{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)}.
ملخص معاني الآية:
(1)
أشارت إلى أن المنافقين أعداء المسلمين من الداخل، تسللوا إلى صفوفهم للإضرار بهم
من الداخل. وهذه بعض صفاتهم:
(2)
يصرّون على إسلامهم، يقولون: إنهم يؤمنون بالله ورسوله، فأكذبهم الله فيما ادّعوا.
(3)
اتّخذوا أيمانهم جُنّة، يحلفون بالله أنهم مسلمين ليكسبوا ثقة المسلمين واحترامهم،
حتى لا يتعرضوا لأموالهم وأنفسهم.
(4)
يصدون الناس عن الجهاد، ويصدون الكفار عن الدخول في الإسلام بسلوكياتهم.
(5)
أقفل الله قلوبهم فهم لا يؤمنون، لأنهم شاهدوا الإسلام عن كثب، ولمسوا بركاته
وخيراته، ثم كفروا به، فطبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون.
سبب النزول:
قال
ابن كثير رحمه الله:
قال يونس
بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم
بن عُمَر بن قتادة، في قصة بني المصطلق: فبينا رسول الله مقيم هناك، اقتتل على الماء
جَهجاه بن سعيد الغفاري - وكان أجيرا- لعمر بن الخطاب، وسنان بن وَبْر قال ابن إسحاق:
فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: ازدحما على الماء فاقتتلا فقال سنان: يا معشر الأنصار.
وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين - وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي-
فلما سمعها قال: قد ثاورُونا في بلادنا. والله ما مثلُنا وجلابيب قريش هذه إلا كما
قال القائل: "سَمن كلبك يأكلك". والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز
منها الأذل. ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم،
وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم في بلادكم إلى غيرها. فسمعها
زيد ابن أرقم، فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غُلَيّمٌ - وعنده عمر
بن الخطاب رضي الله عنه - فأخبره الخبر، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله مر عَبّاد
بن بشرْ فليضرب عنقه. فقال صلى الله عليه وسلم: "فكيف إذا تحدث الناس - يا عمر-
أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن ناد يا عمر في الرحيل".
فلما
بلغ عبد الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أتاه فاعتذر إليه،
وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم - وكان عند قومه بمكان-فقالوا: يا رسول
الله، عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل.
وراح
رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهجرًا في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير
فسلم عليه بتحية النبوة، ثم قال: والله لقد رُحتَ في ساعة مُنكَرَة ما كنت تروح فيها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي؟. زعم أنه
إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل". قال: فأنت - يا رسول الله -العزيزُ
وهو الذليل. ثم قال: يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخَرزَ
لِنُتَوّجه، فإنه ليرى أن قد استلبتَه ملكا.
فسار
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا، ليلته حتى أصبحوا، وصَدرَ يومه حتى
اشتد الضحى. ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مَس
الأرض فناموا، ونزلت سورة المنافقين.
فائدة:
و
نسرد حديثا آخر أخرجه البخاري في سبب النزول، إضافة إلى روايات أخرى، نذكرها
لاحقاً. كما سنذكر قصة غزوة بني المصطلق، لتساعد في توضيح مباحث السورة المباركة.
الذين يصدون عن الجهاد:
قال
الله تعالى: {فصدّوا عن سبيل الله}..
أي
المنافقون يصدون الناس عن سبيل الله، ويصدون عن الجهاد والإيمان بمحمد ·.
{فصدوا
عن سبيل الله} منعوا الناس عن الجهاد والإيمان بمحمد ·. (معالم التنزيل)
وقال
القرطبي رحمه الله:
ومعنى
الصد عن سبيل الله إما لأنهم أظهروا الإسلام، فلا يمكن للمسلمين المخلصين قتالهم،
فكأنهم منعوا الناس عن الجهاد في سبيل الله.
وإما
بتخلفهم عن الجهاد، لا يخرجون إليه، فيقتدي بهم بعض المخلصين من المؤمنين، فلا
يخرجون.
{فصدّوا
عن سبيل الله}
أو
صرفوا المؤمنين عن إقامة حكم الله عليهم من القتل والسبي وأخذ الأموال، فهو من
الصد، أو منعوا الناس عن الجهاد، بأن يتخلفوا ويقتدي بهم غيرهم. (القرطبي).
وقال
المحلّي رحمه الله:
فصدوا
بها عن سبيل الله أي الجهاد فيه.
وقال
اللاهوري رحمه الله:
«هؤلاء
الذين لا إيمان لهم يتقون من ضربة السيف بالحلف الكاذب، ثم يضلون الناس عن
الإسلام». (حاشية اللاهوري)
أناس لا خير فيهم:
قال
ابن كثير رحمه الله:
وقوله:
{ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي: اتقوا الناس
بالأيمان الكاذبة والحَلْفات الآثمة، ليصدقوا فيما يقولون، فاغتر بهم من لا يعرف جلية
أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون، وهم
من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خَبَلا فحصل بهذا القدر ضرر
كبير على كثير من الناس ولهذا قال تعالى: { فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ
سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ولهذا كان الضحاك بن مُزَاحم يقرؤها: "اتَّخَذُوا
إيمَانَهُمْ جُنَّةً" أي: تصديقهم الظاهر جُنَّة، أي: تقية يتقون به القتل. والجمهور
يقرؤها: { أيمانهم } جمع يمين.
سبب الحرمان:
المنافقون
وجدوا فرصة لمشاهدة رسول الله · من قريب، وشاهدوا أحوال المسلمين، سمعوا القرآن
وحضروا في المسجد النبوي الشريف، وجلسوا في مجالس النبي · يستمعون لحديثه، لأنهم
انضموا إلى صفوف المسلمين بالإقرار بالشهادتين بلسانهم، لكنهم حافظوا على كفرهم
وشركهم. أهلكهم حب النفس و المال والأولاد والوطن، جعلوا الدنيا أكبر همهم، انضموا
إلى المسلمين ليسخروا بكلام رسول الله ·، كانوا يقولون: إن كان صادقا ما يقوله
محمد · فنحن حُمُر، كما سخروا بوعود الانتصارات الإسلامية يوم الخندق، وقالوا:
يتحدثون عن كنوز قيصر وكسرى وأحدنا لا يتبرز لما به من الخوف.
