{ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا
بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ
وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ
وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ
اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً
وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ
أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) }.
ملخص
معاني الآيات:
(1) كيف يجوز أن يتوجه رسول الله · إلى
الجهاد ويتخلف أهل المدينة ومن حولهم عنه؟
(2) وكيف يجوز أن يعتبر مسلم نفسه أعز
من نفس رسول الله ·؟
لأنه · أفضل الخلائق، وسيد الأنبياء،
وحبيب الله، إن كان قد خرج مجاهدا في سبيل الله، واستقبل الظمأ والنصب والمخمصة،
فكيف يجوز لغيره أن يتخلف عنه، ومن تخلف دل على حرمانه. ومن هنا عرفنا أهمية
الجهاد، وأن أسعدهم تلك الجماعة الطيبة التي خرجت مع رسول الله ·، قاموا بتأدية
واجب الطاعة والحب، واكتسبوا حسنات على كل عمل قاموا به، كما اكتسبوا حسنات على كل
عمل تسبب في إلحاق الأذى بالمشركين، وعلى ما سلبوا من العدو، كما تم اعتدادهم بين
أولئك الذين لا تضيع أجورهم. دلّت الآية على أن الجهاد من الحسنات.
(3) لا ينفق المجاهدون في سبيل الله من
مال، سواء كان قليلا أو كثيرا، ولا يقطعون واديا ولا سهلا إلا كتب الله لهم بها
حسنات، والله خير من يجازي.
وجه
ارتباط الآية:
في الآية السابقة كان من اللازم على
جميع المسلمين مرافقة الرسول · في الجهاد، وفي هذه الآية يؤكد عليها، ويحذّر من التخلف
عن مرافقته في الجهاد.
اعلم أن الله تعالى لما أمر بقوله
{وكونوا مع الصادقين} بوجوب الكون في موافقة الرسول عليه السلام في جميع الغزوات
والمشاهد، أكّد ذلك فنهى في هذه الآية عن التخلف عنه فقال {ما كان لأهل المدينة}.
(التفسير الكبير)
مباحث
الآيتين:
هاتان الآيتان تشتملان على كثير من
مباحث الجهاد، منها:
(1) فيها تعيير المسلمين على أن النبي ·
يخرج للجهاد ويتخلف أحدكم عن الخروج معه؟ قال عدد من المفسرين : الواجب على
المسلمين أن يخرجوا للجهاد حسب أوامر أمير المؤمنين أو أمير المجاهدين، ويستعدوا
لطاعته والدفاع عنه.
(2) تعيير أولئك المسلمين الذين يثمّنون
أنفسهم، فيستريحون في منازلهم، ولا يخرجون للجهاد في سبيل الله، بأن رسول الله ·
عرض نفسه العزيزة للخطر، وخاض المعركة، فهل يعز نفس أحدكم من نفس رسول الله ·؟
(3) فيه تحريض على الجهاد بطريقة
مختلفة، فقال: اعلموا أيها المسلمون.. إن الجهاد من الأعمال التي عرّض فيها رسول
الله · نفسه للخطر، ومن هنا يمكنكم معرفة مكانة الجهاد وفضله ومنزلته عند الله، ثم
إن المجاهد ليثاب على كل محنة صغيرة وكبيرة يقابلها، ويُعدّ من المحسنين، فكيف
التخلف عن مثل هذا العمل العظيم. لقد أورد أهل العلم هنا كلاما طويلا حول فضائل
الجهاد في ضوء الأحاديث النبوية الشريفة.
(4) فيها وعيد لكل من ترك الجهاد،
وإشارة إلى أنه من المحرومين.
(5) كلمة {المحسنين} تشير إلى أن الجهاد
من إحدى الحسنات الخيرات، كما قال أهل العلم، إذ المحسن لا يكون إلا من أحسن إلى
غيره.
