{سورة التوبة مدينة، الآية 119}


{بسم الله الرحمن الرحيم}
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) }.
ملخص معاني الآية:
(1) الواجب على المسلمين أن يحذروا من مخالفة أوامر النبي ·، أي إذا دعاهم إلى الجهاد، لبّوا دعوته، ولا يتخلفوا عنه.
(2) كما يجب عليهم أن يخرجوا إلى الجهاد مع رسول الله · وأصحابه، لأنه من شعار الصادقين، فلا تقعدوا في بيوتكم مثل المنافقين.
سبب نزول الآية:
في الآيتين السابقتين ذكر قصة قبول توبة كعب بن مالك وصاحبيه، ففي صحيح البخاري أن هذه الآية نزلت في قصتهم، فقد صدق كعب وأصحابه، وعليه قُبلت توبتهم. (معنى ما ورد في أنوار البيان)
وجه ارتباط الآية:
قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى:
«واعلم أنه تعالى لما آذن بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ذكر ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى، وهو التخلف عن رسول الله · في الجهاد». (التفسير الكبير)
أحكام القتال في الآية:
قال العلامة الآلوسي رحمه الله تعالى:
«{اتقوا الله} ويدخل فيه المعاملة مع رسول الله · في أمر المغازي دخولا أوليا أيضاً». (روح المعاني)
وفسر الرازي الآية بما يلي:
«{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} في مخالفة أمر الرسول {وكونوا مع الصادقين}.
يعني مع الرسول وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا متخلفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت. (التفسير الكبير)
لا تعودوا إلى الخطأ الذي صدر في تبوك:
قال اللاهوري مؤيدا لما ذكره الرازي:
أيها المسلمون! اتقوا الله دائما، وكونوا مع الصادقين، لا تعودوا إلى ما صدر عن بعضكم من التخلف عن الغزو يوم تبوك. (حاشية اللاهوري)
مباحث الآية الكريمة:
(1) أمرت الآية بالتقوى، وهو حكم من أحكام القرآن، وقد ذكر كثير من أهل العلم كلاما مختصراً بشأن التقوى.
(2) {الصادقين} مَن الصادقون، ذكروا فيهم أقوالا عدة.
(3) {مع الصادقين} كونوا مع الصادقين، أو صيروا صادقين، والآية تحتمل المعنيين. فقد أورد أهل العلم كلاما بشأنه.
(4) كما تناولت الآية الكريمة فضل الصدق وذم الكذب، أوردهما أهل العلم بالتفصيل، راجعوا للتوسع في جميع ما ذكرنا تفسير القرطبي وابن كثير وروح المعاني والتفسير الكبير وأنوار البيان وغيرها.
عنوان إصلاحي:
لقد أورد صاحب أنوار البيان مقالا مهما وجامعا حول الإصلاح، نذكره فيما يلي بنية نفع الإخوة المجاهدين:
الأمر بتقوى الله ومصاحبة الصادقين
في الآيتين السابقتين ذكر قصة كعب بن مالك وصاحبيه، ففي صحيح البخاري أن هذه الآية نزلت مع الآيتين السابقتين، لقد صدق كعب وصاحباه، وأنجاهم الله من العذاب بفضل صدقهم. (ورد بيان قصتهم في الحديث) وفي هذه الآية أراد التأكيد على أهمية الصدق بتوجيه عموم المسلمين إلى تقوى الله ومصاحبة الصادقين، لقد أمر الله تعالى بتقواه في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، وهنا أشار إلى طريقة الوصول إلى التقوى، وهي: مصاحبة الصادقين. والصادق في العربية ضد الكاذب، والصدق ضد الكذب. إن للصدق أهمية كبيرة ومنزلة عالية في الإسلام، إذ لا يخلو شيء من الإيمان والأقوال والأعمال منه، وضده الكذب، والإسلام يبتعد عنه، ويذمه بأشد الكلمات.
والواجب على العبد المؤمن أن يكون صادقا في الوعود التي يقطعها مع عباد الله تعالى، ولا يتخلى عن الصدق في معاشرته مع أبناء جلدته، وإلا لتعوّد على الكذب، ثم يترقى إلى المخادعة. قال الله تعالى في سورة الزمر:
{والذي جآء بالصدق وصدّق به اُولئك هم المتقون}.
وقال في سورة الحجرات: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}.