ونظراً
لوتيرتهم هذه مع الإسلام والمسلمين والرسول، طبع الله على قلوبهم. شأنهم شأن
كثيرين من الناس اليوم يدعون الإسلام، ويسخرون بحديث رسول الله ·، يستبعدون بشائر
الانتصارات التي وردت في القرآن الكريم، فهؤلاء بحاجة إلى إصلاح أحوالهم.
وفي
التفسير العثماني:
أقروا
باللسان وكفروا بالقلوب، ادعوا الإيمان، ثم قاموا بأعمال الكفار، فخداعهم ومكرهم
هذا جلب لهم الويلات، وطبع الله على قلوبهم، فلا منفذ للإيمان والخير والصدق إلى
قلوبهم. ولاشك أنهم بعدما آلوا إلى ما آلوا إليه لا يُرجى منهم الخير، لأن القلب
لا يصلح لوعي الخير والشر بعد مسخه وتغيّره بكثرة الذنوب والمعاصي.
حديث البخاري في سبب نزول السورة:
أخرج
الإمام البخاري بسنده قال:
حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنْتُ فِي غَزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ
لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ
وَلَئِنْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فَذَكَرْتُ
ذَلِكَ لِعَمِّي أَوْ لِعُمَرَ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا فَكَذَّبَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُ فَأَصَابَنِي هَمٌّ
لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ فَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ لِي عَمِّي مَا أَرَدْتَ
إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } فَبَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَرَأَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ. (صحيح
البخاري، كتاب التفسير)
هذه
القصة ذكرها البخاري في تفسير هذه السورة، كما ذكر قصة القتال الذي كانوا يخشون
وقوعه بين المهاجرين والأنصار بعدة أسانيد، ارجعوا إلى صحيح البخاري، كتاب
التفسير.
وقال
ابن كثير رحمه الله: هذه القصة التي نزلت فيها سورة «المنافقون» كانت قصة غزوة
المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق.
«وهي
غزوة بني المصطلق». (تفسير ابن كثير)
وقبل
شرح مباحث الآيات الكريمة، لاحظوا قصة غزوة بني المصطلق باختصار.
غزوة مُريسيع أو بني المصطلق
2 شعبان يوم الإثنين سنة 5 هـ
غزوة مُريسيع أو بني المصطلق
غزوة المريسيع
غَزْوَةُ
الْمُرَيْسِيعِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَعْبَانَ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ
لِهِلَالِ رَمَضَانَ وَغَابَ شَهْرًا إلّا لَيْلَتَيْنِ .
ففي
مغازي الواقدي بسنده :
حَدّثَنَا
الْوَاقِدِيّ قَالَ حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ
، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ
وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ وَأَبُو
مَعْشَرٍ وَخَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ وَعَائِذُ بْنُ يَحْيَى ، وَعُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ
الْمَخْزُومِيّ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ
يَزِيدَ الْهُذَلِيّ ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ
حَدّثَنِي قَالُوا : إنّ بَلْمُصْطَلِقَ مِنْ خُزَاعَةَ كَانُوا يَنْزِلُونَ نَاحِيَةَ
الْفُرُعِ ، وَهُمْ حُلَفَاءُ فِي بَنِي مُدْلِج ٍ وَكَانَ رَأْسُهُمْ وَسَيّدُهُمْ
الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ ، وَكَانَ قَدْ سَارَ فِي قَوْمِهِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ
مِنْ الْعَرَبِ ، فَدَعَاهُمْ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَابْتَاعُوا خَيْلًا وَسِلَاحًا وَتَهَيّئُوا لِلْمَسِيرِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَجُعِلَتْ
الرّكْبَانُ تَقَدّمَ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ فَيُخْبِرُونَ بِمَسِيرِهِمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَعَثَ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحَصِيبِ
الْأَسْلَمِيّ يَعْلَمُ عِلْمَ ذَلِكَ وَاسْتَأْذَنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنْ يَقُولَ فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ حَتّى وَرَدَ [ ص 405 ] عَلَيْهِمْ مَاءَهُمْ
فَوَجَدَ قَوْمًا مَغْرُورِينَ قَدْ تَأَلّبُوا وَجَمَعُوا الْجُمُوعَ فَقَالُوا :
مَنْ الرّجُلُ ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْكُمْ قَدِمْت لِمَا بَلَغَنِي عَنْ جَمْعِكُمْ لِهَذَا
الرّجُلِ فَأَسِيرُ فِي قَوْمِي وَمَنْ أَطَاعَنِي فَتَكُونُ يَدُنَا وَاحِدَةً حَتّى
نَسْتَأْصِلَهُ . قَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ : فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ فَعَجّلْ
عَلَيْنَا .
قَالَ
بُرَيْدَةُ : أَرْكَبُ الْآنَ فَآتِيكُمْ بِجَمْعٍ كَثِيفٍ مِنْ قَوْمِي وَمَنْ أَطَاعَنِي
. فَسَرّوا بِذَلِكَ مِنْهُ وَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْقَوْمِ فَنَدَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
النّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ عَدُوّهِمْ فَأَسْرَعَ النّاسُ لِلْخُرُوجِ وَقَادُوا
الْخُيُولَ وَهِيَ ثَلَاثُونَ فَرَسًا ، فِي الْمُهَاجِرِينَ مِنْهَا عَشَرَةٌ وَفِي
الْأَنْصَارِ عِشْرُونَ وَلِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَسَانِ.
قَالُوا
: وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ
الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَخْرُجُوا فِي غَزَاةٍ قَطّ مِثْلِهَا ، لَيْسَ بِهِمْ رَغْبَةٌ
فِي الْجِهَادِ إلّا أَنْ يُصِيبُوا مِنْ عَرَضِ الدّنْيَا ، وَقَرُبَ عَلَيْهِمْ السّفَرُ
.