قال صاحب تفسير المظهري:
قوله تعالى {إن الله لا يضيع أجر
المحسنين} علة للحكم السابق، ويكشف أن الجهاد حسنة، (في حق جميع البشرية) أما
بالنسبة للكافر فالجهاد حسنة باعتبار أنها آخر محاولة لإنقاذه من نار جهنم، وإكمال
بشريته، لأن ضرب المجنون قد يكون علاجا له، وضرب الولد بنية تأديبه خير له. أما
بالنسبة للمؤمنين فالجهاد حسنة باعتبار أنه درع يمنع الكفار من فرض هيمنتهم وبسط
نفوذهم على المسلمين. روى أبو عبس قال سمعت رسول الله · يقول: «لن تغبرّ قدما عبد
في سبيل الله فتمسه النار». (رواه البخاري)
هنا ذكر صاحب التفسير المظهري مزيدا من
فضائل الجهاد وأحكامه.
(6) الجهاد من أفضل الأعمال، وهي مسألة
أدرجها أهل العلم تحت قوله تعالى: {ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون}.
قال صاحب التفسير المظهري:
أراد بأحسن ما كانوا يعملون الجهاد، أو
جزاء الأعمال الطيبة، روى أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رجلا جاء بناقة معها
زمامها، فقال: يا رسول الله هذه في سبيل الله، فقال النبي ·: يعطيك الله يوم
القيامة سبعمائة ناقة معها زمامها عوضا عنها. (رواه مسلم)
وعن زيد بن خالد أن النبي · قال: من
جهّز غازيا في سبيل الله فقد غزا، وخلف في أهله بخير فقد غزا. (البخاري ومسلم)
(التفسير المظهري)
(7) ما حكم الجهاد في عهده وبعده؟ تناول
هذه المسألة عدد من المفسرين في كتبهم.
(8) دلت الآية الكريمة على أن التسبب في
همّ المشركين وغمهم وحزنهم وإلحاق الأضرار بأموالهم وأنفسهم من الأعمال الصالحة.
(9) المحن والمصائب التي يواجهها
المسلمون أثناء الجهاد تنقسم إلى قسمين: الأول: الاختياري، كإنفاق المال والتوجه
إلى ساحة القتال ومباشرة القتال. الثاني: غير الاختياري، كالجوع والعطش والنصب
وغيرها. أشارت الآيتان إلى أن المؤمن لا يصاب بمصيبة في أثناء الجهاد إلا وكتبت له
بها حسنة، سواء أكانت اختيارية أو غير اختيارية. وقد أخرج المفسرون من الأحاديث ما
تؤكد على أن المجاهد لا يصاب بالهم والخوف إلا أثيب عليه.
(10) أشار بعض المفسرين إلى بعض أحكام
الجهاد تحت هذه الآية الكريمة، ومنها: إن جاءت طائفة من المجاهدين بالإمدادات بعد
الانتهاء من القتال، فهل لهم نصيب في المغانم؟
وللتوسع في هذه المباحث يُرجى مراجعة
المدارك والمظهري وروح المعاني.
يثاب
المؤمن على كل مال ينفقه في سبيل الله:
قال اللاهوري رحمه الله:
ما كان لأهل المدينة ومن حولها أن
يقعدوا في منازلهم ورسول الله · (فداه أبي وأمي) يخرج للجهاد في سبيل الله، فإنهم
لا يصابون فيه بمصيبة إلا كُتب لهم بها حسنة، وسوف يثابون عليها، والذين ينفقون
أموالهم فيه، يثابون على كل صغيرة وكبيرة أنفقوها.
مقتضيات
الإيمان:
«لاشك أن رسول الله حبيبه، ونبيه، كان
يخرج إلى الغزوات بنفسه، يقابل جميع المصائب والمحن، لم يكن يترك أصحابه يواجهون
الشدائد وهو قاعد يستريح، كان يتسابق إلى صنوف الآلام، يتحمّل الصعوبات، فكيف يجوز
لأحد من أهل المدينة ومن حولها أن يقعد في بيته ورسول الله · في ساحة القتال، فهذا
ليس من مقتضيات الإيمان وحب الله ورسوله في شيء، بل الإيمان يقتضي أن يخرجوا جميعا
إذا دعاهم إلى الجهاد، ويستثنى منه المعذورون. وفيها تحذير إلى أولئك الذين تخلفوا
عن رسول الله · يوم تبوك أن عملهم هذا يخالف مقتضى الإيمان». (أنوار البيان)