{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}.
ملخص معاني الآية الكريمة:
كما يُدفع إلى الأنصار مما أفاء الله
على رسوله.
(1) والأنصار الذين كانوا مقيمين
بالمدينة قبل مجيئ المهاجرين إليها، وتبوّؤا الإيمان واستقروا في ظلاله، واستقاموا
عليه بالمثابرة والقوة.
(2) يحبون المهاجرين، فقد أشركوهم فيما
يمتلكون من أثاث ومنزل بطيب خاطرهم.
(3) لا يحسدون المهاجرين فيما أنعم الله
عليهم من نعمة، لا يتضايقون ولا يتحرجون مما حصلت للمهاجرين من عزة وشهامة ومنزلة
عالية.
(4) يوثرون غيرهم على أنفسهم عند
الحاجة، يتحملون الشدائد ويصبرون على الجوع، في سبيل الإحسان إلى الآخرين. يهتمون
بغيرهم أكثر من اهتمامهم بأنفسهم.
لاشك في سعادة أولئك الذين وقاهم الله
من الطمع والحرص والشح.
الإيمان مقر الصحابة رضي الله عنهم:
قال الله تعالى: {والذين تبوّؤا الدار
والإيمان من قبلهم}.
ونظم الآية {والذين تبوّؤا الدار من
قبلهم} أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقد آمنوا، لأن الإيمان ليس بمكان تبوء.
(البغوي)
وتوطنوا المدينة وأخلصوا الإيمان.
(المدارك)
وقيل معناه:
أي وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنا لهم
لتمكنهم واستقامتهم عليه، كما جعلوا المدينة كذلك. (المدارك)
حب المهاجرين:
لقد أثنى الله تعالى على الأنصار خيرا،
فقال {يحبون من هاجر إليهم} وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على سمو إيمانهم
وأخلاقهم، فقد فضّلوا الإيمان على الأرض والوطن، لا يصعب خدمة المهاجرين على أحد،
لكن حبهم ليس بسهل، إذ هو يقتضي إيمانا قويا، فقد فتحوا أبواب بيوتهم وقلوبهم بين
يدي المهاجرين، ذهبوا بهم إلى بيوتهم على أنهم مُلاّكها وهم خدامهم، قسّموا جميع
ما كانوا يمتلكونه بينهم وبين المهاجرين نصفين، حتى إن أحدهم كان يُطلّق إحدى
امرأتيه لينكحها المهاجر. لقد أسهب المفسرون الكلام حول هذا الموضوع، وعلى
الراغبين مراجعته.
التآلف دون التحاسد:
قال الله تعالى: {ولا يجدون في صدورهم
حاجة مما اُوتوا}..
إن أحب القلب أحداً فرح على تقدمه
وسعادته، كالأبوين يفرحان بثراء الأولاد وغنائهم، كذلك الأنصار كانوا يحبون
المهاجرين حبا إيمانيا، ويتمنون لهم السعادة والنجاح. ولمّا قسّم رسول الله · ما
أفاء الله عليه من أموال بني النضير على المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا،
إلا ثلاثة نفر، طابت نفوسهم، وما وجدوا في قلوبهم شيئا، إذ كانوا يتمنون السعادة
والسعة لإخوانهم المهاجرين.
«يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا
به من مال الفيئ وغيره». (القرطبي)
«وذلك أن رسول الله · قسّم أموال بني
النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلا ثلاثة، فطابت أنفس الأنصار
بذلك». (الخازن)
فما من مسلم يقدم إلى الأنصار مهاجرا
إلا وأكرموه وأحبوه، لا يجدون في قلوبهم غلا للمهاجرين، لا يقولون: جاءوا من
الخارج ليخلقوا مشاكل اقتصادية فينا، لا يكتفون بهذا القدر، بل كانوا يوادونهم
ويحبونهم. ثم أشار الله تعالى إلى ميزتهم الثالثة، فقال: {ولا يجدون في صدورهم
حاجة مما اُوتوا} من الحقد والضغينة على ما آتى النبي · المهاجرين من أموال بني
النضير، لا يقولون: إنما أعطى المهاجرين، ولم يعطنا جماعة الأنصار شيئا. (أنوار
البيان)
كان الأنصار يعظّمون الإيمان ويُجلّون
قدره، ومن يعظّم الإيمان لا يعبد ترابه، بل يهاجر من أرضه وترابه في سبيل الإيمان
والعقيدة، لاحظ الأنصار أن المهاجرين لم يغادروا ديارهم وأوطانهم إلا لأجل الإيمان
والإسلام، فقاموا بما يُملي عليهم إيمانهم، بأن تنازلوا عن القيادة أمام الأجنبي
ليتولاها هو، ثم صاروا أنصارا له وأعوانا، كانوا عارفين أن الكلمة التي أقروا بها
هي نفس الكلمة التي أقرّ بها المهاجرون، إن كانوا يتخلون عن ديارهم وأوطانهم في
سبيل هذه الكلمة، أما يمكنهم أن نتخذهم إخوة لهم، متساوون معهم، فلا يسمحون لفوارق
الدار والعشيرة أن تفرّق بينهم.
