{سورة التوبة مدنية، الآية 122}


{بسم الله الرحمن الرحيم}
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}.
ملخص معاني الآية:
(1) القيام بواجب الجهاد في بلاد الكفار في الحالات العامة فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، فيمكنهم اكتساب العلوم والمهارات، وتنظيم مهام أخرى.
(2) وبعد العودة من الجهاد يكتسبون العلوم الشرعية، فيخرج آخرون مكانهم، وهكذا يقوم الجميع بتأدية هذه الشعيرة بشكل دوري.
(3) هذا الذي ذكرناه إن كان الجهاد فرضا على الكفاية، أما إن كان فرضاً على الأعيان، بأن قام الأعداء بمهاجمة بلاد المسلمين، وجب الجهاد على الجميع.
بيان الإمام القرطبي رحمه الله:
الجهاد فرض على الكفاية، وليس بفرض على الأعيان، إذ لا يمكن للجميع أن يخرجوا له، لما يترتب عليه من فساد مصالح الحياة الأخرى، لذلك تخرج طائفة وتخلف أخرى لرعاية المصالح، فتتعلم الدين، وتحمي عيال المجاهدين، وبعد عودة الطائفة الأولى تعلّمها الثانية مسائل الدين التي تعلمتها، تعلّمها ما تعلمت من الآيات التي نزلت على رسول الله · فترة غيابها. (القرطبي)
قال الإمام أبو حيان رحمه الله:
الترتيب المذكور ينفع إذا خرج المسلمون للجهاد في أراضي المشركين بنية إبلاغ دعوة الإسلام إليهم، لكن العدو إن أراد تحقيق بعض التقدم نحو الأراضي الإسلامية، لزم على الجميع الجهاد دفاعا عنها.
وهذا كله في الانبعاث إلى غزو العدو على الدخول في الإسلام، وأما إذا ألم العدو بجهة، فيتعين على كل أحد القيام بذبه ومكافحته. (البحر المحيط)
البيان الرازي رحمه الله:
لاحظوا فيما يلي موجز ما كتب الإمام الرازي حول الآية الكريمة:
هذه الآية إما في أحكام الجهاد، وإما في مسائل جديدة، لا تُمِتّ بالجهاد بصلة.
(1) فإن كانت مرتبطة بالجهاد كما هو حال الآيات السابقة، فتفسيرها كما يلي:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي · إذا أراد الغزو، خرج معه الجميع إلا المنافق والمعذور، ثم لمّا أظهر الله عيوب المنافقين على المؤمنين في غزوة تبوك، قال المسلمون: والله لن نتخلف عن غزوة ولا سرية أبداً، ولما عاد النبي · إلى المدينة من تبوك، وأرسل السرايا والبعثات لقتال المشركين، خرج المسلمون كلهم، ولم يتخلف أحد منهم، حتى لم يبق في المدينة إلا رسول الله ·، فنزلت هذه الآية، وأرشدت إلى أن خروج الجميع يعطل مصالح الحياة الأخرى، فلا يجوز خروج الجميع، إنما عليهم تفويج الناس في جماعات، تبقى طائفة منهم لتخدم رسول الله ·، وطائفة تخرج لتجاهد في سبيل الله. والواقع إن الإسلام في ذلك الوقت إن كان بحاجة إلى الجهاد من جهة، فإن الأحكام كانت تتعاقب على رسول الله · من جهة أخرى، ولاستيعاب الضرورتين كان التقسيم مهما. والآن اختلفوا في المراد من أولئك الذين أمروا بتعلّم الدين، من هم؟ فقيل: هم الذين بقوا عند رسول الله ·، عليهم أن يتعلموا الدين، ثم يعلّموه لأولئك الذين عادوا من الجهاد للتوّ. وقيل: بل المراد منهم أولئك الذين خرجوا للجهاد في سبيل الله، وقد يشاهدون عجائب قدرة الله فيه، فيتلقون منه درسا وعبرة، ثم يُطلعون قومهم المشركين عليها ليعلموا، فينبذوا الكفر وراء ظهورهم، ويدخلون في دين الله أفواجا. (وقد ردّ القاضي ابن العربي على القول الثاني هذا، لكن الإمام الرازي ردّ عليه).