دلت الآيتان على ضرورة الصدق في الإيمان، إذ الشك في جانب من عقيدة المسلم أو عدم التصديق لأمر من أمور الدين يخرجه عن الملة، ولو كان مسلما في أعين الناس بحكم تعايشه بين المسلمين، لأنه ليس بصادق في إيمانه. إضافة إلى ذلك فإنه يجب عليه القيام بمقتضيات الإيمان بشكل عملي، بأن يضحي بروحه وماله في سبيل الله، مع التصديق الذي لا يشوبه ريب. فلا يتردد في تقديم النفس والروح لرضا الله تعالى ولا يجد في قلبه شيئا حوله.
لا يقوم بعمل إلا وترافقه نية صادقة، تهدف إلى كسب رضا ربه، وليس لكسب التفات الناس واحترامهم ومدحهم وثناءهم. فطلب الدنيا من وراء الأعمال الصالحة، وطلب العلم لأجل الاشتهار بين الناس، مرفوض في الإسلام. ما من عمل صالح يقوم به بين الخلائق بنية رضا الله سبحانه قام بمثله في الخلوة، لا تكون صلاته طويلة أمام الناس مستوفية لشروطها وقصيرة غير مستوفية لشروطها في الخلوة، لا يسجد كما ينبغي ولا يركع مع الخشوع ولا يقرأ من القرآن إلا قليلاً، فهذا كله مرفوض في الدين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي · قال: إن العبد إذا صلى أمام الملأ فأحسن صلاته، ثم صلى منعزلا عنهم، فأحسن صلاته، قال الله تعالى: هذا عبدي حقا. (رواه ابن ماجة في المشكاة ص 255)
وقد ذكر الشيخ السعدي الشيرازي قصة في كتابه الشهير «كلستان» أن رجلا ممن اشتهر بالزهد بين الناس نزل ضيفا على أحد الملوك يرافقه أحد أبناءه، فصلى صلاة طويلة وتناول طعاما خفيفا، فلما رجع إلى بيته طلب طعاما من أهله، فقال الولد: يا أبي أعد الصلاة كما تعيد الطعام، لأن أكلك عند الملك لم يكن لله فكذلك صلاتك.
إذا قال العبد: يا رب أنا عبدك، {إياك نعبد وإياك نستعين} وجب عليه أن يصير عبدا لله في ظاهره وباطنه، أما أن يدعى العبودية لله باللسان ويعبد الدنيا بعمله وفعله أو يصير عبد الدينار وعبد الدرهم، فهذا أمر يرفضه العبودية لله، العبودية تقتضي الصدق فيما يدعي.
كما يجب أن يكون صادقا في دعائه، أي إذا قال يا رب أسألك .. عليه أن يتجه إلى ربه بقلبه وقالبه، ويسأل كما يسأل السائل الحقيقي، أما إن كان اللسان منطلقا بألفاظ الدعاء، والقلب غافل عنها، حتى إنه لا يدري عن الشيء الذي يسأله عن ربه، فهذا يعارض الصدق والصداقة. إن كان سائلا المغفرة من ربه فليتوجه إليه بقلبه وقالبه، لذلك قالت الرابعة البصرية: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير) (ذكره ابن الجزري في الحصن). إذا أراد أن يحلف فليحلف بالله، ولا يقسم إلا بما كان صدقا، فإن كان حلف بفعل شيء وفى بحلفه، (شريطة أن لا يكون في معصية) وكذلك إذا نذر بشيء أوفى بنذره (شريطة أن لا يكون في معصية) إذا أراد ونوى القيام بعمل صالح، قام بإنجازه.
وكان أنس بن نضر عم أنس بن مالك قد تخلف عن بدر، فشق ذلك عليه، حتى قال: إن أول معركة خاضها النبي · مع المشركين لم أحضرها، فإن وفقني الله لقتال المشركين لأريت الله ما أفعله، فلما كان يوم أحد وانهزم فيه المسلمون، فقال: يا الله، إنني أتبرأ من عمل المشركين، وأعتذر إليك من هزيمة المسلمين، ثم قال: والله إنني لأجد رائحة الجنة من وراء اُحد، ثم اشتبك مع المشركين فقاتل حتى قُتل. فلما رأوه بعدما قُتل وُجد في جسمه أكثر من ثمانين جرحا.
فأنزل الله تعالى قوله: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}.
كان الصحابة يظنون أنها نزلت في أنس بن النضر وأصحابه. (ذكره السيوطي في الدر المنثور 191/5 وعزاه إلى الترمذي والنسائي والبيهقي في الدلائل ورواه البخاري مختصرا 705/2).
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي · لما فرغ عن اُحد مرّ على مصعب بن عمير رضي الله عنه، فرأه وقد قُتل، فقرأ: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} (الدر المنثور 191/1 عن الحاكم والبيهقي في الدلائل).
