الشبهات. كما أخرج القرطبي عن البخاري الحديث الذي أخبر
فيه النبي · أن الله تعالى أعدّ للمجاهدين مائة درجة عالية في الجنة. (والله أعلم)
فائدة:
وفي نص تقرير ما ذكره العثماني، وهو تسهيل لما
ذكره الشاه عبد القادر رحمه الله، أن الجهاد فرض على الكفاية. أي في الحالات
العامة. ويتحول إلى فرض على الأعيان في حالات أربع، خاصة إذا هاجم الكفار على
المسلمين واحتلوا أراضيهم. والقيام بجهاد بقدر ما تكفي عن الأمة واجب حتى في حالات
فرضيته على الكفاية. في الظروف التي تحيط بنا اليوم، لا نجد المسلمين يلتفتون إلى
هذه النكات الضرورية، وترتب عليه حرمان أكثر أفراد الأمة عن فرصةٍ لتأدية واجب
الجهاد ونعمته. (والله أعلم بالصواب)