{سورة الفتح مدنية، الآية 1}

{بسم الله الرحمن الرحيم}

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)}.

ملخص معاني الآية:

أي أعطيناك فتحا واضحا على خصومك.

غزوة الحديبية.. بيعة الرضوان:

هذه الآية وغيرها من الآيات من سورة الفتح مرتبطة بغزوة الحديبية وبيعة الرضوان، لذلك لاحظوا فيما يلي غزوة الحديبية وقصة بيعة الرضوان.

ملحوظة:

لقد سمّى الإمام البخاري وغيره من كبار المحدثين هذه الوقعة «بغزوة الحديبية»، ارجعوا إلى «باب غزوة الحديبية وقول الله تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} لذلك اشتهرت هذه الوقعة باسم «غزوة الحديبية» في تاريخ الإسلام.







من إحدى أهم حوادث تاريخ الإسلام



غزوة الحديبية






غزوة الحديبية

(غُرّة ذي القعدة الحرام سنة 6 من الهجرة)

الحديبية اسم بئر، وبالقرب منها تقع قرية اشتهرت بها، تبعد تسعة أميال من مكة المكرمة. قال المحب الطبري: معظم أجزائها في الحرم، والقليل منها في الحل.

رؤيا رسول الله   ·:

وسبب غزوة الحديبية كما أخرج ابن جرير والبيهقي عن عبد بن حميد قال: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ رَأَى فِي النّوْمِ أَنّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ وَحَلقَ رَأْسَهُ وَأَخَذَ مِفْتَاحَ الْبَيْتِ وَعَرّفَ مَعَ الْمُعَرّفِينَ فَاسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ إلَى الْعُمْرَةِ فَأَسْرَعُوا وَتَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ. وبما أن شيئا من السنة والشهر لم يتم تحديده في الرؤيا، فكان من المحتمل أن يتحقق ذلك خلال هذه السنة.

تخلف المنافقين عن الخروج:

أخرج ابن سعد وغيره أنه لما عزم النبي · وأصحابه على تأدية مناسك العمرة، راودته شكوك حول موافقة قريش على السماح له بذلك، والأغلب أن ينتهي الأمر إلى مواجهة مسلحة، لذلك استنفر الأعراب حول المدينة ومن جاورهم، لكن كثيرا منهم اعتذروا، وقالوا: لا يريد محمد · وأصحابه إلا أن نُقاتل قريشا، الأكثر عدداً وعُدّة، إن خرجنا ما عُدنا سالمين غانمين.

الخروج إلى مكة:

أخرج الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وغيره أن النبي · اغتسل ولبس ثوبين جديدين، ثم ركب ناقته القصوى، تُرافقه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها، ومعه جمع عظيم من المهاجرين والأنصار والأعراب، يبلغ عددهم ألفاً وأربعمائة شخص، كما في أكثر الروايات. لم يكن أحد منهم يتردد في فتح مكة لما رأى النبي · في المنام، وما أخذوا من عُدّة الحرب سوى السيوف، وكان خروجهم يوم الإثنين غُرة ذي القعدة، وأحرموا بذي الحليفة.

استعداد أهل مكة للمواجهة:

ولمّا بلغ أهل مكة أن النبي · سائر إليهم على رأس جمع عظيم من أصحابه، اجتمعوا للمشاورة، وقالوا: إن تمكن محمد · من أداء مناسك العمرة مع أصحابه، مع ما بيننا وبينه من حروب، سمع به العرب، وجرّ العار لنا إلى الأبد، فلن نسمح له بذلك. فأرسلوا خالد بن الوليد (ولم يزل على دين قومه) على رأس جمع إلى موضع اسمه كُرّاع الغميم خارج مكة لمنع النبي · من دخول مكة، وانضم إليهم الأعراب المجاورون وبنو ثقيف من الطائف، فنزلوا في موضع اسمه بلداح، وتعاهدوا على منع النبي · من دخول مكة، وعلى محاربته.

عيون النبي   ·:

أرسل النبي · بُسر بن سفيان رضي الله عنه للاطلاع على نوايا قريش وتحركاتهم، فذهب وعاد وأخبر عما رأى من استعدادهم للقتال ومقاومة الرسول ·، فَقَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - : يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ ، فَإِنْ هُمْ أَصَابُونِي كَانَ الّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الإسْلامِ وَافِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوّةٌ فَمَا تَظُنّ قُرَيْشٌ ، فَوَاَللّهِ لا أَزَالُ أُجَاهِدُ عَلَى الّذِي بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السّالِفَةُ ثُمّ قَالَ مَنْ رَجُلٌ يَخْرَجُ بِنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمْ الّتِي هُمْ بِهَا ؟

شوق الصحابة للجهاد:

ثم جمع النبي · أصحابه وخطبهم، واستشارهم فيما يفعل؟ هل يتقدم نحو مكة أو يتقاتل العرب، خاصة أولئك الذين يصدّون طريقهم؟ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ نَرَى يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ نَمْضِيَ لِوَجْهِنَا فَمَنْ صَدّنَا عَنْ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ.
قَالَ فَقَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ لا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى : اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلا إنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ . وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ سِرْت إلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَسِرْنَا مَعَك مَا بَقِيَ مِنّا رَجُلٌ.
فأمرهم النبي · بالمسير إلى مكة، فلما وصل قريبا منها، رآه خالد بن الوليد يتقدم نحو مكة، فولّى النبي · وجوه صفوف المجاهدين باتجاه المسجد الحرام، وقدّم عبّاد بن بشر على رأس كتيبة، فاصطفت في مواجهة جنود خالد بن الوليد.

مشروعية صلاة الخوف:

وَدَنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِ حَتّى نَظَرَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَصَفّ خَيْلَهُ فِيمَا بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَهِيَ فِي مِائَتَيْ فَرَسٍ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَتَقَدّمَ فِي خَيْلِهِ فَقَامَ بِإِزَائِهِ فَصَفّ أَصْحَابَهُ .
قَالَ دَاوُدُ فَحَدّثَنِي عِكْرِمَةُ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ فَحَانَتْ صَلَاةُ الظّهْرِ فَأَذّنَ بِلالٌ وَأَقَامَ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقِبْلَةَ وَصَفّ النّاسَ خَلْفَهُ يَرْكَعُ بِهِمْ وَيَسْجُدُ ثُمّ سَلّمَ فَقَامُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التّعْبِيَةِ . فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : قَدْ كَانُوا عَلَى غِرّةٍ ، لَوْ كُنّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ لأَصَبْنَا مِنْهُمْ وَلَكِنْ تَأْتِي السّاعَةَ صَلاةٌ هِيَ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ قَالَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ بِهَذِهِ الآيَةِ {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ فَلْتَقُمْ} الآيَةَ . قَالَ فَحَانَتْ الْعَصْرُ فَأَذّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُوَاجِهًا الْقِبْلَةَ وَالْعَدُوّ أَمَامَهُ وَكَبّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَبّرَ الصّفّانِ جَمِيعًا . ثُمّ رَكَعَ وَرَكَعَ الصّفّانِ جَمِيعًا ، ثُمّ سَجَدَ فَسَجَدَ الصّفّ الّذِي يَلِيهِ وَقَامَ الآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُ . فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّجُودَ بِالصّفّ الأَوّلِ وَقَامُوا مَعَهُ سَجَدَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ السّجْدَتَيْنِ ثُمّ اسْتَأْخَرَ الصّفّ الّذِي يَلُونَهُ وَتَقَدّمَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ فَكَانُوا يَلُونَ رَسُولَ [ ص 583 ] اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَامُوا جَمِيعًا ، ثُمّ رَكَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَكَعَ الصّفّانِ جَمِيعًا ، ثُمّ سَجَدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَجَدَ الصّفّ الّذِي يَلُونَهُ وَقَامَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ يَحْرُسُونَهُ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوّ فَلَمّا رَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأْسَهُ مِنْ السّجْدَتَيْنِ سَجَدَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ السّجْدَتَيْنِ اللّتَيْنِ بَقِيَتَا عَلَيْهِمْ وَاسْتَوَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسًا فَتَشَهّدَ ثُمّ سَلّمَ عَلَيْهِمْ . فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ هَذِهِ أَوّلُ صَلاةٍ صَلاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْخَوْفِ .

النزول بالحديبية:

انحرف النبي · إلى الحديبية سيرا على طريق مختلف عمّا كان عليه، فلمّا أراد أن يتوجه إلى مكة بركت ناقته فلم تقم، فأرادوا أن تقوم لكنها لم تقم، فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء، فقال النبي ·: ما هذا شأنها، حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده ما دعتني قريش إلى تعظيم شعيرة من شعائر الله تعالى إلا أجبتها، ثم رفّع الناقة فقامت حتى جاءت الحديبية فنزل بها النبي ·، وكان الحر شديداً، والماء شحيحاً، فنزعوا ما وجدوا في الحفرة من ماء، واشتكوا إلى النبي · ما يعانون منه من شح الماء، فأخذ النبي · سهما من كنانته، وغرزه في الحفرة، حتى فار الماء وسقى الجند أكمله.

إرسال السفراء:

وَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى قُرَيْشٍ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ الْكَعْبِيّ عَلَى جَمَلٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُقَالُ لَهُ الثّعْلَبُ لِيُبَلّغَ أَشْرَافَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا جَاءَ لَهُ . وَيَقُولَ إنّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ مَعَنَا الْهَدْيُ مَعْكُوفًا ، فَنَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَنُحِلّ وَنَنْصَرِفُ . فَعَقَرُوا جَمَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَلّذِي وَلِيَ عَقْرَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَأَرَادَ قَتْلَهُ فَمَنَعَهُ مَنْ هُنَاكَ مِنْ قَوْمِهِ حَتّى خَلّوا سَبِيلَ خِرَاشٍ فَرَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَكَدْ فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا لَقِيَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ ابْعَثْ رَجُلًا أَمْنَعَ مِنّي فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَى قُرَيْشٍ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي ، قَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي لَهَا ، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ بَنِي عَدِيّ مَنْ يَمْنَعُنِي ، وَإِنْ أَحْبَبْت يَا رَسُولَ اللّهِ دَخَلْت عَلَيْهِمْ . فَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْئًا . قَالَ عُمَرُ وَلَكِنْ أَدُلّك يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَى رَجُلٍ أَعَزّ بِمَكّةَ مِنّي ، وَأَكْثَرَ عَشِيرَةً وَأَمْنَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ . فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ اذْهَبْ إلَى قُرَيْشٍ فَخَبّرْهُمْ أَنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، وَإِنّمَا جِئْنَا زَوّارًا لِهَذَا الْبَيْتِ مُعَظّمِينَ لِحُرْمَتِهِ مَعَنَا الْهَدْيُ نَنْحَرُهُ وَنَنْصَرِفُ فَخَرَجَ عُثْمَانُ حَتّى أَتَى بَلْدَحَ ، فَيَجِدُ قُرَيْشًا هُنَالِكَ فَقَالُوا : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ يَدْعُوكُمْ إلَى اللّهِ.
وَيَقُولُونَ قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ وَلَا كَانَ هَذَا أَبَدًا ، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً فَارْجِعْ إلَى صَاحِبِك فَأَخْبِرْهُ أَنّهُ لَا يَصِلُ إلَيْنَا . فَقَامَ إلَيْهِ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، فَرَحّبَ بَهْ وَأَجَازَهُ وَقَالَ لَا تُقَصّرْ عَنْ حَاجَتِك ثُمّ نَزَلَ عَنْ فَرَسٍ كَانَ عَلَيْهِ فَحَمَلَ عُثْمَانَ عَلَى السّرْجِ وَرَدَفَهُ وَرَاءَهُ فَدَخَلَ عُثْمَانُ مَكّةَ ، فَأَتَى أَشْرَافَهُمْ رَجُلًا رَجُلًا ، أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْهُمْ مَنْ لَقِيَ بِبَلْدَحٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَقِيَ بِمَكّةَ ، فَجَعَلُوا يَرُدّونَ عَلَيْهِ إنّ مُحَمّدًا لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا أَبَدًا قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ثُمّ كُنْت أَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ مُسْتَضْعَفِينَ فَأَقُولُ إنّ رَسُولَ اللّهِ يُبَشّرُكُمْ بِالْفَتْحِ وَيَقُولُ أُظِلّكُمْ حَتّى لَا يَسْتَخْفِي بِمَكّةَ الْإِيمَانُ فَقَدْ كُنْت أَرَى الرّجُلَ مِنْهُمْ وَالْمَرْأَةَ تَنْتَحِبُ حَتّى أَظُنّ أَنّهُ يَمُوتُ فَرَحًا بِمَا خَبّرْته ، فَيَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيُخْفِي الْمَسْأَلَةَ وَيَشْتَدّ ذَلِك [ عَلَى ] أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَ اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ مِنّا السّلَامَ إنّ الّذِي أَنَزَلَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَقَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَهُ بَطْنَ مَكّةَ.
وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَصَلَ عُثْمَانُ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَظُنّ عُثْمَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ مَحْصُورُونَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ [ ص 602 ] وَمَا يَمْنَعُهُ وَقَدْ وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ ؟ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ظَنّي بَهْ أَلّا يَطُوفَ حَتّى نَطُوفَ فَلَمّا رَجَعَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا : اشْتَفَيْت مِنْ الْبَيْتِ يَا عَبْدَ اللّهِ قَالَ عُثْمَانُ بِئْسَ مَا ظَنَنْتُمْ بِي لَوْ كُنْت بِهَا سَنَةً وَالنّبِيّ مُقِيمٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَا طُفْت ، وَلَقَدْ دَعَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى أَنْ أَطُوفَ فَأَبَيْت ذَلِكَ عَلَيْهَا . فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ لِرَسُولِ اللّهِ كَانَ أَعْلَمَنَا بِاَللّهِ تَعَالَى وَأَحْسَنِنَا ظَنّا.