(2) إن لم تكن الآية في الجهاد، إنما فيها حكم جديد ومستقل، فتفسير الآية كما يلي:
هذه الآية في الحث على شد الرحال لطلب العلم، فالدين كان ينزل بالمدينة في ذلك العصر، لذلك كان السفر إلى النبي · لطلب العلم واجبا، فأرشد إلى كيفية تنظيم الرحلة إلى المدينة، بأن الجميع لا يمكنهم الخروج في وقت واحد، يخرج من كل عشيرة وقبيلة طائفة لطلب العلم، ثم تعود إليهم لتنذرهم لعلهم يحذرون. لكن ما حكم الآية في الظروف التي تحيط بنا الآن؟ خاصة لأن الشريعة اكتملت. أجيب عنه: بأن اكتساب العلم إن كان متيسرا بدون القيام بسفر، فالسفر لا يجب، وبما أن الآية صرّحت بلفظ «نفر» وهو السفر أو الرحلة، علمنا أن العلم النافع والمبارك لا يحصل بدون شدّ الرحال. (هذا معنى ما ورد في التفسير الكبير)
بيان اللاهوري:
«لا يمكن تعميم حماس الجهاد بدون نشر تعاليم الدين الإلهية، التي لا تحصل بدون خروج البعض لاكتساب العلم، ثم يعودوا إلى عشائرهم وقبائلهم ليعلموهم، وليكتبوا على ألواح صدور الناشئة، حتى لا يستغربوا نداء الجهاد إذا دوّى، ويتوجه المسلمون إلى الميدان بحيث تغمرهم السعادة. (اللاهوري رحمه الله)
لا تتركوا الثغور فارغة:
«بما أن الجهاد فرض على الكفاية من حيث العموم، وإحياء علوم الدين أيضاً ضروري إلى جانب دفع حوائج المسلمين المنزلية، فللحفاظ على الجهاد تخرج طائفة منهم، وعند عودتها تخرج طائفة أخرى، والأفضل أن تخرج قبل وصول الطائفة الأولى إلى المدينة، الطائفة التي شغلت نفسها في طلب العلم تقوم برعاية مصالح أهالي المجاهدين، ثم تعلّم الطائفة الأولى أحكام الدين عند عودتها، يعلمونهم الكتاب والسنة». (أنوار البيان)
دعوة أهل العلم إلى التأمل:
لاشك أن «الفريضة» مهمة عظيمة وثقيلة، لا يضع من شأنها زيادة كلمة «الكفاية» لكن بعض الجهلة من العوام يزعمون الفرض على الكفاية أقل شأنا من السنة أو التطوع، لاشك أن «الفرض» أمر قطعي إجباري، واتصال كلمة «الكفاية» معه يدل على أن البعض من المسلمين إن قاموا به، سقط عن الباقي.
قال الشيخ عبد الحق الحقاني رحمه الله تعالى:
«إن دعا النبي · إلى الجهاد، لا يجوز لأحد أن يتخلف عنه، ثم بعده · يعتمد على الضرورة والحاجة، إن دعت الحاجة إلى خروج الجميع، لزم عليهم الخروج، وإلا كفى خروج بعضهم عن الجميع». (التفسير الحقاني)
والواجب أن نلاحظ الآن هل هناك أحد يقوم بهذا الواجب نيابة عن كافة أفراد أمة الإسلام؟ اعلم أن الفرض على الكفاية هو كل جهاد يقوم به المسلمون بأنفسهم ضد أعدائهم، تتوجه جحافل المسلمين إلى بلاد الكفر والشرك، أول عمل يقومون به يدعونهم إلى الإسلام، ثم إلى الجزية، وإلا فالقتال. والسؤال هو: أين هذا الجهاد الذي أمر به النبي · المسلمين؟ أرجو من أهل العلم أن يتناولوا هذا الموضوع بالبحث والنقاش، ويبينوا للعوام مسائل الجهاد، فإنه لا يستبعد عودة تلك النِعَم إلى المسلمين، لأن نصر الله وقوته ترافقهم كل لحظة.
