{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)}.
ملخص معاني الآية:
إن منزلة الرسول عالية جداً، وأنه تبوأ أعلى
مراتب الأمانة والإحسان، فلا تقترب شائبة من شوائب الخيانة منه، لأنها معصية
كبيرة، ومن يَخُن في الغنيمة يأتِ بما خان يوم القيامة، ثم يُوفّى الخونة أجورهم
يوم القيامة، ولا يُظلم على أحد.
فائدة:
فيها تعليمات وتوجيهات للنهوض بالجماعة بعد
تلقّي الهزيمة، ومن أبرز نكاتها مطالبة جماعة الصحابة بالابتعاد عن سوء الظن في
ذات الرسول ·، وبالحذر من انحسار منزلة الرسول ومكانته في قلوبهم بعدما سمعوا من
المنافقين ما سمعوا. وقد تعوّد الناس على إحداث الضجّة ضد الأمير إن نزلت بهم
هزيمة، فإن انفعلت الجماعة بتلك الأصوات، زالت قوتها وشوكتها، وذهب ريحها.
قال صاحب التفسير الحقاني:
فيها إشارة إلى الحذر من سوء الظن في ذات الرسول
·، خاصة إذا كان يُراعى مصلحة معينة عند تقسيم الغنائم، أو وضع جُزءاً منها في بيت
المال لمصلحة عامة المسلمين، أو تأجّلَ التقسيم لعذر، فلا تسمعوا لما يُذيعه
المنافقون. وكان رأس المنافقين ابن سلول يبث الشائعات المضللة بين الناس، ومن
البديهي عند فتح باب الظنون السيئة ضد الأمير ظهور حوادث التمرّد في الجيش وزوال
الشوكة والبركة عن الأمة. ففي هذه الآية توجيهات حكيمة بشأن الأمير والقائد
بالتأدب معهم، وتوقيرهم وتعظيمهم. (التفسير الحقاني)
(2) أمر الله تعالى رسوله · باللين والمعاملة
الحسنة مع أصحابه، ثم وجّه أصحابه إلى أن اللين والتواضع والمعاملة الحسنة لا تعني
نقصان جانب التأدّب معه، واحترامه، حتى يتناقل الناس على ألسنتهم شائعات
المنافقين. فرسول الله · إن كان يلين معكم فلله وطلبا لرضاه، كذلك أنتم وقّروه
وعظّموه سعيا إلى مرضاة الله، وتعاملوا معه وفق مقتضيات منزلته العالية وشأنه
العظيم.
(3) فيها بيان لمناقب النبي · السامية وفضائله
المباركة للتغلّب على التمزق والانقسام والضعف التي تنشأ عادة في الجماعة عقب
الهزيمة، لكي يرتبط المأمورون بأميرهم بكامل أواصر المودة والمحبة، ويؤدّي إلى
تماسك الجماعة وتقويتها.
مطالب الآية:
الغرض من هذه الآية إما تهدئة المسلمين وتطمين
خاطرهم، حتى لا يتغلب عليهم اليأس والوسوسة فيقولوا: إنما عفا عنا النبي · في
ظاهره، وأنه يجد في قلبه خلافنا ما لا يبديه، ويتحيّن له الفرصة الملائمة. (أي
معنى الغلول الإخفاء، أي يقول النبي · بلسانه ما ليس في قلبه، فهذا لا يمكن) لأنه
يعارض مع منزلة النبي · العالية.
وإما الغرض منها توجيههم إلى التأدب مع رسول
الله · وتعظيم مكانته وتوقير شأنه، واستحضار عظمته وعصمته وأمانته، حتى لا يخطر
ببالهم شيء من الهذر والفحش، فلا يظنوا أنه أخفى بعض الغنائم (نسأل الله العافية).