هجوم
مفاجئ:
[ ص 407 ] ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمُرَيْسِيعِ وَهُوَ الْمَاءُ فَنَزَلَهُ وَضُرِبَ لِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُبّةٌ مِنْ أَدَمٍ وَمَعَهُ مِنْ نِسَائِهِ
عَائِشَةُ وَأُمّ سَلَمَةَ . وَقَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى الْمَاءِ وَأَعَدّوا وَتَهَيّئُوا
لِلْقِتَالِ فَصَفّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ وَدَفَعَ
رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ إلَى أَبِي بَكْر ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَرَايَةَ الْأَنْصَارِ
إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَيُقَالُ كَانَ مَعَ عَمّارِ بْنِ
يَاسِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ .
ثُمّ
أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ فَنَادَى فِي النّاسِ قُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللّهُ تَمْنَعُوا بِهَا
أَنَفْسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ . فَفَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَبَوْا فَكَانَ
أَوّلَ مَنْ رَمَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَرَمَى الْمُسْلِمُونَ سَاعَةً بِالنّبْلِ
ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْمِلُوا
، فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَمَا أَفْلَتَ مِنْهُمْ إنْسَانٌ وَقُتِلَ عَشَرَةٌ
مِنْهُمْ وَأُسِرَ سَائِرُهُمْ .
وَسَبَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الرّجَالَ وَالنّسَاءَ وَالذّرّيّةَ
[ وَغُنِمَتْ ] النّعَمُ وَالشّاءُ وَمَا قُتِلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلّا رَجُلٌ
وَاحِدٌ . وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ يُحَدّثُ قَالَ حَمَلَ لِوَاءَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ
صَفْوَانُ ذُو الشّقْرِ فَلَمْ تَكُنْ لِي بِأُهْبَةٍ حَتّى شَدَدْت عَلَيْهِ وَكَانَ
الْفَتْحُ.
أم
المؤمنين جويرية رضي الله عنها:
وَحَدّثَنِي
سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي الْأَبْيَضِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّتِهِ وَهِيَ
مَوْلَاةُ جُوَيْرِيَةَ قَالَتْ سَمِعْت جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ تَقُولُ [
ص 409 ] أَتَانَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَحْنُ عَلَى الْمُرَيْسِيعِ
فَأَسْمَعُ أَبِي يَقُولُ أَتَانَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ . قَالَتْ فَكُنْت أَرَى
مِنْ النّاسِ وَالْخَيْلِ مَا لَا أَصِفُ مِنْ الْكَثْرَةِ فَلَمّا أَنْ أَسْلَمْت
وَتَزَوّجَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَجَعْنَا جَعَلْت
أَنْظُرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسُوا كَمَا كُنْت أَرَى ، فَعَلِمْت أَنّهُ رُعْبٌ
مِنْ اللّهِ تَعَالَى يُلْقِيهِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ.
فَكَانَ
رَجُلٌ مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ يَقُولُ لَقَدْ كُنّا نَرَى رِجَالًا
بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ مَا كُنّا نَرَاهُمْ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ .
قَالُوا
: فَاقْتُسِمَ السّبْيُ وَفُرّقَ فَصَارَ فِي أَيْدِي الرّجَالِ وَقُسِمَتْ الرّثّةُ
وَقُسِمَ النّعَمُ وَالشّاءُ وَعُدِلَتْ الْجَزُورُ بِعَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ وَبِيعَتْ
الرّثّةُ فِيمَنْ يُرِيدُ وَأُسْهِمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ وَلِلرّاجِلِ
سَهْمٌ .
وَكَانَتْ
الْإِبِلُ أَلْفَيْ بَعِيرٍ وَخَمْسَةَ آلَافِ شَاةٍ وَكَانَ السّبْيُ مِائَتَيْ أَهْلِ
بَيْتٍ . فَصَارَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ
وَابْنِ عَمّ [ ص 411 ] لَهُ فَكَاتَبَهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ ذَهَبٍ .
فَحَدّثَنِي
عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ثَوْبَانَ ، عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ كَانَتْ جُوَيْرِيَةُ جَارِيَةً حُلْوَةً لَا يَكَادُ
يَرَاهَا أَحَدٌ إلّا ذَهَبَتْ بِنَفْسِهِ فَبَيْنَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عِنْدِي وَنَحْنُ عَلَى الْمَاءِ إذْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ جُوَيْرِيَةُ تَسْأَلُهُ
فِي كِتَابَتِهَا . قَالَتْ عَائِشَةُ : فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا
فَكَرِهْت دُخُولَهَا عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَرَفْت أَنّهُ
سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ الّذِي رَأَيْت ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي امْرَأَةٌ
مُسْلِمَةٌ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّك رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا جُوَيْرِيَةُ
بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَيّدِ قَوْمِهِ أَصَابَنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا
قَدْ عَلِمْت ، وَوَقَعْت فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ وَابْنِ عَمّ
لَهُ فَتَخَلّصَنِي مِنْ ابْنِ عَمّهِ بِنَخَلَاتٍ لَهُ بِالْمَدِينَةِ ، فَكَاتَبَنِي
ثَابِتٌ عَلَى مَا لَا طَاقَةَ لِي بِهِ وَلَا يَدَانِ وَمَا أَكْرَهَنِي عَلَى ذَلِكَ
إلّا أَنّي رَجَوْتُك صَلّى اللّهُ عَلَيْك فَأَعِنّي فِي مُكَاتَبَتِي فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوَخَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَتْ مَا هُوَ
يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أُؤَدّي عَنْك كِتَابَتَك وَأَتَزَوّجُك . قَالَتْ نَعَمْ
يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ فَعَلْت فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى ثَابِتٍ فَطَلَبَهَا مِنْهُ فَقَالَ ثَابِتٌ هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ
بِأَبِي وَأُمّي . فَأَدّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا كَانَ
عَلَيْهَا مِنْ كِتَابَتِهَا ، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا . وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلَى
النّاسِ وَرِجَالُ بَنِي الْمُصْطَلِق ِ قَدْ اُقْتُسِمُوا وَمُلِكُوا وَوُطِئَ نِسَاؤُهُمْ
فَقَالُوا : أَصْهَارُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعْتَقُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ
مِنْ ذَلِكَ السّبْيِ . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : فَأَعْتَقَ مِائَةُ
أَهْلِ بَيْتٍ بِتَزْوِيجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيّاهَا
، فَلَا أَعْلَمُ امْرَأَةً أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا.