فإن عادت هذه النعم بفضل نصر الله وتأييده، زالت عنهم أغطية الذل والهوان.. إن شاء الله... (والله أعلم بالصواب)
الشريعة التامة لا تخلو عن الأمر بالجهاد:
«أشارت الآية السابقة إلى أنه لا ينبغي للمسلمين أن يلهثوا وراء الراحة البدنية ورسول الله · في ساحة القتال، هذا لا يعني أنهم سوف يضطرون إلى مواصلة القتال طيلة حياتهم، لأن ذلك يعطّل مصالح الحياة الأخرى، لذلك يتخلف جمع من المسلمين لرعاية شئوون الأطفال والنساء، وقد تكون أنت الذي تُكلف بالبقاء في المنزل. وعلى كل حال، الواجب على كل قوم أن يخرج طائفة منهم، فتطلب العلم وترافق رسول الله ·، إذ هو منبعه ومصدره، ثم تعود إلى أهلها وقومها لتنذرهم لعلم يحذرون.
هنا انتقد البعض، وقالوا: إن الإسلام يدعو إلى القتال والجدال ويحرّض عليه، وهو يعارض ضوابط الأخلاق الحسنة. والجواب عنه: أن الدنيا لا تخلو عن الأشرار، والشريعة التامة هي ما كانت تشتمل على ضوابط لردع الأشرار ذوي النفوس المريضة، فلما لزم الجهاد لزمت جميع مقتضياته.
                                   
هنا يجب التنبيه على نكتة مهمة، وهي أن الله سبحانه وتعالى خلق النفوس كلها، وهو أدرى بطبائعها من غيره، وما يشرّع لها من شريعة إلا وتكون مشتملة على رعاية النفس البشرية الضعيفة، فما من عمل مهم إلا وكان التأكيد عليه أشد، والإصرار ألح، وكان الجهاد من أحد تلك الأعمال التي كان الإصرار عليها أشد». (تفسير الفرقان)
تعامل معكوس:
إشارةً إلى سبب نزول هذه الآية الكريمة ذكر أكثر المفسرين أن المتخلفين عن رسول الله · يوم تبوك لمّا نزل فيهم عتاب شديد، اندفع الناس نحو الجهاد، وتحمسوا له، وما يعلن النبي · عن مهمة عسكرية إلا بادر الناس إليها، فنزلت هذه الآية، ونهتهم عن ذلك، إذ هو يُعطّل كثيرا من مهام الدولة الإسلامية الأخرى، ولا يبقى أحد يحافظ على أموال الملسمين وعيالهم. وهنا برزت قضية الفرض على الكفاية والفرض على الأعيان، لأن الجميع كانوا يسارعون إلى الجهاد، فلوضع حد لهذا التسابق نزلت هذه الآية. أما اليوم فالوضع مختلف عنه تماما، بل صار الناس يستخدمون كلمة الفرض على الكفاية للتخلص من الجهاد، ما من شخص يُدعى إلى الجهاد إلا قال: إنه فرض على الكفاية وليس بفرض على الأعيان، يريد به إنقاذ نفسه من الجهاد، ولا يتفكر هل هناك أحد يقوم بهذه الشعيرة على وجه الكفاية؟ شأنه شأن صلاة الجنازة فرض على الكفاية، لكن أقارب الميت يسعون إلى القيام بهذه الفريضة، كذلك ما من مسلم يرتبط بالإسلام بالقرابة إلا وعليه أن يسعى إلى القيام بفريضة الجهاد قبل غيره. ثم إن الأوضاع تغيرت هذه الأيام، فالكفار يحتلون البلاد الإسلامية وأراضيهم، وهناك عدد كبير من المسلين الذي وقعوا في أسرهم، يسخرون بشعائر الإسلام علناً، ويقومون بمهاجمتهم من الجهات كلها. في مثل هذه الظروف أجمع أهل العلم على زيادة أهمية الجهاد، وكذلك الفرض على الكفاية إن لم يقم به أحد توسع إطاره ليشمل الكثير والكثير. (والله أعلم بالصواب)
كلام بركة:
قال الشاه عبد العزيز رحمه الله:
«الواجب على كل قوم أن تبقى طائفة منهم مع رسول الله · لاكتساب الدين والعلم، ويعلموا من ورائهم. وقد فارق رسول الله · الدنيا، وعلمه باق، وطلب العلم فرض على الكفاية، كذلك الجهاد فرض على الكفاية. (موضح القرآن)
الجهاد وتحصيل علم الدين:
إذا تمكن المسلمون من إقامة دولة الخلافة في يوم من الأيام، فإن أميرهم سيتولى تنظيم شؤون الفريضتين، بأن يبعث بعض الناس للجهاد، والبعض الآخر لطلب العلم الشرعي حتى يحصل لهم النضج فيه، لكن اليوم لا توجد للمسلمين خلافة ولا أمير، وكذلك الواجب على الأحزاب المجاهدة أن تُقيم بين أفرادها ترتيبا معينا للقيام بالإثنين، بأن يقوم البعض بمحاربة الأعداء، والبعض الآخر يتخلفون عنهم في أهلهم ومالهم، يتعلمون الدين، فإن عادت الطائفة الأولى، خرجت الطائفة الثانية للقتال، وفيما ذكرنا من الترتيب والتنظيم فوائد جمّة، إذ هو من تعليم القرآن. ويجب على أولئك الذين تفرغوا للتعليم والتعلّم أن يطبّقوا هذا الترتيب في صفوفهم، بأن يبعثوا طائفة منهم للقتال في سبيل الله، ويتخلف آخرون، حتى يأتي دور الجميع، ويتمكن الجميع من المشاركة في القتال، لأن القتال والتعلّم من الأمور التي لا يجوز التهاون فيها. (والله أعلم بالصواب)
قول آخر في تفسير الآية الكريمة:
قال الإمام أبو حيان رحمه الله تعالى: الظاهر أن الآية نزلت في طلب العلم. (دون الجهاد) والمعنى: لا يخرج جميع الناس لطلب العلم، إذ به تتعطل مصالح الحياة الأخرى، وتبقى أراضي إسلامية شاسعة بدون رجال، وقد يحث ذلك الأعداء على احتلالها، لذلك يخرج بعضهم لطلب العلم، والبعض الآخر لقتال الأعداء وحماية الدولة من الاعتداءات. (فالآية مرتبطة بطلب العلم، لكنها لا تخلو عن الإشارة إلى الجهاد، إذ العكوف على طلب العلم بحيث يتغافل عن دفاع الوطن ليس بمعقول).
وفيما يلي نص تقريره:
والذي يظهر أن هذه الآية إنما جاءت للحض على طلب العلم والتفقه في دين الله، وأنه لا يمكن أن يرحل المؤمنون كلهم في ذلك، فتعرى بلادهم منهم، ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداءهم.. فلا نفر من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة، فكفوهم النفير وقام كل بمصلحة هذه بحفظ بلادهم، وقتال أعدائهم، وهذه لتعلم العلم وإفادتها المقيمين إذا رجعوا إليهم. (البحر المحيط)
البيان العثماني:
في الآيات السابقة أمر بالخروج للجهاد في سبيل الله، وذمّ على التخلف عنه، وعليه فقد يزعم البعض أن الجهاد فرض على الأعيان، يشمل جميع المسلمين، أشارت هذه الآية إلى أن ذلك ليس بواجب، وليس فيه مصلحة المسلمين، بل الأصلح والأفضل أن تخرج من كل قبيلة وعشيرة طائفة لتجاهد في سبيل الله، والبقية يقومون بالمصالح الأخرى، فإن خرج النبي · بنفسه الشريفة، خرجت طائفة من المسلمين، وتفقهت في الدين أثناء مرافقتها لرسول الله · ومرورها بكثير من الحوادث والمهمات، وتنذر قومها إذا رجعت إليها. نفرض أن رسول الله · بقي بالمدينة ولم يخرج منها، وجب على البقية أن يتحلقوا عليه، ويطلبوا العلم منه، ويعوا ما ينزل عليه من وحي ورسالة، ثم يُطلعوا عليها المجاهدين إذا رجعوا إليها. ألفاظ الآية تحتمل المعنيين باعتبار التراكيب الإعرابية، كما في روح المعاني وغيره. (التفسير العثماني)