لعل ذلك قال لما سعى الرماة إلى جمع الغنائم بعدما غادروا الجبهة، فهل ظنوا أنه ·
لا يعطيهم شيئا من المغانم؟ أو أنه احتفظ لديه ببعض المغانم، وأخفاها؟ (والعياذ
بالله) لعله قال ذلك لأن الرماة انقضوا على المغانم، لعلهم ظنوا أن رسول الله · لا
يعطيهم شيئا، أو أنه أخفى بعض الأشياء عنده.
ففي بعض الروايات أنهم فقدوا سيفا أو رداءً يوم
بدر، فقال البعض: لعل رسول الله · أخذه لنفسه، فنزلت هذه الآية. وعلى كل حال أراد
الله تعالى أن يبيّن للناس أن رسول الله · إن كان يتسامح عنكم، ويغض طرفه عن
زلاتكم وكبواتكم، كان ذلك أدعى إلى تعظيمه وتوقيره، وزيادة معرفة منزلته ومكانته
عصمته ونزاهته، ولا يطاردكم طائف فاحش مُزري.
ملاحظة:
معنى الغلول الحقيقي: الخيانة في الغنيمة، لكنه
قد يأتي لمجرد الخيانة، وقد يأتي لمعنى إخفاء شيئ. كما قال عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه: «غلوا مصاحفكم». (التفسير العثماني)
النبي
معصوم:
{ما كان لنبي أن يغل} والمعنى أنه لا يمكن ذلك
منه، لأن الغلول معصية، والنبي · معصوم من المعاصي. (البحر المحيط)
قال العلماء: والغلول كبيرة من الكبائر، بدليل هذه
الاية وما ذكرناه من حديث أبي هريرة: أنه يحمله على عنقه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في مدعم : (والذي نفسي
بيده إن الشملة التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا) قال:
فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شراك أو شراكان من نار). أخرجه مالك في الموطأ.
فقوله عليه السلام: (والذي نفسي بيده) وامتناعه
من الصلاة على من غل دليل على تعظيم الغلول
وتعظيم الذنب فيه وأنه من الكبائر، وهو من حقوق
الادميين ولابد فيه من القصاص بالحسنات والسيئات، ثم صاحبه في المشيئة.
مكانة النبي في الإسلام:
{ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة}.. أي يأتي
به حاملا له على ظهره ورقبته معذبا يحمله وثقله ومرعوبا بصوته وموبخا بإظهار
خيانته على رؤوس الأشهاد. (القرطبي) والعياذ بالله
فائدة:
قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يَّغُلَّ} فيه
قراءتان عند الرازي، الأولى يَغُلْ بفتح الياء وضم الغين، والثانية: يُغَلْ بضم
الياء وفتح الغين، فباعتبار القراءة الأولى هناك ست روايات في سبب نزول الآية،
وباعتبار القراءة الثانية فيها نهى المسلمين عن الخيانة، وسبب نزولها ما أخذ أحدهم
غنيمة تافهة من مغانم هوازن بدون استيذان. هذا خلاصة ما كتبه الإمام الرازي. فمن
كان يرغب في الاطلاع على الروايات الست إضافة إلى ما أوعد النبي · الخائن في
الغنيمة، فعليه مراجعة التفسير الكبير.
لطيفة:
في الآيات السابقة تناول قصة اُحد، وأشار إلى
دور النبي · الرهيب في توحيد المسلمين بعد تشتتهم. وهنا يبرز سؤال، وهو: ما صفات
من يقوم بهذا الدور في المستقبل؟ وأجاب عنه: بأنه لا يخون في الغنيمة، ولا يحتفظ
لديه بشيء من الغنيمة بطريق الخفية، فمن تحلّى بهذه الصفات تأهَّلَ لأن ينوب عن
رسول الله ·. (هامش اللاهوري رحمه الله)
فائدة:
دلّت الآية الكريمة على وجوب تحلّي الأمير
بالأمانة، فلا يخون في أموال العامة، وأمانته تقتضي ابتعاده عن محبة الدنيا.
(والله أعلم بالصواب)