فَحَدّثَنِي
حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ [ ص 412 ] قَالَتْ جُوَيْرِيَةُ : رَأَيْت
قَبْلَ قُدُومِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ كَأَنّ
الْقَمَرَ يَسِيرُ مِنْ يَثْرِبَ حَتّى وَقَعَ فِي حِجْرِي ، فَكَرِهْت أَنْ أُخْبِرَهَا
أَحَدًا مِنْ النّاسِ حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَلَمّا سُبِينَا رَجَوْت الرّؤْيَا ، فَلَمّا أَعْتَقَنِي وَتَزَوّجَنِي وَاَللّهِ
مَا كَلّمْته فِي قَوْمِي حَتّى كَانَ الْمُسْلِمُونَ هُمْ الّذِينَ أَرْسَلُوهُمْ
وَمَا شَعَرْت إلّا بِجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ عَمّي تُخْبِرُنِي الْخَبَرَ ، فَحَمِدْت
اللّهَ عَزّ وَجَل.
حب الصحابة لرسول الله ·:
وَيُقَالُ
إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَ كُلّ
أَسِيرٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، وَيُقَالُ جَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَ أَرْبَعِينَ
مِنْ قَوْمِهَا .
فَحَدّثَنِي
ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ قَالَ كَانَ السّبْيُ مِنْهُمْ
مَنْ مَنّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِغَيْرِ فِدَاءٍ
وَمِنْهُمْ مَنْ اُفْتُدِيَ وَذَلِك بَعْدَ مَا صَارَ السّبْيُ فِي أَيْدِي الرّجَالِ
فَافْتُدِيَتْ الْمَرْأَةُ وَالذّرّيّةُ بِسِتّ فَرَائِضَ . وَكَانُوا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ
بِبَعْضِ السّبْيِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ أَهْلُوهُمْ فَافْتَدَوْهُمْ فَلَمْ تَبْقَ
امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِق ِ إلّا رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا . . وَهَذَا الثّبْتُ
.
وَحَدّثَنِي
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي الْأَبْيَضِ عَنْ جَدّتِهِ وَهِيَ مَوْلَاةُ جُوَيْرِيَةَ
، كَانَ عَالِمًا بِحَدِيثِهِمْ قَالَتْ سَمِعْت جُوَيْرِيَةَ تَقُولُ افْتَدَانِي
أَبِي مِنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ بِمَا اُفْتُدِيَ بِهِ امْرَأَةٌ مِنْ
السّبْيِ ثُمّ خَطَبَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَبِي
فَأَنْكَحَنِي . قَالَتْ وَكَانَ اسْمُهَا بَرّ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ جُوَيْرِيَةَ ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ « خَرَجَ مِنْ بَيْتِ
بَرّةَ »
قَالَ
ابْنُ وَاقِدٍ : وَأَثْبَتُ ( مِنْ ) هَذَا عِنْدَنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى عَنْهَا كِتَابَتَهَا وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا
وَكَانَ
أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ فَقَدِمَ عَلَيْنَا وُفُودُهُمْ فَافْتَدَوْا الذّرّيّةَ وَالنّسَاءَ
وَرَجَعُوا بِهِنّ إلَى بِلَادِهِمْ وَخُيّرَ مَنْ خُيّرَ مِنْهُنّ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَ
مَنْ صَارَتْ فِي سَهْمِهِ فَأَبَيْنَ إلّا الرّجُوعَ .
خبث المنافقين:
ذِكْرُ
مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ ابْنِ أُبَيّ قَالُوا [ ص 415 ] فَبَيْنَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى
مَاءِ الْمُرَيْسِيعِ قَدْ انْقَطَعَتْ الْحَرْبُ وَهُوَ مَاءٌ ظَنُونٌ . إنّمَا يَخْرُجُ
فِي الدّلْوِ نِصْفُهُ أَقْبَلَ سِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ - وَهُوَ حَلِيفٌ
فِي بَنِي سَالِمٍ - وَمَعَهُ فَتَيَانِ مِنْ بَنِي سَالِمٍ يَسْتَقُونَ فَيَجِدُونَ
عَلَى الْمَاءِ جَمْعًا مِنْ الْعَسْكَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَكَانَ
جَهْجَا بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيّ أَجِيرًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ فَأَدْلَى سِنَانٌ وَأَدْلَى جَهْجَا دَلْوَهُ وَكَانَ جَهْجَا أَقْرَبَ السّقَاءِ
إلَى سِنَانِ بْنِ وَبَرٍ فَالْتَبَسَتْ دَلْوُ سِنَانٍ وَدَلْوُ جَهْجَا ، فَخَرَجَتْ
إحْدَى الدّلْوَيْنِ وَهِيَ دَلْوُ سِنَانِ بْنِ وَبَرٍ . قَالَ سِنَانٌ فَقُلْت :
دَلْوِي . فَقَالَ جَهْجَا : وَاَللّهِ مَا هِيَ إلّا دَلْوِي . فَتَنَازَعَا إلَى
أَنْ رَفَعَ جَهْجَا يَدَهُ فَضَرَبَ سِنَانًا فَسَالَ الدّمُ فَنَادَى : يَا آلَ خَزْرَجٍ
وَثَارَتْ الرّجَالُ . قَالَ سِنَانٌ وَأَعْجَزَنِي جَهْجَا هَرَبًا وَأَعْجَزَ أَصْحَابِي
، وَجَعَلَ يُنَادِي فِي الْعَسْكَرِ يَا آلَ قُرَيْشٍ يَا آلَ كِنَانَةَ فَأَقْبَلَتْ
إلَيْهِ قُرَيْشٌ سِرَاعًا . قَالَ سِنَانٌ فَلَمّا رَأَيْت مَا رَأَيْت نَادَيْت بِالْأَنْصَارِ
. قَالَ فَأَقْبَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَشَهَرُوا السّلَاحَ حَتّى خَشِيت
أَنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ حَتّى جَاءَنِي نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُونَ
اُتْرُكْ حَقّك
[ قَالَ
سِنَانٌ ] : وَإِذَا ضَرَبْته لَمْ يَضْرُرْنِي شَيْئًا . قَالَ سِنَانٌ فَجَعَلْت
لَا أَسْتَطِيعُ أَفْتَاتُ عَلَى حُلَفَائِي بِالْعَفْوِ لِكَلَامِ الْمُهَاجِرِينَ
، وَقَوْمِي يَأْبَوْنَ أَنْ [ ص 416 ] أَعْفُو إلّا بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ أَقْتَصّ مِنْ جَهْجَا . ثُمّ إنّ الْمُهَاجِرِينَ كَلّمُوا
حُلَفَائِي ، فَكَلّمُوا عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ وَنَاسًا مِنْ حُلَفَائِي ، فَكَلّمَنِي
حُلَفَائِي فَتَرَكْت ذَلِكَ وَلَمْ أَرْفَعْهُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ .
وَكَانَ
ابْنُ أُبَيّ جَالِسًا فِي عَشَرَةٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ ابْنُ أُبَيّ ، وَمَالِكٌ
وَدَاعِسٌ وَسُوَيْدٌ ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، وَزَيْدُ
بْنُ اللّصَيْتِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ نَبْتَلَ - وَفِي الْقَوْمِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ
غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ أَوْ قَدْ بَلَغَ - فَبَلَغَهُ صِيَاحُ جَهْجَا : يَا آلَ قُرَيْشٍ
فَغَضِبَ ابْنُ أُبَيّ غَضَبًا شَدِيدًا ، وَكَانَ مِمّا ظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ وَسَمِعَ
مِنْهُ أَنْ قَالَ وَاَللّهِ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ مَذَلّةً وَاَللّهِ إنْ كُنْت
لَكَارِهًا لِوَجْهِي هَذَا وَلَكِنْ قَوْمِي غَلَبُونِي قَدْ فَعَلُوهَا ، قَدْ نَافَرُونَا
وَكَاثَرُونَا فِي بَلَدِنَا ، وَأَنْكَرُوا مِنّتَنَا . وَاَللّهِ مَا صِرْنَا وَجَلَابِيبُ
قُرَيْشٍ هَذِهِ إلّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ « سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك » . وَاَللّهِ
لَقَدْ ظَنَنْت أَنّي سَأَمُوتُ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِمَا هَتَفَ
بِهِ جَهْجَا وَأَنَا حَاضِرٌ لَا يَكُونُ لِذَلِكَ مِنّي غِيَرٌ . وَاَللّهِ لَئِنْ
رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَة ِ لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ ثُمّ أَقْبَلَ
عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ
بِلَادَكُمْ فَنَزَلُوا مَنَازِلَكُمْ وَآسَيْتُمُوهُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ حَتّى اسْتَغْنَوْا
أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ بِلَادِكُمْ
ثُمّ لَمْ يَرْضَوْا بِمَا فَعَلْتُمْ حَتّى جَعَلْتُمْ أَنَفْسَكُمْ أَغْرَاضًا لِلْمَنَايَا
، فَقَتَلْتُمْ دُونَهُ فَأَيْتَمْتُمْ [ ص 417 ] أَوْلَادَكُمْ وَقَلَلْتُمْ وَكَثُرُوا
. فَقَامَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ كُلّهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَجِدُ عِنْدَهُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ - أَبَا بَكْرٍ ، وَعُثْمَانَ ، وَسَعْدًا ، وَمُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ
وَأَوْسَ بْنَ خَوْلِيّ وَعَبّادَ بْنَ بِشْرٍ - فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ . فَكَرِهَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَبَرَهُ وَتَغَيّرَ وَجْهَهُ ثُمّ
قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا غُلَامُ لَعَلّك غَضِبْت
عَلَيْهِ قَالَ لَا وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْته مِنْهُ . قَالَ لَعَلّهُ أَخْطَأَ سَمْعُك
قَالَ لَا يَا نَبِيّ اللّهِ قَالَ لَعَلّهُ شُبّهَ عَلَيْك قَالَ لَا وَاَللّهِ لَقَدْ
سَمِعْته مِنْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ وَشَاعَ فِي الْعَسْكَرِ مَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ
، وَلَيْسَ لِلنّاسِ حَدِيثٌ إلّا مَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ ، وَجَعَلَ الرّهْطُ مِنْ
الْأَنْصَارِ يُؤَنّبُونَ الْغُلَامَ وَيَقُولُونَ عَمَدْت إلَى سَيّدِ قَوْمِك تَقُولُ
عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ وَقَدْ ظَلَمْت وَقَطَعْت الرّحِمَ فَقَالَ زَيْدٌ وَاَللّهِ
لَقَدْ سَمِعْت مِنْهُ قَالَ وَوَاللّهِ مَا كَانَ فِي الْخَزْرَجِ رَجُلٌ وَاحِدٌ
أَحَبّ إلَيّ مِنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ، وَاَللّهِ لَوْ سَمِعْت هَذِهِ الْمَقَالَةَ
مِنْ أَبِي لَنَقَلْتهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّي
لَأَرْجُو أَنْ يُنْزِلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيّهِ حَتّى يَعْلَمُوا أَنَا كَاذِبٌ
أَمْ غَيْرِي ، أَوْ يَرَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَصْدِيقَ
قَوْلِي . وَجَعَلَ زَيْدٌ يَقُولُ اللّهُمّ أَنْزِلْ عَلَى نَبِيّك مَا يُصَدّقُ حَدِيثِي
فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ مُرْ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَأْتِك بِرَأْسِهِ
. فَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَيُقَالُ
قَالَ قُلْ لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ يَأْتِك بِرَأْسِهِ . فَقَالَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ لَا يَتَحَدّثُ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا
يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ وَقَامَ النّفَرُ مِنْ الْأَنْصَارِ الّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَدّهُ عَلَى الْغُلَامِ فَجَاءُوا إلَى
ابْنِ أُبَيّ فَأَخْبَرُوهُ وَقَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ يَا أَبَا الْحُبَابِ إنْ
كُنْت قُلْته [ ص 418 ] فَأَخْبِرْ النّبِيّ يَسْتَغْفِرْ لَك ، وَلَا تَجْحَدْهُ فَيَنْزِلَ
مَا يُكَذّبُك . وَإِنْ كُنْت لَمْ تَقُلْهُ فَأْتِ رَسُولَ اللّهِ فَاعْتَذِرْ إلَيْهِ
وَاحْلِفْ لِرَسُولِ اللّهِ مَا قُلْته . فَحَلَفَ بِاَللّهِ الْعَظِيمِ مَا قَالَ
مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا . ثُمّ إنّ ابْنَ أُبَيّ أَتَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا ابْنَ أُبَيّ ، إنْ كَانَتْ سَلَفَتْ مِنْك مَقَالَةٌ
فَتُبْ . فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاَللّهِ مَا قُلْت مَا قَالَ زَيْدٌ وَلَا تَكَلّمْت
بِهِ وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا ، فَكَانَ يُظَنّ أَنّهُ قَدْ صَدَقَ وَكَانَ يُظَنّ
بِهِ سُوءُ الظّنّ .