المناوشات بين أهل مكة والمسلمين وأسر سبعين مشركا:

وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ يَتَحَارَسُونَ اللّيْلَ وَكَانَ الرّجُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ يَبِيتُ عَلَى الْحَرَسِ حَتّى يُصْبِحَ يُطِيفُ بِالْعَسْكَرِ فَكَانَ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَنَاوَبُونَ الْحِرَاسَةَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ . فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَلَى فَرَسِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْلَةً مِنْ تِلْكَ اللّيَالِي وَعُثْمَانُ بِمَكّةَ بَعْدُ وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ بَعَثَتْ لَيْلًا خَمْسِينَ رَجُلًا ، عَلَيْهِمْ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يُطِيفُوا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجَاءَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ غِرّةً ، فَأَخَذَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَصْحَابُهُ فَجَاءَ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ عُثْمَانُ بِمَكّةَ قَدْ أَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا يَدْعُو قُرَيْشًا ، وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ دَخَلُوا مَكّةَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَهْلِيهِمْ فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ عُثْمَانَ وَأَصْحَابَهُ قَدْ قُتِلُوا ، فَذَلِكَ حِينَ دَعَا إلَى الْبَيْعَةِ . وَبَلَغَ قُرَيْشًا حَبْسُ أَصْحَابِهِمْ فَجَاءَ جَمْعٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ حَتّى تَرَامَوْا بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ وَأَسَرُوا أَيْضًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ حِينَئِذٍ أَسْرَى.

بيعة الرضوان:

فلما بلغ النبي · مقتل عثمان حزِن حزنا شديدا، وقال: لن أبرح من مكاني هذا حتى آخذ ثأره، وثار المسلمون يبايعون على يديه تحت الشجرة، وهي السمرة، بايعوا على الجهاد والموت ما أحيوا.
ثُمّ إنّ قُرَيْشًا بَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى وَمِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمئِذٍ يَؤُمّ مَنَازِلَ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ وَقَدْ نَزَلَتْ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ [ ص 603 ] الْحُدَيْبِيَةِ جَمِيعًا . قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ وَالرّسْلُ تَخْتَلِفُ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ ، فَمَرّ بِنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا فِي مَنْزِلِنَا . قَالَتْ فَظَنَنْت أَنّهُ يُرِيدُ حَاجَةً فَإِذَا هُوَ قَدْ بَلَغَهُ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَدْ قُتِلَ فَجَلَسَ فِي رِحَالِنَا ثُمّ قَالَ إنّ اللّهَ أَمَرَنِي بِالْبَيْعَةِ . قَالَتْ فَأَقْبَلَ النّاسُ يُبَايِعُونَهُ فِي رِحَالِنَا حَتّى تَدَارَكَ النّاسُ فَمَا بَقِيَ لَنَا مَتَاعٌ إلّا وَطِئَ وَزَوْجُهَا غَزِيّةُ بْنُ عَمْرٍو . وَقَالَتْ فَبَايَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ يَوْمئِذٍ . قَالَتْ فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَلَبّسُوا السّلَاحَ وَهُوَ مَعَنَا قَلِيلٌ إنّمَا خَرَجْنَا عُمّارًا ، فَأَنَا أَنْظُرُ إلَى غَزِيّةَ بْنِ عَمْرٍو وَقَدْ تَوَشّحَ بِالسّيْفِ فَقُمْت إلَى عَمُودٍ كُنّا نَسْتَظِلّ بَهْ فَأَخَذْته فِي يَدِي ، وَمَعِي سِكّينٌ قَدْ شَدَدْته فِي وَسَطِي ، فَقُلْت : إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ رَجَوْت أَنْ أَقْتُلَهُ . فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمئِذٍ يُبَايِعُ النّاسَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ آخِذٌ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُمْ عَلَى أَلّا يَفِرّوا . وَقَالَ قَائِلٌ بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ . وَيُقَالُ أَوّلُ النّاسِ بَايَعَ سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانِ بْنِ مِحْصَنٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أُبَايِعُك عَلَى مَا فِي نَفْسِك . فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُبَايِعُ النّاسَ عَلَى بَيْعَةِ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ.
وفي صحيح مسلم أن سلمة بن الأكوع بايع ثلاث مرات، في الأول ثم في الوسط ثم في الأخير، فلما بايع الجميع، ضرب النبي · يده اليسرى على يده اليمنى، وقال: هذه من عثمان. (رواه البخاري)
وعند الزرقاني أن اليد اليمنى كانت من النبي ·، واليسرى من عثمان، وكان عثمان يتذكرها ويقول: يمين النبي · كانت أفضل من يساري.
وسمّيت هذه البيعة ببيعة الرضوان، التي ذكرها الله تعالى في سورة الفتح:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)}.

ذعر المشركين:

ثم ظهر للمسلمين أن خبر قتل عثمان لم يكن صحيحا، وأن المشركين اُرعبوا من مبايعة المسلمين على الموت. فقاموا بالمراسلة للصلح.
قَالُوا : فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ جَاءَهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ وَرَكْبٌ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَهُمْ عَيْبَةُ نُصْحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتِهَامَةَ ، مِنْهُمْ الْمُسْلِمُ وَمِنْهُمْ الْمُوَادِعُ لَا يُخْفُونَ عَلَيْهِ بِتِهَامَةَ شَيْئًا ، فَأَنَاخُوا رَوَاحِلَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ جَاءُوا فَسَلّمُوا عَلَيْهِ فَقَالَ بُدَيْلٌ جِئْنَاك مِنْ عِنْدِ قَوْمِك ، كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ وَعَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، قَدْ اسْتَنْفَرُوا لَك الْأَحَابِيشَ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ - النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ - يُقْسِمُونَ بِاَللّهِ لَا يُخَلّونَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتّى تَبِيدَ خَضْرَاؤُهُمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، إنّمَا جِئْنَا لِنَطُوفَ بِهَذَا الْبَيْتِ فَمَنْ صَدّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ وَقُرَيْشٌ قَوْمٌ قَدْ أَضَرّتْ بِهِمْ الْحَرْبُ وَنَهَكَتْهُمْ فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتهمْ مُدّةً يَأْمَنُونَ فِيهَا ، وَيُخَلّونَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النّاسِ وَالنّاسُ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَإِنْ ظَهَرَ أَمْرِي عَلَى النّاسِ كَانُوا بَيْنَ أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ أَوْ يُقَاتِلُوا وَقَدْ جَمَعُوا وَاَللّهِ لَأَجْهَدَنّ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي أَوْ يُنْفِذَ اللّهُ أَمْرَهُ.
فَوَعَى بُدَيْلٌ مَقَالَتَهُ وَرَكِبَ ثُمّ رَكِبُوا إلَى قُرَيْشٍ ، وَكَانَ فِي الرّكْبِ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ ، فَجَعَلَ يَقُولُ وَاَللّهِ لَا تُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ يَعْرِضُ هَذَا أَبَدًا ، حَتّى هَبَطُوا عَلَى كُفّارِ قُرَيْشٍ . فَقَالَ نَاسٌ مِنْهُمْ هَذَا بُدَيْلٌ وَأَصْحَابُهُ إنّمَا جَاءُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَخْبِرُوكُمْ فَلَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ حَرْفٍ وَاحِدٍ فَلَمّا رَأَى بُدَيْلٌ وَأَصْحَابُهُ أَنّهُمْ لَا يَسْتَخْبِرُونَهُمْ قَالَ بُدَيْلٌ إنّا جِئْنَا مِنْ عِنْدِ مُحَمّدٍ ، أَتُحِبّونَ أَنْ نُخْبِرَكُمْ ؟ قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَالْحَكَمُ بْنُ الْعَاصِ : لَا وَاَللّهِ مَا لَنَا حَاجَةٌ بِأَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ وَلَكِنْ أَخْبِرُوهُ عَنّا أَنّهُ لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا عَامَهُ هَذَا أَبَدًا حَتّى لَا يَبْقَى مِنّا رَجُلٌ .
فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ : وَاَللّهِ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ رَأْيًا أَعْجَبَ وَمَا تَكْرَهُونَ أَنْ تَسْمَعُوا مِنْ بُدَيْلٍ وَأَصْحَابِهِ ؟ فَإِنْ أَعْجَبَكُمْ أَمْرٌ قَبِلْتُمُوهُ وَإِنْ كَرِهْتُمْ شَيْئًا تَرَكْتُمُوهُ لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا أَبَدًا وَقَالَ رِجَالٌ مِنْ ذَوِي رَأْيِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ : أَخْبِرُونَا بِاَلّذِي رَأَيْتُمْ وَاَلّذِي سَمِعْتُمْ . فَأَخْبَرُوهُمْ بِمَقَالَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي قَالَ وَمَا عَرَضَ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ الْمُدّةِ فَقَالَ عُرْوَةُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْش ٍ تَتّهِمُونَنِي ؟ أَلَسْتُمْ الْوَالِدَ وَأَنَا الْوَلَدُ ؟ وَقَدْ اسْتَنْفَرْت أَهْلَ عُكَاظٍ لِنَصْرِكُمْ فَلَمّا بَلّحُوا عَلَيّ نَفَرْت إلَيْكُمْ بِنَفْسِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَالُوا : قَدْ فَعَلْت فَقَالَ وَإِنّي نَاصِحٌ لَكُمْ شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ لَا أَدّخِرُ عَنْكُمْ نُصْحًا ، وَإِنّ بُدَيْلًا قَدْ جَاءَكُمْ بِخُطّةِ رُشْدٍ لَا يَرُدّهَا أَحَدٌ أَبَدًا إلّا أَخَذَ شَرّا مِنْهَا ، فَاقْبَلُوهَا مِنْهُ وَابْعَثُونِي حَتّى آتِيَكُمْ بِمِصْدَاقِهَا مِنْ عِنْدِهِ وَأَنْظُرَ إلَى مَنْ مَعَهُ وَأَكُونَ لَكُمْ عَيْنًا آتِيكُمْ بِخَبَرِهِ . فَبَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَقْبَلَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ [ ص 595 ] عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ أَقْبَلَ حَتّى جَاءَهُ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ إنّي تَرَكْت قَوْمَك ، كَعْبَ بْنَ لُؤَيّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيّ عَلَى أَعْدَادِ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ قَدْ اسْتَنْفَرُوا لَك أَحَابِيشَهُمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَهُمْ يُقْسِمُونَ بِاَللّهِ لَا يُخَلّونَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتّى تَجْتَاحَهُمْ . وَإِنّمَا أَنْتَ مِنْ قِتَالِهِمْ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ أَنْ تَجْتَاحَ قَوْمَك ، وَلَمْ نَسْمَعْ بِرَجُلٍ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَك ; أَوْ بَيْنَ أَنْ يَخْذُلَك مَنْ نَرَى مَعَك ، فَإِنّي لَا أَرَى مَعَك إلّا أَوْبَاشًا مِنْ النّاسِ لَا أَعْرِفُ وُجُوهَهُمْ وَلَا أَنْسَابَهُمْ .
فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَقَالَ اُمْصُصْ بَظْرَ اللّاتِ أَنَحْنُ نَخْذُلُهُ ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا يَدٌ لَك عِنْدِي لَمْ أَجْزِك بِهَا بَعْدُ لَأَجَبْتُك.
فَطَفِقَ عُرْوَةُ وَهُوَ يُكَلّمُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَمَسّ لِحْيَتَهُ - وَالْمُغِيرَةُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّيْفِ عَلَى وَجْهِهِ الْمِغْفَرُ - فَطَفِقَ الْمُغِيرَةُ كُلّمَا مَسّ لِحْيَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرَعَ يَدَهُ وَيَقُولُ اُكْفُفْ يَدَك عَنْ مَسّ لِحْيَةِ رَسُولِ اللّهِ قَبْلَ أَلّا تَصِلَ إلَيْك فَلَمّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ غَضِبَ عُرْوَةُ فَقَالَ لَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَنْتَ يَا مُحَمّدُ مَنْ هَذَا الّذِي أَرَى مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِك ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا ابْنُ أَخِيك الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ . وهنا عرف ابن أخيه.
فَلَمّا فَرَغَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَدّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا قَالَ لِبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَأَصْحَابِهِ وَكَمَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُدّةِ رَكِبَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ يَا قَوْمِ إنّي قَدْ وَفَدْت عَلَى الْمُلُوكِ عَلَى كِسْرَى وَهِرَقْلَ وَالنّجَاشِيّ ، وَإِنّي وَاَللّهِ مَا رَأَيْت مَلِكًا قَطّ أَطْوَعَ فِيمَنْ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ مِنْ مُحَمّدٍ فِي أَصْحَابِهِ وَاَللّهِ مَا يُشِدّونَ إلَيْهِ النّظَرَ وَمَا يَرْفَعُونَ عِنْدَهُ الصّوْتَ وَمَا يَكْفِيهِ إلّا أَنْ يُشِيرَ إلَى أَمْرٍ فَيُفْعَلَ وَمَا يَتَنَخّمُ وَمَا يَبْصُقُ إلّا وَقَعَتْ فِي يَدَيْ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَمْسَحُ بِهَا جِلْدَهُ وَمَا يَتَوَضّأُ إلّا ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ أَيّهُمْ يَظْفَرُ مِنْهُ بِشَيْءٍ وَقَدْ حَزَرْت الْقَوْمَ وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ إنْ أَرَدْتُمْ السّيْفَ بَذَلُوهُ لَكُمْ وَقَدْ رَأَيْت قَوْمًا مَا يُبَالُونَ مَا يُصْنَعُ بِهِمْ إذَا مَنَعُوا صَاحِبَهُمْ وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْت [ ص 599 ] نُسَيّاتٍ مَعَهُ إنْ كُنّ لَيُسْلِمُنّهُ أَبَدًا عَلَى حَالٍ فَرُوا رَأْيَكُمْ وَإِيّاكُمْ وَإِضْجَاعَ الرّأْيِ وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطّةً فَمَادّوهُ يَا قَوْمِ اقْبَلُوا مَا عَرَضَ فَإِنّي لَكُمْ نَاصِحٌ مَعَ أَنّي أَخَافُ أَلّا تُنْصَرُوا عَلَيْهِ رَجُلٌ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ مُعَظّمًا لَهُ مَعَهُ الْهَدْيُ يَنْحَرُهُ وَيَنْصَرِفُ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : لَا تَكَلّمْ بِهَذَا يَا أَبَا يَعْفُورٍ لَوْ غَيْرُك تَكَلّمَ بِهَذَا لَلُمْنَاهُ وَلَكِنْ نَرُدّهُ عَنْ الْبَيْتِ فِي عَامِنَا هَذَا وَيَرْجِعُ إلَى قَابِلٍ .
لم يصرّح عروة بنبوة رسول الله ·، لكنه أشار إلي الحال الذي رآه عليه أنه ليس إلا حال الأنبياء والمرسلين.
قَالُوا : ثُمّ جَاءَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ فَلَمّا طَلَعَ وَرَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّ هَذَا رَجُلٌ غَادِرٌ فَلَمّا انْتَهَى إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَلّمَهُ بِنَحْوٍ مِمّا كَلّمَهُ أَصْحَابُهُ فَلَمّا انْتَهَى إلَى قُرَيْش ٍ أَخْبَرَهُمْ بِمَا رَدّ عَلَيْهِ . فَبَعَثُوا الْحُلَيْسَ بْنَ عَلْقَمَةَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ الْأَحَابِيشِ - فَلَمّا طَلَعَ الْحُلَيْسُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يُعَظّمُونَ الْهَدْيَ وَيَتَأَلّهُونَ ابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ حَتّى يَرَاهُ . فَبَعَثُوا الْهَدْيَ فَلَمّا نَظَرَ إلَى الْهَدْيِ يَسِيلُ فِي الْوَادِي عَلَيْهِ الْقَلَائِدُ قَدْ أَكَلَ أَوْبَارَهُ يُرَجّعُ الْحَنِينَ . وَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ فِي وَجْهِهِ يُلَبّونَ قَدْ أَقَامُوا نِصْفَ شَهْرٍ قَدْ تَفِلُوا وَشَعِثُوا ، رَجَعَ وَلَمْ يَصِلْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إعْظَامًا لِمَا رَأَى ، حَتّى رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ إنّي قَدْ رَأَيْت مَا لَا يَحِلّ صَدّهُ رَأَيْت الْهَدْيَ فِي قَلَائِدِهِ قَدْ أَكَلَ أَوْبَارَهُ مَعْكُوفًا عَنْ مَحِلّهِ وَالرّجَالَ قَدْ تَفِلُوا وَقَمِلُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهَذَا الْبَيْتِ أَمَا وَاَللّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ وَلَا عَاقَدْنَاكُمْ [ ص 600 ] عَلَى أَنْ تَصُدّوا عَنْ بَيْتِ اللّهِ مَنْ جَاءَ مُعَظّمًا لِحُرْمَتِهِ مُؤَدّيًا لِحَقّهِ وَسَاقَ الْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُخَلّنّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ . أَوْ لَأَنْفِرَنّ بِالْأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ قَالُوا : إنّمَا كُلّ مَا رَأَيْت مَكِيدَةٌ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ فَاكْفُفْ عَنّا حَتّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا بَعْضَ مَا نَرْضَى بِهِ .
ثُمّ جَاءَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ فَلَمّا طَلَعَ وَرَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّ هَذَا رَجُلٌ غَادِرٌ فَلَمّا انْتَهَى إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَلّمَهُ بِنَحْوٍ مِمّا كَلّمَهُ أَصْحَابُهُ فَلَمّا انْتَهَى إلَى قُرَيْش ٍ أَخْبَرَهُمْ بِمَا رَدّ عَلَيْهِ.