فسلوك الأنصار مع إخوانهم المهاجرين
تمثل حجر الأساس لدولة إسلامية يتمتع كافة مواطنيها المسلمين بالحقوق المتساوية،
تلاشى فيها فارق التراب في التراب، لا مكانة فيها إلا للإيمان، ولا عزة فيها إلا
للإسلام، لذلك سرعان ما تحوّلت المدينة إلى عاصمة لأجزاء كثيرة من العالم.
أما المسلمون اليوم فقد تخلوا عن
الإيمان، وباتوا يقدّسون التراب والوطن، ففقدوا مكانتهم، وصاروا أهون من التراب.
(والله أعلم بالصواب)
يوثرون الغير على أنفسهم:
قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ..
هذه من إحدى ميزات جماعة الأنصار
العالية، التي أبلغتهم إلى أوج الرقي والتقدم الوجداني والشعوري، فدفع الزائد عن
الحاجة لا يشق على النفس، إنما يشق دفع ما تحتاج إليه، بأن يفضّل غيره عليه،
فيدفعه إليه، ذلك وصف لا ينشأ إلا ببركة الإيمان الكامل، ثم إنه لم ينحصر على
المال، إنما تعدّى إلى النفس، إذ كانوا يضحّون بأرواحهم لقضاء حوائج الآخرين.
قال القرطبي: إن الإيثار بالنفس من أكبر
أنواع الإيثار، خاصة إذا كان في حماية ذات الرسول ·، فذاك أفضل، مثل أبي طلحة يوم
اُحد، حمى النبي · بنفسه، وقام بين يديه كأنه تُرس، يحمي النبي · من سهام المشركين
وطعانهم، فلا يأتي إليه · سهم إلا منعه بيده وجسمه. ويوم اليرموك ثلاثة من أصحاب
رسول الله · كل منهم يدفع الكأس عن نفسه إلى أخيه، حتى فارقوا الحياة. (والقصة
مشهورة) (القرطبي)
ولقد توسع المفسرون في هذا الموضع، وذكروا
صفحات كثيرة في قصص الصحابة في الإيثار والفداء والتضحية. نشير هنا إلى بعض منها،
يُرجى مراجعة القرطبي وابن كثير والبغوي للتفصيل.
(1) أخرج البغوي بسنده قال: أخبرنا عبد الواحد
المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل،
حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن داود عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة أن
رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستضافه فبعث إلى نسائه هل عندكن من شيء؟ فقلن
ما معناه: إلا الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجل
من الأنصار: أنا يا رسول الله فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبيان فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي
صبيانك، إذا أرداوا عشاءً، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها ثم قامت كأنها
تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما فأنزل الله عز وجل:
{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} .
(البغوي)
(2) وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار: "إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم
ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم
شيء من الغنيمة" فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة
ولا نشاركهم فيها فأنزل الله عز وجل: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن
يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" . فقال النبي ·: اللهم ارحم الأنصار وارحم
أولاد الأنصار. (البغوي)
(3) أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد
بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله
بن محمد، حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال:
دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا إلا أن
تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها قال: ألا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فإنه سيصيبكم
أثرة بعدي" (3) . (البغوي)
ولأمثالها من القصص والحكايات ارجعوا
إلى ابن كثير والقرطبي والمظهري وغيرها.
البراءة من الشح.. السعادة الكبرى:
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
(1) قيل: الشح والبخل سواء. (القرطبي)
(2) وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من
البخل، وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص. (القرطبي)
(3) رُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه أنه قال: الشح أخذ مال الغير ظلما. (أحكام القرآن)
(4) وقال سعيد بن جُبير: الشح جمع مال الحرام،
ومنع الزكاة منه.
