{سورة الفتح مدنية، الآية 1}


{بسم الله الرحمن الرحيم}
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)}.

ملخص معاني الآية:

لقد فتح الله أبواب الانتصارات والفتوح على رسوله بوقعة الحديبية، فقد مهّدت الطريق للفتوح المقبلة، التي من أبرزها فتح مكة التي اشتهرت بالفتح المبين.

بعض أبرز المباحث:

سوف نتناول في ثنايا تفسير سورة الفتح المباحث المهمة التالية:
(1) وجه المناسبة بين سورة الفتح وسورة محمد.
(2) سبب نزول سورة الفتح والآية الكريمة.
(3) ما الذي أراد الله بقوله {إنّا فتحنا لك فتحا مبينا}؟ وما وجه تسميته بالفتح المبين؟

المناسبة بين سورة الفتح وسورة محمد:

(1) في آخر سورة محمد · رغّب الله تعالى في الإنفاق في الجهاد، وقال : {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} وهنا في أول سورة الفتح أوضح أن الفتوح والانتصارات العظيمة التي تحققت للنبي · وصحابته إنما كانت بفضل ما أنفقوا من الأموال في سبيل الله، وقد حصلوا على أكثر مما بذلوا، فلو تخلّفوا عن الإنفاق لما تحققت لهم الانتصارات العظيمة.
وفي التفسير الحقاني:
قال في سورة محمد {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} فَلِمَ تبخلون في الإنفاق في سبيل الله، وقد كتبنا لكم فتحا، تجدون فيه أكثر مما تنفقون. (الحقاني، بتسهيل)
وقال الإمام الرازي:
«والأول مناسب لآخر ما قبلها من وجوه (أحدها) أنه تعالى لما قال {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى أن قال {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} بيّن تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم، وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا، ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم». (التفسير الكبير)

ملحوظة:

(1) لقد توصلنا من خلال معرفة وجه الارتباط بين السورتين أن المسلمين كلّما أنفقوا أموالا طائلة في الجهاد، عادت عليهم بالفتح والنصر والتمكين والرفاهية، أما إن كان اهتمامهم بكسب المال وادخاره أكثر من اهتمامهم بالجهاد، وكفّوا أيديهم عن البذل، جرّ عليهم الويلات. راجعوا ما عليه المسلمون اليوم من ذُلّ وهوان لتخلفهم عن الجهاد واتخاذهم جمع المال غاية حياتهم.
(2) في السورة السابقة أمر بالجهاد، والقتال من أحد أسمائها، لكن ما الذي يجلب لهم القتال؟ هذا ما أشارت إليه سورة الفتح، بأن القتال يفتح لهم أبواب الفتح والنصر. والمسلمون اليوم إن أرادوا أن تتحقق لهم الانتصارات والفتوح فما عليهم إلا أن يحيوا فريضة الجهاد في سبيل الله، إذ القتال يدق أبواب الفتح.
قال العلامة الآلوسي رحمه الله:
«ولا يخفى حسن وضعها هنا، لأن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال». (روح المعاني)
(3) أشار في سورة محمد · إلى أن الجماعة التي على الحق هي ما آمنت بمحمد · واتخذته إماما وقدوة لها، ثم أكّد على أن المسلمين على الحق، لأنهم لا يتخذون غير محمد · نبيا ورسولا وإماما، وهكذا تم تشكيل جماعة المسلمين، وتقرر لها أميرها، فجلبت الفتح والنصر ببيعة الرضوان، بعدما بايعوا رسول الله · على الجهاد والموت.
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)}. (والله أعلم بالصواب)
(4) لقد نهى الله المسلمين من التهاون والتكاسل في الجهاد في سورة محمد ·، فلا يهنوا حتى يدعوا إلى السلم، بل طُولبوا بالثبات والقوة فيه. وفي سورة الفتح أكّد على أن المسلمين لا يتثبتّون بالجهاد والحق إلا خضع المشركون للصلح، كما حدث ذلك يوم الحديبية، فقد بايع المسلمون رسول الله · على الموت، حتى اُرعب المشركون، وجاءوا إلى النبي · يدعونه إلى الصلح، الذي جلب لهم الكثير من الفتح والنصر.
قال الإمام الرازي رحمه الله:
لما قال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} وكان معناه لا تسئلوا الصلح من عندكم، بل اصبروا فإنهم يسئلون الصلح ويجتهدون منه كما كان يوم الحديبية، وهو المراد بالفتح في أحد الوجوه، وكما كان فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين مؤمنين مسلمين. (التفسير الكبير)
(5) قال في سورة محمد {والله معكم} وقال {وأنتم الأعلون} وفي هذه السورة برهَنَ عليها بالفتح الذي آذن عنه بقوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا}، وفيه دليل على أن الله معهم.
قال الإمام الرازي رحمه الله:
لما قال {والله معكم} وقال {وأنتم الأعلون} بيّن برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون. (التفسير الكبير)
وهناك وجوه أخرى كثيرة، ذكرها المفسرون حول ارتباط السورتين بعضهما ببعض، وعلى الراغبين من طلبة العلم مراجعة البحر المحيط، وروح المعاني وغيرهما.