[ ص 419 ] وَيُقَالُ لَمْ يَشْعُرْ أَهْلُ الْعَسْكَرِ
إلّا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ طَلَعَ عَلَى رَاحِلَتِهِ
الْقَصْوَاءِ وَكَانُوا فِي حَرّ شَدِيدٍ وَكَانَ لَا يَرُوحُ حَتّى يُبْرِدَ إلّا
أَنّهُ لَمّا جَاءَهُ خَبَرُ ابْنِ أُبَيّ رَحَلَ فِي تِلْكَ السّاعَةِ . فَكَانَ أَوّلَ
مَنْ لَقِيَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْك أَيّهَا النّبِيّ
وَرَحْمَةُ اللّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَيْك
السّلَامُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ رَحَلْت فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْت
تَرْحَلُ فِيهَا وَيُقَالُ لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ - قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ
: وَهُوَ أَثْبَتُ عِنْدَنَا - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ خَرَجْت فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ
مَا كُنْت تَرُوحُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوَلَمْ
يَبْلُغْكُمْ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ ؟ قَالَ أَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ
ابْنُ أُبَيّ ، زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الْأَعَزّ مِنْهَا
الْأَذَلّ قَالَ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللّهِ تُخْرِجُهُ إنْ شِئْت ، فَهُوَ الْأَذَلّ
وَأَنْتَ الْأَعَزّ ، وَالْعِزّةُ لِلّهِ وَلَك وَلِلْمُؤْمِنِينَ . ثُمّ قَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ اُرْفُقْ بِهِ فَوَاَللّهِ لَقَدْ جَاءَ اللّهُ بِك ، وَإِنّ قَوْمَهُ
لَيُنَظّمُونَ لَهُ الْخَرَزَ مَا بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ إلّا خَرَزَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ
يُوشَعَ الْيَهُودِيّ قَدْ أَرّبَ بِهِمْ فِيهَا لِمَعْرِفَتِهِ بِحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا
لِيُتَوّجُوهُ فَجَاءَ اللّهُ بِك عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَمَا يَرَى إلّا قَدْ سَلَبَتْهُ
مُلْكَهُ .
قَالَ
فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسِيرُ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ
وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُعَارِضُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرَاحِلَتِهِ
يُرِيهِ وَجْهَهُ فِي الْمَسِيرِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَسْتَحِثّ رَاحِلَتَهُ فَهُوَ مُغِذّ فِي السّيْرِ إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ
. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَأْخُذُهُ الْبُرَحَاءُ وَيَعْرَقُ جَبِينُهُ وَتَثْقُلُ يَدَا
رَاحِلَتِهِ حَتّى مَا كَادَ يَنْقُلُهَا ، عَرَفْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُوحَى إلَيْهِ وَرَجَوْت أَنْ يَكُونَ يَنْزِلُ [ ص 420 ] عَلَيْهِ
تَصْدِيقُ خَبَرِي . قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَسُرّيَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخَذَ بِأُذُنِي وَأَنَا عَلَى رَاحِلَتِي حَتّى ارْتَفَعْت
مِنْ مَقْعَدِي وَيَرْفَعُهَا إلَى السّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ وَفَتْ أُذُنُك يَا غُلَامُ
وَصَدّقَ اللّهُ حَدِيثَك وَنَزَلَ فِي ابْنِ أُبَيّ السّورَةُ مِنْ أَوّلِهَا إلَى
آخِرِهَا وَحْدَهُ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ.
فَحَدّثَنِي
عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ الْهُرَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، قَالَ
سَمِعْت عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ لِابْنِ أُبَيّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ إِيتِ رَسُولَ اللّهِ يَسْتَغْفِرْ لَك . قَالَ فَرَأَيْته يَلْوِي
رَأْسَهُ مُعْرِضًا . يَقُولُ عُبَادَةُ أَمَا وَاَللّهِ لَيُنْزِلَن فِي لَيّ رَأْسِك
قُرْآنٌ يُصَلّى بِهِ .
