{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}.
ملخص معاني الآية:
فيها توجيهات وتعليمات، ونهيٌ عن تقليد
المنافقين، حتى تحدثوا بما يتحدثون، لأنها قد تتسبب في الحرمان من نعمة الإيمان.
لأنهم لمّا شاهدوا المؤمنين قُتلوا يوم اُحد قالوا: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما
قتلوا، كأنّ الموت عندهم لا يأتي إلا إذا كانوا في الجهاد، ومن قعد في بيته، لا
يموت. كلامهم هذا لا يزيد إلا حسرة في القلوب، وهو عذاب نفسي وروحي، ولا فائدة
منه، لأن القضاء لا يمكن رده. الحياة والموت بيد الله، لذلك لا يخاف المؤمن الصادق
من الموت، ولا يؤخر قدمه بسببه.
ملاحظة غريبة:
عند انهزام المسلمين، من إحدى الفتن القوية
والشديدة التي تظهر بين الناس أن المنافقين الذين يتواجدون بين المسلمين (ويُعَدّون
من ضمن المسلمين) يقولون: لو كانوا عندنا وما خرجوا للجهاد، ما ماتوا وما قتلوا.
وضجّتهم هذه تظهر بكل قوتها وشدتها بحيث يتساءل الضعفاء من المسلمين مثل سؤالهم. لقد
وجّه الله سبحانه وتعالى تحذيرا قويا بهذه الآية الكريمة إليهم، بأن لا يتكلموا
بكلام الكفار والمنافقين، لأن من اعتبر الجهاد موتا فقد كفر بالله، لفساد عقيدته.
إذ لم يدرك الحق أن الموت والحياة بيد الله، ومكان الموت وزمانه محدّد. ومثل هؤلاء
الأشقياء يحترقون دائما بنار الحسرة والندامة، لذلك لا تتكلموا بعقيدتهم الفاسدة
الضالة المضلة. وبعد صدور هذا التحذير القوي والبيّن راجع المسلمون أحوالهم
وأصلحوها، وصارت عقيدتهم بشأن الموت قوية مثل الصخر. واليوم إذا واجه المسلمون
هزيمة في شيء من المعارك، قال الصادقون من المؤمنين: إن الموت والحياة بيد الله،
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، فمن نال مرتبة الشهادة العالية،
نرجو الله تعالى أن يقبل منهم تلك. لكن البعض يصرخون ويعولون يقولون: لو كانوا
عندنا ما ماتوا وما قُتلوا. نسأل الله أن يحفظ أمة الإسلام من مثل كلام الكفار هذا.
آمين والله أعلم بالصواب
الأقوال ومراجعها:
إن أسباب الموت والحياة بيد الله، فمن الجهل
والسفه أن يذهب إلى الأسباب الظاهرة والفورية، ويغفل عن مسبب الأسباب الحقيقي،
فينسب الموت والقتل إلى الجهاد في سبيل الله. قال «ديني سن» أحد علماء علم
الاجتماع الأمريكي في كتابه : «كان أحد أسباب قوة المسلمين وصلابتهم في الجهاد :
عقيدتهم بشأن القضاء والقدر وتفويض كل شيء إلى الله تعالى، إضافة إلى عقيدة
الشهادة في سبيل الله (بأن الشهيد يدخل الجنة مباشرة بعد فراقه للحياة، وأنه له
الحور، وأواني من ذهب) (ص 206).
ورغم عدم إيمان هذا الأمريكي بالقضاء والقدر
ولا بالشهادة يجد نفسه مضطرا إلى تهنئة المسلمين على جدوى تلك العقائد وجدارتها.
(التفسير الماجدي)
(لذلك تسعى أمريكا وأوربا إلى إضعاف عقيدة
المسلمين هذه)
(2) كلام بركة:
أي إن خرج للعمل الصالح، فمات فيه أو قُتل، لا
يحزن ولا يتحسر عليه، لأنه يستلزم الإنكار بالقضاء والقدر، ثم إن عدم اعتبار منفعة
الآخرة ذا قيمة، وأن يعتني بحياة الدنيا، كل هذه من خصال الكفار والمشركين. (موضح
القرآن)
(3) أي لا تدخل هذه الأفكار الزائفة من أفكار المنافقين
في قلوبكم، كأن تقولوا : لو كانوا عندنا في البيوت ما ماتوا وما قُتلوا. (التفسير
العثماني)
(4) فإن المنافقين قالوا: لو تخلف أقاربنا
هؤلاء الذين قُتلوا يوم اُحد في بيوتنا عن الجهاد، ورفضوا المشاركة فيها، لما حلّت
بهم المصيبة التي هم فيها الآن. ولاشك أن ما من شيء قدّره الله إلا وكان كما قدّر.