مقدم سهيل بن عمرو وعقد الصلح:

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا عامر بن لؤي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، ليصالحه على أن يرجع عنهم عامه ذلك، فأقبل سهيل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأطال معه الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهم الصلح، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب، فقال: اكتب باسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو - فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال لعلي: امح رسول الله. فقال: لا أمحوك أبداً. فأخذه رسول الله، صلى الله عليه وسلم وليس يحسن يكتب فكتب موضع رسول الله: محمد بن عبد الله، وقال لعلي: لتبلين بمثلها -

بنود الصلح:

(1) اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين.
(2) وأنه من أتى منهم رسول الله بغير إذن وليه رده إليهم ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله لم يردوه عليه.
(3) ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش.
(4) ولا يحمل أحد على آخر السيف، ولا يغدر أحد بآخر.
(5) وأن يرجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عنهم عامه ذلك، فإذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً.
(6) وسلاح الراكب السيوف في القرب.

اضطهاد أبي جندل:

فبينا النبي، صلى الله عليه وسلم، يكتب الكتاب إذ جاء أبو جندل ابن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان أصحاب النبي لا يشكون في فتح الرؤيا رآها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل أخذه وقال: يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت، وأخذه ليرده إلى قريش، فصاح أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين ليفتنوني عن ديني ! فزاد الناس شراً إلى ما بهم، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد أعطينا القوم عهودنا على ذلك فلا نغدر بهم. قال: فوثب عمر بن الخطاب يمشي مع أبي جندل ويقول له: اصبر واحتسب فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب ! وأدنى قائم السيف منه رجاء أن يأخذه فيضرب به أباه، قال: فبخل الرجل بأبيه.
وشهد على الصلح جماعة من المسلمين فيهم أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، وجماعة من المشركين.
وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَكْرَهُونَ الصّلْحَ لِأَنّهُمْ خَرَجُوا لَا يَشُكّونَ فِي الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَأَنّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ ، فَأَخَذَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ ، وَعَرَفَ مَعَ الْمُعْرِفِينَ فَلَمّا رَأَوْا الصّلْحَ دَخَلَ النّاسُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتّى كَادُوا يَهْلِكُونَ.
قَالُوا : فَلَمّا اصْطَلَحُوا فَلَمْ يَبْقَ إلّا الْكِتَابُ وَثَبَ عُمَرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلَى قَالَ فَعَلَامَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنَا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ وَلَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ وَلَنْ يُضَيّعَنِي فَذَهَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي بَكْر ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْر ٍ ، أَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ بَلَى فَقَالَ عُمَرُ : فَلِمَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْزَمْ غَرْزَهُ فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَأَنّ الْحَقّ مَا أَمَرَ بِهِ وَلَنْ نُخَالِفَ أَمْرَ اللّهِ وَلَنْ يُضَيّعَهُ اللّهُ وَلَقِيَ عُمَرُ مِنْ الْقَضِيّةِ أَمْرًا كَبِيرًا ، وَجَعَلَ يَرُدّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْكَلَامَ وَيَقُولُ عَلَامَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا ؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ أَنَا رَسُولُ اللّهِ وَلَنْ يُضَيّعَنِي قَالَ فَجَعَلَ يَرُدّ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْكَلَامَ . قَالَ يَقُولُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ : أَلّا تَسْمَعَ يَا ابْنَ الْخَطّابِ رَسُولَ اللّهِ يَقُولُ مَا يَقُولُ ؟ تَعَوّذْ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ وَاتّهِمْ رَأْيَك قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَجَعَلْت أَتَعَوّذُ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ حِيَاءً فَمَا أَصَابَنِي [ ص 607 ] قَطّ شَيْءٌ مِثْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا زِلْت أَصُومُ وَأَتَصَدّقُ مِنْ الّذِي صَنَعْت مَخَافَةَ كَلَامِي الّذِي تَكَلّمْت يَوْمئِذٍ . فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ لِي عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ وَذَكَرَ الْقَضِيّةَ : ارْتَبْت ارْتِيَابًا لَمْ أَرْتَبْهُ مُنْذُ أَسْلَمْت إلّا يَوْمئِذٍ وَلَوْ وَجَدْت ذَلِكَ الْيَوْمَ شِيعَةً تَخْرُجُ عَنْهُمْ رَغْبَةً عَنْ الْقَضِيّةِ لَخَرَجْت . ثُمّ جَعَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاقِبَتَهَا خَيْرًا وَرُشْدًا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْلَمَ .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ : جَلَسْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَوْمًا ، فَذَكَرَ الْقَضِيّةَ فَقَالَ لَقَدْ دَخَلَنِي يَوْمئِذٍ مِنْ الشّكّ وَرَاجَعْت النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمئِذٍ مُرَاجَعَةً مَا رَاجَعْته مِثْلَهَا قَطّ ، وَلَقَدْ عَتَقْت فِيمَا دَخَلَنِي يَوْمئِذٍ رِقَابًا ، وَصُمْت دَهْرًا ، وَإِنّي لَأَذْكُرُ مَا صَنَعْت خَالِيًا فَيَكُونُ أَكْبَرَ هَمّي ، ثُمّ جَعَلَ اللّهُ عَاقِبَةَ الْقَضِيّةِ خَيْرًا ، فَيَنْبَغِي لِلْعِبَادِ أَنْ يَتّهِمُوا الرّأْيَ وَاَللّهِ لَقَدْ دَخَلَنِي يَوْمئِذٍ مِنْ الشّكّ حَتّى قُلْت فِي نَفْسِي : لَوْ كُنّا مِائَةَ رَجُلٍ عَلَى مِثْلِ رَأْيِي مَا دَخَلْنَا فِيهِ أَبَدًا فَلَمّا وَقَعَتْ الْقَضِيّةُ أَسْلَمَ فِي الْهُدْنَةِ أَكْثَرَ مِمّنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْ يَوْمِ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَمَا كَانَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحٌ أَعْظَمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ .
وما حصل من عمر بن الخطاب من قلق واضطراب لم يكن بنية الإساءة أو التطاول على الرسول ·، بل دفعه إليه فرط حبه لرسول الله وحبه للمسلمين، لأن المشركين حصلوا على امتيازات كثيرة في هذا الصلح باعتبار الظاهر، ونبي الله · لم يكن يقاضي إلا بأمر من السماء، وما أخفى الله فيه للمسلمين من رفعة وعاقبة حسنة لم تدركها إلا من وهبه الله بصيرة ثاقبة، وبما أن الحقائق لم تظهر على بقية المسلمين لذلك اندهش عمر، ولمّا أدرك أن ظاهر الصلح فيه إهانة بالمسلمين ورسولهم، وأن كِفّةَ المشركين راجحة، تحوّلت دهشته إلى القلق والاضطراب، حتى أتى النبي ·، وكلّمه فيما عرض له، ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على فرط حبه لرسول الله ·.
وعلى كل حال، لم تكن مراجعة عمر للنبي · من باب التطاول أو الإساءة، إنما دفعه إليه فرط حبه له ·، وقد أثر ذلك، ولم يفارقه طول حياته، فكان يتوب إلى الله ويستغفره.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا قَالَ نَعَمْ إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا.
(ثم إن أحداً من المسلمين لم يفر من المدينة إلى مكة)

إبرام الصلح والأمر بالعودة:

وباختصار اتفق الجانبان على البنود المذكورة، ثم أثبتا توقيعهما عليه.
فلما فرغ النبي، صلى الله عليه وسلم، من قضيته قال: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فما قام أحد حتى قال ذلك مراراً، فلما لم يقم أحد منهم دخل على أم سلمة فذكر لها ذلك، فقالت: يا نبي الله اخرج ولا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك وتحلق شعرك، ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. فما فتح في الإسلام قبله فتح كان أعظم منه، حيث أمن الناس كلهم فدخل في الإسلام تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك وأكثر.
جزى الله خيرا أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها فقد حلّت المعضلة، ودفع عنه · ما كان يجده في قلبه، إن كان ما أشارت عليه إحدى ابنتي شعيب عليه السلام صحيحا وصائبا فقد كان ما أشارت عليه أم المؤمنين رضي الله عنها صائبا وداعيا للخير والبركة.