وَحَدّثَنِي
يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ
عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، قَالَ مَرّ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ
أُبَيّ عَشِيّةَ رَاحَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمُرَيْسِيعِ
، وَقَدْ نَزَلَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ
فَلَمْ يُسَلّمْ عَلَيْهِ ثُمّ مَرّ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ فَلَمْ يُسَلّمْ عَلَيْهِ
فَقَالَ ابْنُ أُبَيّ : إنّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ تَمَالَأْتُمَا عَلَيْهِ . فَرَجَعَا
إلَيْهِ فَأَنّبَاهُ وَبَكَتَاهُ بِمَا صَنَعَ وَبِمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ إكْذَابًا
لِحَدِيثِهِ وَجَعَلَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ يَقُولُ لَا أَكَذِبُ عَنْك أَبَدًا حَتّى
أَعْلَمَ أَنْ قَدْ تَرَكْت مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَتُبْت إلَى اللّهِ إنّا أَقْبَلْنَا
عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ نَلُومُهُ وَنَقُولُ لَهُ « كَذَبْت عَلَى رَجُلٍ مِنْ
قَوْمِك » حَتّى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ حَدِيثِ زَيْدٍ وَإِكْذَابِ حَدِيثِك
. وَجَعَلَ ابْنُ أُبَيّ يَقُولُ لَا أَعُودُ أَبَدًا وَبَلَغَ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ
بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ مَقَالَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ « مُرْ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ
يَأْتِك بِرَأْسِهِ » فَجَاءَ إلَى النّبِيّ [ ص 421 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ كُنْت تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ أَبِي فِيمَا بَلَغَك
عَنْهُ فَمُرْنِي ، فَوَاَللّهِ لِأَحْمِلَن إلَيْك رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ
مَجْلِسِك هَذَا . وَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ فِيهَا رَجُلٌ
أَبَرّ بِوَالِدٍ مِنّي ، وَمَا أَكَلَ طَعَامًا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا مِنْ الدّهْرِ
وَلَا يَشْرَبُ شَرَابًا إلّا بِيَدِي ، وَإِنّي لَأَخْشَى يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ
تَأْمُرَ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ أَبِي
يَمْشِي فِي النّاسِ فَأَقْتُلُهُ فَأَدْخُلُ النّارَ وَعَفْوُك أَفْضَلُ وَمَنّك أَعْظَمُ
. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا عَبْدَ اللّهِ مَا أَرَدْت
قَتْلَهُ وَمَا أَمَرْت بِهِ وَلَنُحْسِنَنّ صُحْبَتَهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا
. فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبِي كَانَتْ هَذِهِ الْبَحْرَةُ
قَدْ اتّسَقُوا عَلَيْهِ لِيُتَوّجُوهُ عَلَيْهِمْ فَجَاءَ اللّهُ بِك ، فَوَضَعَهُ
اللّهُ وَرَفَعَنَا بِك ، وَمَعَهُ قَوْمٌ يُطِيفُونَ بِهِ وَيَذْكُرُونَ أُمُورًا
قَدْ غَلَبَ اللّهُ عَلَيْهَا . قَالَ فَلَمّا انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَرَفَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَدْ تَرَكَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِقَتْلِهِ، قال أبيات..
فائدة مهمة:
لمّا
تنازعت الأنصار والمهاجرون قال النبي ·:
«دعوها
فإنها منتنة».
فدلَّ
على أن الكلام الطيب طيب الرائحة وأن القبيح منه مُنتن، يشعر بطيبها ونتنها أنبياء
الله تعالى وورثتهم شعورا ظاهريا حسّياً.
وعن
جابر رضي الله عنه كنا مع النبي · فارتقت ريح منتنة، فقال رسول الله ·: أتدرون ما
هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين. رواه أحمد وابن أبي الدنيا، ورواة
أحمد ثقات. (الترغيب والترهيب للمنذري 300/3 طبع مصر)
دل
الحديث على أن النبي · ومن كان معه من أصحابه وجدوا ريحا منتنة، أما سببها فلم
يعرفوه إلا بعد إخبار النبي ·.
وأخرجه
السيوطي في الخصائص الكبرى، باب ما وقع في غزوة بني المصطلق من الآيات عن أبي نعيم
بلفظ:
«عن
جابر قال كنا مع رسول الله · في سفر فهاجت ريح منتنة فقال النبي ·: إن أناساً من
المنافقين اغتابوا أناسا من المؤمنين، فلذلك هاجت هذه الريح».
ودل
ما ذكره السيوطي أن قصة الريح المنتنة وقعت في غزوة بني المصطلق.
كما
سرد الواقدي الحديث الآتي بسنده:
حَدّثَنِي
خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ
، قَالَ كَانَتْ الرّيحُ يَوْمَئِذٍ أَشَدّ مَا كَانَتْ قَطّ إلَى أَنْ زَالَتْ الشّمْسُ
ثُمّ سَكَنَتْ آخِرَ النّهَارِ . قَالَ جَابِرٌ فَسَأَلْت حِينَ قَدِمْت قَبْلَ أَنْ
أَدْخُلَ بَيْتِي : مَنْ مَاتَ ؟ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ التّابُوتِ .
وَذَكَرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنّهُمْ وَجَدُوا مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ شِدّةِ الرّيحِ
حَتّى دُفِنَ عَدُوّ اللّهِ فَسَكَنَتْ الرّيحُ . (مغازي الواقدي)
لعل
العفونة كانت بسبب روحه الخبيثة التي انتشرت في أجواء الصحراء، ووجدها النبي ·
وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
والواجب
على الناس السمع والطاعة لتلك النفوس الذكية الطاهرة التي كشف الله عليها عفونة
الكفر، ومن لا يميز بين رائحة الورد الذكية ورائحة البول النتنة لزكامه وبلادته،
كيف يجد رائحة الكلمات الطبية الذكية والكلمات الخبيثة العفنة؟
ففي
جامع الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله · قال:
«إذا
كذب العبد تباعد عنه الملك ميلا من نتن ما جاء به». (الترمذي 2/19)
وكان
محمد بن الواسع يقول لأصحابه: نحن قوم غمرتنا الذنوب، وإلا لانفضتم من حولي لنتن
ذنوبي.
والغريب
في هذه القصة إخلاص عبد الله بن عبد الله بن اُبي بن سلول، فقد كان مؤمنا صادق
الإيمان وممن يُضحّي بالغالي والنفيس على رسول الله ·، فكان عبد الله بكل معنى
الكلمة، ولمّا قال أبوه: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، أخذه
وقام ثم قال: لن تعود إلى المدينة حتى تعترف أنك الأذل، وأن رسول الله · الأعز،
ففعل، فخلى عنه.
قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله:
هذه
القصة ذكرها ابن إسحاق والطبري. (فتح الباري، سورة المنافقون)
تأسيس السياسة الإسلامية على أسس من الأخوة الإسلامية بعيداً عن فوارق الجنس واللون واللسان والمواطن والأجنبي..