(5) وقال طاؤس: البخل في مال نفسه،
والشح في مال غيره، بأن يتمنى حصوله، سواء أكان بطريق محرم أو مباح. (القرطبي)
الطمع من أحد الأمراض الخطيرة:
الشح من إحدى الخصال الذميمة، والابتعاد
عنه فلاح وسعادة، وهو وراء الشقاء والحرمان في الدنيا كلها، ومن اُبتلي به فقد
سقطت منزلته في عيون الناس، يمنعه من المساهمة في أعمال الخير والإنسانية، حتى إن
البخيل يفقد مكانته داخل بيته وبين أفراد عائلته، وهو ما يسمى باللئيم. وأمواله لا
تصرف بعد وفاته إلا فيما فيه تبذير، لم يأت أحد إلى الدنيا من ذوي الهمم العالية
مبتلى بداء الشح. ما الشح؟ الشح أن تعصر دم كبدك، ثم لا تنتفع بالثراء الذي حويته
من وراءه، فالشحيح لم يُريّح نفسه قط، ولم يساهم في أعمال البر والخير، ثم وافته
المنية، وخلف وراءه أموالا طائلة، ولم تدخل قبره إلا الحسرة والندامة. الشح يحمل
المرء على السرقة والخيانة والقتل والظلم والكذب والتطفيف. الشح يمنعه من الأعمال
البطولية، لذلك يُلقي الله البُغض تجاهه في قلوب عباده، حتى إن أحدهم يتحاشى من
ذكر اسمه، وإذا مات، لا يذكرونه إلا بالشر، فمن وقاه الله من داء الشح الذميم هذا،
فقد أفلح وسعد في الدنيا والآخرة. (الحقاني بتسهيل)
دعاء الوقاية من الشح:
(1) قال القرطبي:
كان النبي · يقول: «اللهم إني أعوذبك من
شح نفسي وإسرافها ووساوسها».
(2) أخرج القرطبي بسنده قال: حدثنا محمد
بن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد
بن جُبَير، عن أَبي الهياج الأسدي، قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهمّ
قني شحّ نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال. إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم
أزن، ولم أفعل شيئًا، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف.
ذكر المفسرون العديد من الأحاديث والروايات
في ذم الشح والبخل، وعلى الراغبين مراجعة ابن كثير والبغوي والمظهري وأنوار
البيان. نكتفي هنا بذكر حديث واحد:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله ·: لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع
الشح والإيمان في قلب عبد أبداً. (أخرجه النسائي) (الخازن).
توقير المحاسن وقت التقسيم:
تأملوا بُرهة.. أموال الفيئ جائزة
ربانية عاجلة إلى المسلمين، وهذه الآيات تشير إلى من يتم تقسيم الفيئ عليهم، وعند
التقسيم أشار الله تعالى إلى محاسن عباده المخلصين، وهي أكبر عندهم من كل جائزة
ووسام، ومن هنا عرفنا أن ما من مسلم يذكر محاسن صحابة رسول الله ·، ويثني عليهم
خيرا، إلا و يتبع النهج الرباني المذكور في هذه الآية.
والأمر الثاني أن الهجرة ستمضي في
المسلمين إلى يوم القيامة، وكذلك النصر، وهذه الآيات أشارت إلى صفات المهاجرين
التي إن توفرت فيهم تلك الصفات، قُبلت هجرتهم، وما هي تلك الصفات التي تحلّى بها
الأنصار، حتى إن تحققت قُبل النصر.
ومن هنا يجب على كل مسلم، ومجاهد بصفة
خاصة، أن يتدبر هذه الآيات، ويتأملها، وعليهم أن يتحلوا بتلك الصفات التي كان
أصحاب رسول الله · يتحلون بها، حتى مدحهم الله وأثنى عليهم خيرا.
ثالثا.. الصفات المذكورة في الآية الكريمة من
ميزتها أنها تؤدي إلى تقوية جماعة المسلمين عند اتصافهم بها، واُرعب العدو بهم
بحيث يتراجع بدون مقاومة، وبالتالي تنفتح أبواب الفيئ المبارك على المسلمين.
الهجرة والنصر والإخلاص والجهاد والصدق
وحب المهاجرين، والنصح لكل مسلم، والإيثار وابتعاد القلب عن الطمع والشح، كل هذه
الصفات نسأل الله أن يزيّنها في قلب كل مسلم.