من لم يكن عالماً بأمور الشرع لا يتظاهر في كلامه كأنه عالم. ومن كان عالما، لكنه لم يكن يدري المسألة، لا يجوز له أن يجيب بالتخمين والظن، لأن فيه ادعاءً بأنه يدري، وهو كاذب فيه. ولأن التخمين لا يخلو عن خطأ، ففيه ضرر له، ومكر بالسائل وتضليله، ومن لم يكن كاملا في العلم والمال، فلا يتظاهر أمام الناس ما يخالف ظاهره، لأنه يخالف الصدق.
عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ. (مشكاة المصابيح 1281 من صحيح البخاري ومسلم)
ومعنى الحديث عام يشمل جميع أصناف الادعاءات الكاذبة، والصدق والكذب لا ينحصران في الأقوال، فقد يشملان الأعمال والأحوال واللباس والدعاوي والعزائم كلها، يدخلها الصدق والكذب.
فالواجب على المؤمن أن يحاسب نفسه، ولا يختار إلا الصدق، ويجتنب الكذب مع كافة أصنافه، يُستثنى منها الكذب الذي يقصد به الإصلاح بين الناس.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي · قال: من ضمن لي بستة أشياء أضمن له الجنة:
(1)  لا يتكلم إلا بما كان صدقا.
(2) أنجز ما وعد.
(3) أدّى الأمانة.
(4) حافظ على فرجه.
(5) غضّ بصره.
(6) ليسلم الناس من أيديه. (مشكاة المصابيح ص 415)
وعن عبد الله بن عامر أن أمي دعتني يوما، وكان النبي · يومئذ في بيتنا، فقالت أمي: تعال أعطيك، فقال النبي ·: ما الذي أردتِ أن تعطينه؟ فقالت: أردت أن أعطيه التمر. فقال النبي ·: إن لم تعطينه شيئا لكُتبت كذبة في كتابك. (مشكاة المصابيح ص 416) دل ذلك على أن الكذب لا يجوز بوجه من الوجوه، وإن كان بنية إرضاء الأطفال، لا يعد بالأطفال إلا بما كان صادقا.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي · قال: عليكم بالصدق فإن الصدق يفضي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن المرء ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن المرء ليتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابا. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي · قال: إن كانت فيك أربع خصال لا يضرك ولو ذهبت عنك الدنيا كلها:
أن تحافظ على أمانتك، وأن تصدق في كلامك، وأن تحسن خلقك، وأن لا تتناول إلا لقمة الحلال. (مشكاة المصابيح ص 445)
مصاحبة الصادقين
بما سبق عرفنا الصدق وفضله ومرتبته، وعرفنا الكذب وشناعته وقبحه. قال أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {وكونوا مع الصادقين} أي: كونوا مثلهم في الصدق. فيه أمر باختيار الصدق، والسير على طريق الصادقين في الإيمان والأعمال، وهذا أظهر نظراً إلي القصة التي نزلت فيها الآية الكريمة. لأن كعب بن مالك وأصحابه الذين تخلفوا عن رسول الله · يوم تبوك، لم يكونوا مع الصحابة في صدق العمل، لكن عموم اللفظ يؤكّد على مصاحبة الصادقين، إذ للمصاحب أثرا كبيرا على نفسية صاحبه، والمصاحبة السيئة تضر كما أن المصاحبة الطيبة تنفع، فمن صَاحَبَ الطيبين استفاد من محاسنهم، ومن صَاحَبَ المفسدين انتقلت إليه مساويهم، وتستأنس نفسه بقبائحه. فقد قال النبي ·: «لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي». (رواه الترمذي)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي · قال: الناس على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل. (رواه الترمذي) (فمخاللة الطيبين طيبة، ومخاللة المفسدين قبيحة).
يلزم أن يختار المرء من الأصحاب من كان طيبا يخاللـه في شئونه كلها، لأن للخليل أثرا على نفسية الخليل، فإن كان حسنا كان مثله، وإن كان قبيحا كان مثله، وهذا ما نلاحظه كل يوم. إضافة إلى ذلك فإن الآية أشارت إلى أهمية التقوى مع الصدق، فإنها أمرت بالتقوى ثم بمصاحبة الصادقين، فعليه أن يهتم بمصاحبة الصادقين الصالحين، وأن لا يصاحب أولاده إلا الصادقين الصالحين، يطلع على كتبهم ومؤلفاتهم. والكتاب خير صديق، شريطة أن يكون طيبا، لا يعلّم إلا الطيب، خطته أنامل طيبة صالحة.