نزول البشارة:

أقام النبي · بالحديبية أسبوعين، ثم قفل إلى المدينة، فلما بلغ ما بين مكة والمدينة، نزلت عليه سورة الفتح: {إنّا فتحنا لك فتحا مبينا} إلى آخرة السورة.
فدعا النبي · أصحابه، وأسمعهم هذه السورة، كانوا يظنون الصلح هزيمة لهم، وقد سمّاه الله تعالى بالفتح المبين، فتحيّروا، وقالوا : أفتح هو يا رسول الله؟ فقال: نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح عظيم. (رواه أحمد وأبو داود والحاكم)

ثمار الصلح:

قال الزهري: لم يكن فتح في الإسلام مثل صلح الحديبية، كانت الحروب تمنعهم من اللقاء وتبادل الأخبار، وقد ساد الأمن والاستقرار بفضل الصلح، ومن كان خائفا من إظهار إسلامه بات يعلنه ويعمل به، واندفعت الشحناء والبغضاء، ووجدوا فرصة لتبادل الآراء، ومناقشة القضايا الهامة، وسمعوا القرآن، حتى كان الذين أسلموا بعد الصلح أكثر ممن آمن من يوم دعا النبي · إلى الإسلام.
والإسلام ليس إلا منبع المكارم والمحاسن، إليه يعود الخير كله، وكان صحابة رسول الله · خير نماذج للفضيلة والرفعة والحسنة، لم تدركها عيون ملئها العناد والنفور والبغض والحقد.
وبعد إبرام الصلح انقشعت تلك الأستار التي كانت تحجب نور الإسلام عن الأنظار، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا.
قبل الصلح كان ينطبق على المشركين قوله {ولكن لا يشعرون} فلم يدركوا نور الإسلام والمسلمين، فلما ابتعدت مشاعر الاشمئزاز والنفور عن القلوب، عاد إليهم وعيهم، وأدركوا أنوار وجوه أهل الحق.

أبو بصير يدبر له مخرجا:

فلما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة جاءه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي، وهو مسلم، وكان ممن حبس بمكة، فكتب فيه الأزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق وبعثا فيه رجلاً من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد علمت أنا قد أعطينا هؤلاء القوم عهداً ولا يصلح الغدر في ديننا. فانطلق معهما إلى ذي الحليفة فجلسوا، وأخذ أبو بصير سيف أحدهما فقتله به وخرج المولى سريعاً إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقتل صاحبه، ثم أقبل أبو بصير فقال: يا رسول الله قد وفت ذمتك وأنجاني الله منهم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ويل امه مسعر حرب لو كان له رجال ! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج أبو بصير حتى نزل بناحية ذي المروة على ساحل البحر على طريق قريش إلى الشام.

أبو بصير يعسكر بالساحل والمشركون لا حيلة لهم:

وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة ذلك فخرجوا إلى أبي بصير، منهم أبو جندل، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً، فضيقوا على قريش يعترضون العير تكون لهم، فأرسلت قريش إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي · قد أملى الكتاب لأبي بصير، ولما وصل كتابُه إلى أبي بصير كان يفارق الدنيا، فدفعوا الكتاب إليه، فكان يقرأه ويفرح، حتى قُبض، والكتاب على صدره.
فكفّنه أبو جندل بن سهيل ودفنه في الموضع الذي قُبض، وبنى به مسجدا، ثم عاد إلى المدينة مع أصحابه.
ولمّا بلغ سهيل بن عمرو مقتل الرجل الذي قتله أبو بصير، وكان من قومه، أراد أن يطلب ديته من رسول الله ·، فقال أبو سفيان: لم يغدر محمد فلا دية عليه، وقد دفعه إلى من بعثتموه إليه، لم يقتله أبو بصير بأمر محمد، إنما قتله بنفسه، فكيف تطلبون ديته من قومه وعشيرته، إذ هو ليس على دينهم.

عدم جواز إرجاع النساء:

وبعد الصلح إن لحق به رجل، أرجعه إلى مكة حسب بنود الصلح، فلحقت به عدد من النساء، فأرسل المشركون إلى النبي · أن أرسلهن إلينا، لكن الله أنزل عليه الوحي، ومنعه · من إرجاعهن، وأوضح أن الإرجاع كان خاصا بالرجال دون النساء. ففي ألفاظ بعض الروايات «لا يأتيه رجل إلا ..» والرجل لا يشمل المرأة، والمشركون أرادوا إدخال المرأة ضمنهم، فنزل قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)} (الممتحنة، الآية 10-11).

أنواع الصلح وأحكامه:

(1) يجوز لملك المسلمين وأميرهم ولذوي الرأي منهم مصالحة المشركين إن كان فيها منفعة للإسلام والمسلمين. قال الله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}.
(2) ولا يجوز إن لم تكن فيها منفعة للإسلام والمسلمين، ومع ضغطة، إذ فيها إهانة للمسلمين وازدراء لهم، وتعطيل لفريضة الجهاد. قال الله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم}.
أي لا يجوز الصلح مع الكفار مع القدرة على الجهاد، ومعنى الصلح ترك القتال وليس التوحّد مع المشركين، ولذلك استعمل الفقهاء لفظ «الموادعة» ومعناها: التخلي عن القتال.
(3) لا مانع من أخذ المال أو دفعه إليهم للصلح أو بدون مال عند الحاجة ، كما صالح النبي · اليهود بعدما هاجر إلى المدينة، ولم يأخذ منهم شيئا من المال، وهذا الصلح الذي اشتهر بصلح الحديبية كان بدون مال، وصالح النبي · نصارى نجران على مال، ويوم الأحزاب أراد النبي · أن يصالح عيينة بن حصن الفزاري بنصف تمر المدينة، والقصة بتفاصيلها سبقت في غزوة الأحزاب. فدل على جواز الصلح بالطرق الثلاثة.
(4) والأولى كتابة الصلح إن اتفق المسلمون والمشركون على أجل.
(5) يجب إعداد نسختين من كتاب الصلح، وليحتفظ كل فريق بإحداهما.
(6) وليُوقّع عليهما زعماء الجانبين ووُجهاءهم.
(7) يعتبر مخالفة بنود الصلح غدراً وخيانة، لذلك أعاد النبي · أبا جندل وأبا بصير إلى المشركين وقال لهما: لقد أعطيناهم العهد فلا نغدر.
(9) إن صالح أحد ملوك أو رؤساء المسلمين مع قوم، لا يجب على بقية ملوك المسلمين المحافظة عليه.
أما معسكر أبي بصير وأبي جندل فكان خارجا عن حدود المدينة المنورة، والذي فعله كان خارج الحدود، ولم يأمره النبي · بما فعل.
(9) ما من امرأة أسلمت ثم هاجرت من دار الكفر إلى دار الإسلام، إلا انفسخ نكاحها مع زوجها المشرك، كما ينفسخ نكاح الرجل مع امرأته إن أسلم ثم هاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام.
(10) {لا تمسكوا بعصم الكوافر} أي سرّحوهن ولا تقيموا معهن روابط النكاح، إذ لا يجوز لمسلم أن يرتبط بمشركة بنكاح.
(11) قصة الحديبية دلت على فضل أبي بكر الصديق وكماله باعتبارين، الأول: باعتبار طمأنينته ووعدم قلقه واضطرابه واغتمامه مثل بقية الصحابة. الثاني: لم يقل أبو بكر لعمر لمّا اشتكى إليه إلا ما قاله النبي ·، ولم تختلف ألفاظهما.
(12) لمّا أمر النبي · بالنحر والحلق، وتريّث فيه الصحابة، استشار أم المؤمنين أم سلمة، فأشارت عليه بأن يخرج وينحر هديه ويحلق رأسه. وفيه دلالة على جواز استشارة النساء، شريطة أن يأمنها الرجل في دينها وإيمانها وفهمها وذكاءها وأمانتها.

