{سورة محمد مدنية، الآية 15}



{بسم الله الرحمن الرحيم}
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}.
ملخص معاني الآية:
(1) الفوارق كثيرة بين المؤمن والكافر، فالمؤمن له جنة فيها نعيم خالد ومغفرة من ربه، والكافر له نار جهنم، وعذابه مقيم.
(2) المؤمنون يستحقون النعيم، والكفار يستحقون الجحيم.
(3) الكافر سائر ومساير على طريق جهنم، ولا يمكن منعه منه إلا بالجهاد، الذي يمنعه من سوق الناس إلى جهنم.
تفسير سهل.. 100 درجة للمجاهد في الجنة:
قال صاحب أنوار البيان:
هذه الآيات تناولت بيان ما أعد الله للمؤمن من نعيم، وللكافر من عذاب، ذكرت الجنة التي وُعد المتقون، فيها نِعَم كثيرة، وأنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، فقد روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ.
وقد رُوي هذا الحديث بطريق عبادة بن الصامت رضي الله عنه بلفظ : «منها تفجر أنهار الجنة الأربعة».
قال المُلاّ علي القاري رحمه الله في المرقاة شرح «مشكاة المصابيح»:
هذه هي الأنهار الأربعة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، أنهار من ماء ولبن وخمر وعسل، والحديث يشير إلى أن أربعة أنهار تتفجر في جنة الفردوس، منبعها جنة الفردوس، (تتشعّب منها فروع تتوصل إلى بقية الجنان).
وقال الله تعالى بعدما ذكر الأنهار: {ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم} ثم قال: {كمن هو خالد في النّار} بتقدير عبارة: «أي من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار» وسُقوا مآء حميما فقطّع أمعآءهم.
وعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلْقَى عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعُ فَيَعْدِلُ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْعَذَابِ فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فَيَسْتَغِيثُونَ بِالطَّعَامِ فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ ذِي غُصَّةٍ فَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُجِيزُونَ الْغَصَصَ فِي الدُّنْيَا بِالشَّرَابِ فَيَسْتَغِيثُونَ بِالشَّرَابِ فَيُرْفَعُ إِلَيْهِمْ الْحَمِيمُ بِكَلالِيبِ الْحَدِيدِ فَإِذَا دَنَتْ مِنْ وُجُوهِهِمْ شَوَتْ وُجُوهَهُمْ فَإِذَا دَخَلَتْ بُطُونَهُمْ قَطَّعَتْ مَا فِي بُطُونِهِمْ فَيَقُولُونَ ادْعُوا خَزَنَةَ جَهَنَّمَ فَيَقُولُونَ أَلَمْ { تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ }. (مشكاة المصابيح 504 نقلا عن الترمذي).
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ } قَالَ يُقَرَّبُ إِلَى فِيهِ فَيَكْرَهُهُ فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ يَقُولُ اللَّهُ { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } وَيَقُولُ{ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ }. (سورة الكهف) (مشكوة المصابيح نقلا عن الترمذي). (أنوار البيان)
جنة الفردوس للشهيد:
دلّت الآية المباركة على أن في الجنة أنهار من ماء ولبن وخمر وعسل، ودل الحديث على أن منبعها «جنة الفردوس» ، والنبي · بشّر الشهداء بجنة الفردوس. لاحظوا الحديث التالي:
حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ قَالَ يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى.
اللهم إنا نسألك جنة الفردوس برحمتك يا أرحم الراحمين.
كلام بركة:
{وأنهار من خمر لذة} خمر الجنة لذيذة، وخمر الدنيا لا لذة فيها، وفي كل بيت من الجنة أربعة أنهار، وفي بعض البيوت أكثر من ذلك. (موضح القرآن)
أنهار الجنة:
يتساءل ذووا القلوب المريضة : كيف أنهار اللبن والعسل والماء والخمر في الجنة. نقول: إن الله على كل شيء قدير، لا يصعب عليه شيء في السماوات والأرض. ثم إن نعيم الجنة لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. لاحظوا لو أخبرنا شخصا عن الهواتف المحمولة قبل سنتين من الآن، فهل صدّقنا وأذعن لها؟ إن كانت الاختراعات البسيطة اليوم تستجلب الاستغراب والدهشة بالأمس، فإن الجنة شيء عظيم وبعيد، والقرآن لا يذكر ما في الجنة من نعيم ومرافق إلا بألفاظ مألوفة لدى عامة الناس، فالعوام يعرفون الأنهار، لكن كيف تكون هذه الأنهار؟ لا يعلمها أحد إلا الله. وإلى هذه النكتة أشار صاحب التفسير الحقاني، وعلى الراغبين مراجعتها. لكن إرادة الكثرة بالنظر إلى كلمة الأنهار لا يخلو عن نظر. فأنهار الجنة ورد ذكرها في القرآن الكريم، وذكرت السنة أحوالها، فالصحيح أنها موجودة في الجنة، لكن بأية حالة وكيفية؟ لا يدريها أحد إلا الله. أخرج الإمام ابن كثير أثر أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
«لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجري في أخدود في الأرض، والله إنها لتجري سائحة على وجه الأرض، حافاتها قباب اللؤلؤ وطينتها المسك الأذخر». (ابن كثير)