إن
ما وقع يوم غزوة بني المصطلق من النزاع بين المهاجر والأنصاري ودعوة كل واحد منهما
أصحابه من المهاجرين والأنصار كان شكلا من أشكال أصنام الجاهلية التي قام النبي ·
بهدمها، وآخى بين المسلمين بغضّ النظر عن لونهم وجنسهم ولسانهم وأرضهم، وأسَّسَ دعائم
الأخوة الإسلامية العامة. وللشيطان أساليبه المعروفة لإغواء البشر وإهلاكهم من
الجنس واللون والعرق، التي يوقع الناس فيها، فلا يساعدون إلا استناداً إليها، حتى
إن معايير الإسلام بشأن النصر والمؤازرة تلاشت من أذهانهم. فلا أساس للتعاون
والتعاضد إلا القومية والعشائرية، وهكذا يُوقع بينهم العداوة والبغضاء التي تجلب
الويلات من التناحر والتشرد. وهذا ما وقع في هذه القصة التي وقعت يوم غزوة بني
المصطلق، حتى تدخّلَ النبي · وقضى على هذه الفتنة، وأكّد لهم أنها منتنة، وأن
عليهم أن ينبذوها ويحذروها، ثم أرجعهم إلى أصل التعاون القرآني الذي جاء فيه:
{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.
فيها
إشارة إلى أصل من أصول التعاون والتآزر بين المسلمين، وهو أن التعاون ليس إلا لمن
تمسك بالحق والعدل والبر والتقوى، رغم اختلافه معكم في النسب والعرق واللون
والجنس، ولا تتعاونوا مع من كان على الإثم والمعصية، ولو كان أخاكم أو ابنكم، هذا
هو قانون التعاون الإسلامي الموافق للعقل والعدل الذي أرشد الإسلام إليه، وحرص
النبي · على تطبيقه طيلة حياته، وأوصى المسلمين بالعمل به. وقال يوم فتح مكة : «ألا إن كل مأثرة في الجاهلية ودم ومال تحت قدمي
هاتين». وهكذا تلاشت فوارق الجنس واللون والعرق والعروبة والعُجمة، وتقرر مرجع التعاون
والتعاضد : البر والتقوى لا غير، وعلى الجميع اتباعه.
وهذه
القصة أرشدتنا إلى أن أعداء الإسلام منذ القدم يسعون إلى تفريق كلمة المسلمين
بإثارة القومية والوطنية، كلما سنحت لهم الفرصة استخدموها لإشباع غرائزهم.
وللأسف
الشديد،، إن المسلمين تناسوا ذلك الدرس منذ أمد بعيد، والأعداء لم يألو جهدا في
استخدام حيلتهم القديمة لتفريق وحدة المسلمين، وظلوا يتناحرون ساعين وراء حطام
الدنيا، وجعلوا الدين وضوابطه الأساسية وراء ظهورهم، وافترقت كلمتهم التي كانوا
ينطلقون منها لمحاربة الكفر والإلحاد والزندقة. وهذا ما نلمسه بين العرب من مصري
وشامي وحجازي ويماني لم تتوحد بلادهم، ناهيك عن العجم، ففي ديار الهند والباكستان
البنجابيون والبنغاليون والسنديون والهنديون والبشتون والبلوش باتوا يئنّون تحت
وطأة التنافر والتحاسد والتباغض لاختلاف العرق واللغة، رغم اجتماعهم على دين واحد
ورسول واحد وكتاب واحد، فإلى الله المشتكي.
بات
العدو يعبث بمصيرنا لمّا وجدنا متناحرين، وتغلب علينا في الميادين كلها، نعاني من
تبعية فكرية في كافة الأقطار، ونلجأ إليه لحماية أنفسنا. يا حبذا لو عاد المسلمون
إلى الضوابط القرآنية والتعليمات النبوية، وسعوا إلى تقوية أواصر الأخوة الإسلامية
بدلا من التبعية والهامشية، وحطّموا أصنام القومية والوطنية والعرقية واللسانية
والإقليمية، لشاهدوا نزول النصر الرباني بعيون مكشوفة.
ثبات الصحابة على الضوابط الإسلامية ومكانتهم العالية:
هذه
القصة أفادت أن البعض من المسلمين إن كانوا قد رفعوا شعارات جاهلية لغلبة الشيطان
والنفس لبعض الوقت، فإن الإيمان قد استقر في جذور قلوبهم، لذلك بادروا إلى
الاستغفار والتوبة عقب تلقي إنذار طفيف، وقد غرس النبي · حبه في نفوسهم وقلوبهم
بحيث لا يقيمون للقومية والقبلية وزنا، يصدقه ما قاله زيد بن الأرقم من الخزرج
الذي كان يُكِنُّ لسيده عبد الله بن اُبي بن سلول كل تقدير وإجلال بعدما سمع منه
بشأن المؤمنين ورسول الله · ما أغاظه حتى رد عليه ردا قويا، ثم جاء إلى النبي ·
وأبلغه بما سمع. أما لو كانت الوطنية والقومية التي نعايشها اليوم، لما ذهب إلى
رسول الله · ليخبره عما تكلم به زعيم قومه.
أما
طريقة معالجة ابنه عبد الله بن عبد الله اُبي بن سلول للقضية فأوضحت أن حبه لم يكن
إلا لله ورسوله، جاء إلى النبي · لمّا سمع أباه يتحدث بما لا يتماشى مع ادعائه
الإيمان، وقال: مُرني آتك برأسه، فلم يأذن له، فلمّا دنا أبوه من المدينة أناخ
راحلته وأعاق طريقه إلى المدينة حتى يُقرّ أنه الأذل، وأن النبي · أعز وأكرم، ودام
في إعاقة طريقه حتى أذن له النبي · بالدخول في المدينة.
ثم إن
معارك بدر واُحد والأحزاب حطّمت ما تبقى من أصنام القومية والوطنية، وبرهنت على أن
المؤمنين أخوة، بغض النظر عن فارق اللون والجنس والعرق والدم واللغة، وأن العدو من
لا يؤمن بالله، ولو كان من ذوي قرابته، أخوه أو أبوه.
(صحيح
البخاري، سيرة المصطفى، معارف القرآن)