فضل البيعة:

كلمة «البيعة» مشتقة من «البيع» ومعناه استبدال البضائع بالأموال، وفي مصطلح الشريعة: بيع الرجل نفسه لله عوضا عن الجنة يسمّى بيعة، فالمبيع نفس الإنسان، والثمن الجنة، البائع إنسان، والله المشتري. ومن المعروف أن المبيع يخرج من يد البائع وينتقل إلى المشتري بعد نقد الثمن، حتى يتصرف فيه كما يشاء، كذلك المؤمن بعد البيعة لا يمتلك نفسه، فالواجب عليه أن لا يتصرف فيها من عنده.
والبيعة لا تكون مع الله مباشرة، إنما تنعقد بواسطة أنبياءه ورسله وورثتهم، فصحابة رسول الله · بايعوا النبي ·، ولكنها كانت بيعة مع الله، وكان النبي · وكيلا وكفيلا.
قال الله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم}.
والأصل في البيع والشراء أن المبيع إن كان معيوبا، يخيّر المشتري في رده على البائع واسترداد ثمنه، وهذا ما يسمّى بخيار العيب في مصطلح الشرع، أما إن قال المشتري وقت العقد: رضيت به، فلا خيار له، ولا يجوز له استرداد الثمن بإرجاع المبيع إلى البائع، والصحابة رضي الله عنهم لما بايعوا تحت الشجرة، أنزل الله تعالى هذه الآية: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}.
وبعدما أعلن الله بما أعلن كأنه أسقط خيار العيب، وأن العقد قد اُبرم، يدخلهم الله جناته، وتقبل منهم أنفسهم وأرواحهم، فلا انفساخ لها لأحد، ومن جهة ثانية أبدى الصحابة فرحهم وسعادتهم على البيعة.. {رضي الله عنهم ورضوا عنه}.
وبما أن موافقة الجانبين قد تحققت، لذلك نجز العقد، أما بيعة غيرهم من الناس فهي مهددة بالخطر، إذ يمكن ردها لعيب، ومن يكون أشقى ممن أقدم على نقضها بنفسه، كما جاء أعرابي إلى النبي ·، وقال: أقلني بيعتي.
إن أقدم على البيعة بقلب صادق، مثل قلوب الصحابة، وبالرضا الذي يغمر قلوب الصحابة، فإننا نرجو الله تعالى أن يقبلها بفضله ورحمته كما قبل من الصحابة يوم بيعة الرضوان.

وباختصار..

لقد رضي الله عن الصحابة الذين بايعوا النبي ·، وأنزل السكينة والطمأنينة في قلوبهم، ووعدهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة، كما قال الله تعالى:
{لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما}.
وأطلق كلمة «الفوز العظيم» على البيعة في سورة التوبة، كما قال: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم}.
لقد ثبت عن رسول الله · أنه كان يبايع الناس على الإسلام أو الهجرة أو ترك المناكير، أو عدم الإشراك بالله، أو على أن لا يزني ولا يسرق، ولا يبهتّ، ولا يعصي الله، أو على أن يعبد الله، ويقيم الصلوات الخمسة، ويؤتي الزكاة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينصح لكل مسلم، أو على طاعة الأمير والوالي ما لم يأمرا بمعصية الله، أو على عدم التسوّل، أو على البرّ بالوالدين، وغيرها كثير من الأمور، ثبت ذلك بالآيات والأحاديث.
(13) وفي ضرب النبي · يساره على يمينه عن عثمان بن عفان دليل على جواز البيعة الغائبة.
(14) بايع سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، فدل على استحباب تجديد وتكرار البيعة.
(15) لقد أعلن الله رضوانه عن كل من شهد البيعة يوم الحديبية، ولم يقيد، كما قال تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم} فيها إشارة إلى إخلاص نياتهم. ثم قال: {فأنزل السكينة عليهم} فيها بيان لطمأنينة قلوبهم، بأن القلق والاضطراب لم يقترب منهم. ولاشك أن من رضى الله عنه، وأنزل السكينة على قلبه، فليس بمنافق الآن، ولا يمكن أن يرتد فيما تأتي من الأيام، وقد ورد كثير من فضلهم في الأحاديث، فقد أخرج أحمد في مسنده عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.
كما دل قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم} على إخلاص نياتهم، وأنهم كانوا مرضيّين عند الله.
ليقرأ أعداء الصحابة قوله {فعلم ما في قلوبهم} بكل تأنّ ، وليُدركوا مدى الإخلاص الذي كانوا يتحلّون به، ودقّة الكلمات التي عبّر الله تعالى بها وضعهم الإيماني، لم يكن عملهم هذا بناء على التقية، إذ لو كان لما خفي على ربهم، إنما كان بغاية الإخلاص وصدق النيّة. ولا يبقى احتمال التقية بعد التصريح بلفظ {فعلم ما في قلوبهم} لأن الله سبحانه وتعالى شهد على إخلاص نياتهم، فلا مجال للنفاق والتقية. ثم قال {وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة} وبه امتد الكلام إلى بعيد، ليشمل فتح خيبر و{مغانم كثيرة} الفتوح الأخرى، وهذا الوعد كان مع أولئك المخلصين، ودلت الآية على أن الذين تم تقسيم المغام المذكورة عليهم، كانوا من عباد الله المخلصين المرضيّين عنده.

فتح كبير وثورة نفسية:

روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: ليس في الإسلام فتح أعظم من فتح الحديبية، لكن الناس لا يدركون تلك الحقائق التي كانت بين النبي · وبين ربه، خُلق الإنسان من عجل، ولا يستعجل الله لاستعجال عباده، فلا تظهر إلا في وقتها.
ولقد رأيت سهيل بن عمرو بعدما أسلم واقفا بالمنحر، يناول النبي · الهدي فيذبحها النبي · بيده، ثم طلب سهيل بن عمرو الحلاق ليحلق رأس النبي ·، فرأيت سهيل بن عمرو لا يسقط شيء من شعر رسول الله · إلا أخذه ووضعه على عينيه، فكنتُ أتذكر معاملته القاسية مع رسول الله · يوم الحديبية، إذ كتب الكاتب بسم الله الرحمن الرحيم، فلم يقبله وأمر بمحوه، ثم لما كتب الكاتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، ثم طلب محوه، حتى محاه النبي · بيده، فتذكرتُ تلك الوقائع، وشكرت الله الذي وفّقه للإسلام. (سيرة المصطفى والسيرة الحلبية ومعارف القرآن)