أما ما يقولونه فحسرة في قلوبهم، يتقطعون بها طول عمرهم، ثم يفنون عليها. والأصل
أن الموت والحياة بيد الله تعالى، وهما ليس بيد أحد من القُوى الكبرى، حتى لو
توقفت جميع القُوى المادية والبدنية عن العمل، أمكن لله أن يحافظ على حياتهم
بالقُوى الروحية. وبما أنه أمر لاشك فيه، فلماذا يضيّع المسلم عمره في متاهات
الحياة والموت، وما عليه إلا أن يستعد للتضحية لله ولكتابه ولدينه ولرسوله. (تفسير
الفرقان)
(5) يقول المنافقون فيمن قُتلوا في سبيل الله {لو
كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} أي ماتوا بعد خروجهم بدون مبرّر، لو بقوا في
بيوتهم لما ماتوا وما قُتلوا. قالوا ذلك ليتحسر المسلمون ويندموا على ما فعلوا،
وأنهم لو بقوا ما قُتلوا، وما عانوا من تلك المصائب والمحن. والمسلمون يوم اُحد ما
كانوا بهذه البساطة حتى يغترّوا بكلامهم المعسول، فعاد كلام المنافقين إلى أنفسهم،
إذ أزاح الله الستار عن نفاقهم بما قالوا. والبعض قالوا: إن اللام في {ليجعل الله
ذلك حسرة في قلوبهم} للعاقبة، والمعنى: لم يجر الله تعالى الكلمات على ألسنة
المنافقين إلا لأن الله تعالى كان يريد لهم أن يحترقوا بنار الحسرة والندامة. كما
تقطّعوا وتحسّروا على أن أحداً من المسلمين لم يسمعوا لكلامهم. لذلك قالوا: كلمة
«ليجعل» متعلقة ب «لا تكونوا». (التفسير العثماني)
فإن قيل:
قال الله تعالى في هذه الآية مخاطبا المؤمنين
{لا تكونوا كالذين كفروا} ومن المعلوم أن هذه المقولة: {لو كانوا عندنا ما ماتوا
وما قُتِلوا} كانت مقولة المنافقين، دون الكافرين.
قلنا:
قال الإمام الرازي رحمه الله:
فالآية تدل على أن الايمان ليس عبارة عن الإقرار
باللسان ، كما تقول الكرامية إذ لو كان كذلك لكان المنافق مؤمناً ، ولو كان مؤمناً
لما سماه الله كافراً . (التفسير الكبير)
وقال بعضهم : هو على إطلاقه ، فيدخل فيه كل كافر
يقول مثل هذا القول سواء كان منافقا أو لم يكن. (التفسير الكبير)
ملاحظة:
{ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} في تعيين
الربط والمعنى أورد الإمام الرازي هنا كلاما رائعاً، لاحظوه فيما يلي:
ثم قال تعالى : { لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً
فِى قُلُوبِهِمْ } وفيه وجهان : الأول : أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله
ذلك الكلام حسرة في قلوبهم ، مثل ما يقال : ربّيتُه ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله
تعالى : { فالتقطه ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص
: 8 ] إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في
قلوبهم وجوها :
الأول : أن أقارب ذلك المقتول اذا سمعوا هذا الكلام
ازدادت الحسرة في قلوبهم، لان أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك
الغزو لبقي ، فذلك الشخص انما مات أو قتل بسبب أن هذا الانسان قصر في منعه ، فيعتقد
السامع لهذا الكلام انه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله ، ومتى
اعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه ، أما المسلم المعتقد في أن الحياة
والموت لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه ، لم يحصل ألبتة في قلبه شيء من هذا النوع من
الحسرة ، فثبت أن تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة .
الوجه الثاني : ان المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة
إلى اخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه ، فاذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو
، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الاعداء . والفوز بالأماني ، بقي
ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة .
الوجه الثالث : أن هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة
في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات واعلاء الدرجات ،
وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب .
الوجه الرابع : أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة
على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها ، فرحوا بذلك ، من حيث إنه راج كيدهم ومكرهم
على أولئك الضعفة ، فالله تعالى يقول : إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم
كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة .
الوجه الخامس : أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات
وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر ، وهو المراد
بالحسرة ، كقوله : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً
} [ الأنعام : 125 ] .
الوجه السادس : أنهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء
المسلمين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم .
والقول الثاني في تفسير الآية : أن اللام في قوله
: { لِيَجْعَلَ الله } متعلقة بما دل عليه النهي ، والتقدير : لا تكونوا مثلهم حتى
يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون
ومضادتهم مما يغيظهم . (التفسير الكبير)
نداء إلى التدبر:
رغم وضوح معنى الآية سردنا هنا أقوال أهل
العلم، وذلك لحماية إيمان المسلم وعقيدته في يومنا هذا من الكفر والنفاق ومن
آثارهما المدمرة. والواجب علينا جميعا أن نُصلح عقيدتنا، ونتجنّب عقيدة الكفار
والمنافقين، الذين قالوا: الموت في الجهاد، وكلما قعدنا عن الجهاد نجونا من الموت.
إنما الواجب علينا جماعة المسلمين الإيمان بتطابق عقيدتنا بالآية السابقة، بأن
الموت أو الشهادة في الجهاد سبب للمغفرة والرحمة والسعادة الأبدية الكبيرة. أما
الموت فأجله وزمانه محدد، لا تبديل فيهما.
{والله يحيي ويميت}..
(1) أي يقدر على أن يحيي من يخرج إلى القتال
ويميت من أقام في أهله. (القرطبي)
(2) وفيه منع المؤمنين عن التخلف في الجهاد
لخشية القتل. (روح المعاني).
دعاء:
اللهم نسألك العافية والسلامة من معتقدات
الكفار والمنافقين أن نؤمن بها، ومن التكلم بمثل كلامهم.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من
لذنك رحمة إنك أنت الوهاب.
آمين يا رب
العالمين.