{سورة الأحزاب مدنية، الآيات 18، 19}


{بسم الله الرحمن الرحيم}
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)}.
التلخيص الأول لمعاني الآية:
(1) المنافقون يمنعون المسلمين من الجهاد.
(2) المنافقون لا يشهدون القتال.
(3) يبخلون بأموالهم وأنفسهم في الإنفاق على الإسلام والمسلمين.
(4) جبناء جدا.
(5) طمّاعون للمال.
(6) أحبط الله أعمال هؤلاء الزنادقة.
الملخص الثاني لمعاني الآية:
«إن الله يعلم الذين يمنعون الناس من الجهاد في سبيل الله، يقولون لإخوانهم في النسب أو الوطن، هلمَّ إلينا ولا تذهب إلى المسلمين حتى تنجو من الموت، لا تهلك نفسك بالانضمام إلى صفوف المسلمين، وهم جبناء لحد أنهم لا يشهدون القتال إلا قليلا، ليراهم الناس ويسمعوهم، وهم أشحة مع المسلمين، لا يبذلون أنفسهم وأموالهم فيما يعود بالنفع إلى المسلمين، شديديّ الحرص للمال، لا يحضرون الغزوات إلا لطلب المال من المغانم وغيرها. وإن أحاط الخوف بالمسلمين رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت، يفقد وعيه، يرفع بصره إلى السماء، ثم لا يرتدّ بصره إليه. فهذا حال الجبناء أثناء الحرب، يرفع بصره إلى السماء فلايرتد إليه، فإذا ذهب الخوف وساد الهدوء والاستقرار في الأجواء، سلقوكم بألسنة حداد، يطمعون في المغانم، يتحدثون عن بطولاتهم وإنجازاتهم في الحرب إذا تحقق الفتح للمسلمين، يقولون: لم يتحقق لكم ما تحقق إلا بفضل جهودنا ودعمنا، فاجعلوا لنا نصيبا في الغنائم. أولئك لم يؤمنوا بما أنزل الله، فأحبط الله أعمالهم، فجهادهم وجهودهم مردودة عليهم، وكان ذلك على الله يسيرا، وفّق للخير من شاء، ومنع من الخير من شاء». (معارف القرآن للكاندهلوي)
بعض الحوادث المرتبطة بالآيتين:
قال القرطبي رحمه الله:
(1) حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ ...) إلى آخر الآية، قال: هذا يوم الأحزاب، انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف ونبيذ، فقال له: أنت هاهنا في الشواء والرغيف والنبيذ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلمّ إلى هذا، فقد بلغ بك وبصاحبك، والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا، فقال: كذبت والذي يحلف به؛ قال - وكان أخاه من أبيه وأمِّه -: أما والله لأخبرنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أمرك؛ قال: وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره؛ قال: فوجده قد نزل جبرائيل عليه السلام بخبره( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا ) . (القرطبي، روح المعاني، أنوار البيان)
(2) أرسل اليهود إلى المنافقين أنكم لماذا تهلكون أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه، فإنهم إن انتصروا عليكم لم ينج أحدكم من الموت، لقد ترحمنا عليكم فأنتم إخواننا وجيراننا، هلموا إلينا، فلما سمع ذلك عبد الله بن ابي بن سلول رئيس المنافقين وأصحابه التفتوا نحو المسلمين، وباتوا يصدونهم عن القتال، ويخوّفونهم، يقولون لهم: إن تمكن أبو سفيان وأصحابه منكم، ما ترك منكم أحدا. ما الذي ترجونه من محمد وأصحابه، وتنتهي هذه الحرب على قتلنا جميعا، تعالوا نلحق بإخوتنا اليهود، فلما سمع المؤمنون ما قالوا، زادهم إيمانا، وعلى ربهم يتوكلون، يرجون منه الأجر والمثوبة. (معالم التنزيل، أنوار البيان)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ ) قال: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنه هالك. (القرطبي)
ومعنى «أكلة رأس» أنهم قليلون، يكفيهم رأس واحد، لقلة عددهم.
تفسير يسير:
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}.
{لإخوانهم} هم أهل المدينة، أي تعالوا إلينا واخذلوا محمدا · وأصحابه، لا تقاتلوا في صفوفهم، فإننا نخاف عليكم القتل.
{المعوّقين} العائق: الصارف المانع، والعوق: المنع والصرف. والعائق: المانع من الخير. وأراد بالمعوّقين في الآية المنافقين الذين كانوا يمنعون الناس من الخروج مع النبي · للجهاد في سبيل الله. قال قتادة: كانوا منافقين، يمنعون الأنصار من الخروج مع رسول الله ·، وكانوا يقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنه هالك. (والعياذ بالله)
{ولا يأتون البأس إلا قليلا} أي المنافقون لا يحضرون القتال إلا قليلاً. قال بعض المفسرين: هذه الآية بعض كلام المنافقين، والمعنى أن محمدا · وأصحابه لا يقدرون على مواجهة الأحزاب إلا قليلاً.
(شأنهم شأن المثقفين المتغربين اليوم، يتنبّأون بشأن المجاهدين أنهم لا يقدرون على مواجهة جيوش الحلفاء إلا قليلا).
{أشحّة على الخير} أي يبخلون في الإنفاق عليكم، بنصركم ودعمكم، أو أشحة فيما يتعلق بانتصاركم واغتنامكم الغنائم، لا يريدون الإنفاق عليكم، ولا الإنفاق في سبيل الله، ولا يتحملون ظفركم وانتصاركم على العدو. أشحّة جمع شحيح، وهو البخيل.
{فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد}
(1) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ينقصون من شأنكم، ويغتابونكم.
(2) وقال بعض المفسرين: «سلقوكم» أي آذوكم، ألحقوا بكم الأضرار، وتناولوكم بالطعن والنقد اللاذع أيام السِلم.
(3) قال قتادة: فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لسانا، ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم.
(4) أي فإذا كان الأمن تكلموا كلاما بليغا فصيحا عاليا، وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة. (ابن كثير)
شعر في وضع المنافقين:
قال الإمام ابن كثير رحمه الله:
أي ليس فيهم خير قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر:
أفي السلم أعيارا جفاء وغلظة      وفي الحرب أمثال النساء العوارك
أي في حال المسالمة كأنهم الحمر، والأعيار جمع عير وهو الحمار، وفي الحرب كأنهم النساء الحُيّض. (ابن كثير)
أولئك الملاحدة الزنادقة الذين حبطت أعمالهم، وكان ذلك على الله يسيراً.