{سورة آل عمران مدنية، الآية 146}


{بسم الله الرحمن الرحيم}

{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)}

ملخص معاني الآية الكريمة:

لقد قاتل كثير من الربانيين إلى جانب أنبياء الله تعالى ، وقد واجهوا صنوفا من الشدائد والمحن، لكنهم ما ضعفوا وما وهنوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين الذين لا تتزلزل أقدامهم في سبيل الله. فليصبر المسلمون ويثبتوا ويتشجعوا ويصمدوا أمام الباطل، ولا يهنوا عند إصابتهم بهزيمة ظاهرة.

الأقوال ومصادرها:

(1) لقد سبق كثير من الأنبياء قاتل معهم ربيون كثير، كموسى ويوشع بن نون وغيرهما، فلم يضعفوا ولم يهنوا على ما أصابهم في سبيل الله من شدائد (أصيبوا بجروح، قُتلوا، عانوا من شدة الحر والجوع والعطش، والسير على الأقدام لعدم الظهر)، لكنهم بقوا أقوياء إيمانا وروحا، ولم يظهر بينهم الغباء أثناء القتال، ولم يضعفوا عن الجهاد، وما استكانوا، اعلموا أن الله يحب الصابرين كهؤلاء. (التفسير العثماني)
(2) المؤمن الصادق من لا يهن عند مواجهة الشدائد والمحن، ولا يضعف ولا يستكين أمام الكفار بحال من الأموال، فلا يظهر شيء من الضعف والوهن والاستكانة أمامه. ومعنى الوهن أن يقعد عن القتال خوفا. ومعنى الضعف أن يخرج إلى ساحة القتال مع معنويات هابطة. والاستكانة للخصم أن يجزع أمام العدو ولا حيلة له. (ترجمان القرآن)
(3) فيها إشارة إلى أن سنة الجهاد مستمرة من قديم عهود الأنبياء، وهو ما يضطر انتهاجه السائرون على نهجهم. والربيون جمع ربي، أي الرباني، وهم العلماء والفقهاء.
أي ربانيون (كشاف)
أخرج سعيد بن المنصور عن الحسن أنهم العلماء الفقهاء. وأخرجه ابن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضاً، فهو منسوب إلى الرب. (روح المعاني)
وقيل: بمعنى الجماعة الكثيرة.
أي ألوف. وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني : الربيون الجموع الكثيرة. (ابن كثير)
وهن.. ضعف.. استكانة. والفرق بين هذه الألفاظ الثلاثة متقاربة المعنى ذكره الرازي، فقال: الوهن ضعف القلب، أو الجبن. والضعف مطلق شامل لكافة أنواع الضعف البدني والمادي. والاستكانة التظاهر بالعجز. وهناك فرق آخر ذكره، فقال: الوهن غلبة الخوف، والضعف ضعف الإيمان والشبهات التي تطرأ عليه. والاستكانة تغيير الدين. (التفسير الماجدي)
(4) الوهن انكسار الجد بالخوف. (القرطبي)
{والله يحب الصابرين} يعني الصابرين على الجهاد. (القرطبي)
وهذا نسبه أبو حيان إلى الجمهور. (البحر المحيط)
(5) فيها تحذير إلى المسلمين، وحملهم على الغيرة والحمية، الذين ضعفوا يوم اُحد، حتى قال أحدهم : ليتوسط بينكم وبينهم أحد فليتصالح مع أبي سفيان. والمعنى أن الربيين من الأمم السابقة إن كانوا قد تحمّلوا الصعوبات والمحن واستقبلوها بصبر وثبات، فما لهذه الأمة التي خير الأمم لا تبدي صبرا وثباتا أكبر منهم. (التفسير العثماني)
وهذا كما قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى:
واعلم أنه تعالى من تمام تأديبه، قال للمنهزمين يوم اُحد: إن لكم بالأنبياء المتقدمين وأتباعهم أسوة حسنة، فلما كانت طريقة اتباع الأنبياء المتقدمين الصبر على الجهاد وترك الفرار، فكيف يليق بكم هذا الفرار، والانهزام؟ (التفسير الكبير)

معنيا الآية الكريمة:

أغلب المفسرين ذكروا معنيين للآية الكريمة:
(1) لقد اُستشهد العديد من أنبياء الله تعالى وأنصارهم في الجهاد في القديم، ومع ذلك لم يتظاهروا بالضعف والوهن، بل واصلوا جهادهم بكل صبر وثبات، فأنتم أيها المسلمون كيف توانيتم وتواضعتم على خبر وفاة رسول الله ·؟
(2) وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لم يُستشهد أحد من الأنبياء أثناء الجهاد. (التفسير الكبير، البحر المحيط، الكشاف)
والمعنى إن الربانيين في القديم كانوا يقاتلون في سبيل الله إلى جانب الأنبياء والمرسلين، وواجهوا الشدائد والصعوبات، فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا، إنما واصلوا القتال وصبروا وثبتوا، فأنتم أيها المسلمون جاهدوا في سبيل الله بشجاعة أكبر منهم وبثبات وصبر أعظم.

لطيفة:

إن الوهن يعقب الهزيمة عادة، ومعنى الوهن: الضعف والإحباط، والانهماك في حب الدنيا بعد المحرومية من حب الشهادة في سبيل الله، وهذا الوهن يورث ضعفا في قوة المسلمين العسكرية، تعقبه مرحلة الاستكانة، والخنوع للكفار. لذلك وجّههم إلى الابتعاد عن هذه العيوب الثلاثة، وذلك بالإكثار من الاستغفار والتوبة إلى الله. أي بدلا من الهروب عن الساحة، وتوجيه اللائمة إلى الغير، والخنوع للكفار، عليهم أن يقوموا بمراجعة أخطائهم ومعاصيهم، والاستغفار والابتهال إلى الله بقلوب صادقة، والاستعانة به، وبذلك يمكن لهم الوقاية من الأمراض الثلاثة المذكورة. والله أعلم بالصواب
أما العلاج فقد ذكره في الآية التي تلي، وهي 147 من آل عمران.
{وما استكانوا} سرد الإمام أبو حيان أقوالا عديدة في معنى هذا اللفظ، وهي:
(1) ابن إسحاق ما قعدوا عن الجهاد في دينهم.
(2) وقال السدي: ما ذلوا.
(3) وقال عطاء ما تضرعوا.
(4) وقال مقاتل ما استسلموا.
(5) وقال أبو العالية: ما جبنوا.
(6) وقال المفضل: ما خشعوا.
(7) وقال قتادة والربيع: ما ارتدوا عن نصرتهم دينهم ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بربهم. (البحر المحيط)

فائدة:

دلت الآية الكريمة على :
(1) أن أنبياء الله يقاتلون في سبيله.
(2) وأن الصحابة والأولياء والعلماء والفقهاء يجاهدون في سبيل الله.
(3) الجهاد لا يخلو عادة عن الشدائد والصعوبات والبليات والهزائم الظاهرة، وبتدبر الأمور الثلاثة يمكن التوصل إلى أجوبة كثير من الوساوس التي تُثار ضد الجهاد. (والله تعالى أعلم)