سبب النزول:

نزلت هذه السورة بكاملها بشأن وقعة الحديبية في الطريق بين مكة والمدينة، كما قال القرطبي رحمه الله:
«نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أوّلها إلى آخرها». (القرطبي)
عن أنس بن مالك، قال: "لما رجعنا من غزوة الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، قال: فنحن بين الحزن والكآبة، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) ، أو كما شاء الله، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لَقَدْ أُنزلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إلي مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعا". (صحيح مسلم، القرطبي)
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح، حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قال: فسألته عن شيء - ثلاث مرات- فلم يرد علي، قال: فقلت لنفسي: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك؟ قال: فركبت راحلتي فتقدمت مخافة أن يكون نزل في شيء، قال: فإذا أنا بمناد ينادي: يا عمر، أين عمر؟ قال: فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } .
ورواه البخاري، والترمذي، والنسائي من طرق، عن مالك، رحمه الله ، وقال علي بن المديني: هذا إسناد مديني [جيد] لم نجده إلا عندهم.

أي فتح أراد؟

قال الله تعالى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } .
فأي فتح أراد؟ فيه أقوال:
(1) وقعة الحديبية بأكملها كانت بمثابة فتح عظيم للمسلمين.
(2) بيعة الرضوان التي تحققت في وقعة الحديبية.
(3) أراد به فتح مكة الذي يمثّل فتحا مبينا.
(4) أراد به فتح خيبر.
(5) أراد بالفتح هنا القضاء، أي قضينا أنكَ تدخل مكة في العام القابل.
(6) أراد به غلبة الإسلام وانتصاره، بالأدلة والبراهين، والسيف والسنان.
(7) أراد به فتح بلاد الروم والفتوح الأخرى، فالمسلمون ضربوا أروع أمثلة للشجاعة والهمة والشوق والطاعة والصبر والوفاء ووحدة الكلمة يوم الحديبية، وببركتها فتح الله عليهم أبواب الفتوح، اندفعوا إلى بلد الأعداء بعدما أمرهم النبي · به، لا يطاردهم خوف، ولمّا عزم المشركون على النضال أمرهم بالصبر والتهدئة، فأطاعوه. ثم طُولبوا بالبيعة على الجهاد والموت، فاندفعوا إليها، ثم اُمروا بالإذعان لبنود الصلح، فسمعوا وأطاعوا. ثم قيل لهم ارجعوا بدون عمرة، ففعلوا كما اُمروا. بايعوا على الموت فقيل لهم: تُصالحون ولا تُقاتلون، فانقادوا له. فهذه بعض أروع النماذج التي ضربوها للشجاعة والإذعان ووحدة الكلمة، التي برهنت على أهليتهم لتولّي قيادة العالم وسيادته، لذلك قال الله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا}. (والله أعلم بالصواب)
وفيما يلي لاحظوا بعض نصوص المفسرين بشأن ما ذكرنا من الأقوال.

فتح الحديبية:

(1) قال أنس بن مالك رضي الله عنه: أراد بالفتح المبين الحديبية. (البخاري، والقرطبي)
(2) وقال النسفي رحمه الله:
«وقيل هو فتح الحديبية ولم يكن فيه قتال شديد ولكن ترام بين القوم بسهام وحجارة، فرمى المسلمون المشركين حتى أدخلوهم ديارهم، وسألوا الصلح فكان فتحا مبينا». (المدارك)
وقال مجاهد: كان فتح الحديبية آية عظيمة. (القرطبي)
(4) وقال موسى بن عقبة:
أخرج البيهقي عن عروة قال : " أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا وعكف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجاً فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال : بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادكم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في إخراجكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون؟ قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا ". (القرطبي والبيهقي)
(5) وقال الضحاك: {إنّا فتحنا لك فتحا مبينا} بغير قتال وكان الصلح من الفتح. (القرطبي)
(6) وقال الشعبي:
كانت الحديبية فتحا مبينا للمسلمين، فقد تحقق لهم فيها ما لم تتحقق في غيرها من الغزوات، ففيها غفر الله لنبيه ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، وفيها كانت بيعة الرضوان، وفيها أكل المسلمون تمور خيبر، وبلغت الهدي إلى مواضعها، وغلب الروم على الفُرس، وفرح المسلمون بانتصار الروميين أهل الكتاب على المجوس. (القرطبي)
(7) قال الزهري:
كانت الحديبية من أعظم الفتوح، فقد خرج النبي · ومعه ألف وأربعمائة مسلم، وبعد الصلح وجدوا فرصة للقاءات، وسمع المشركون كلام الله، وعرفوه، ومن أراد أن يسلم منهم لم يجد أمامه عائقا، وبعد سنتين منها خرج النبي · إلى مكة لفتحها ومعه عشرة آلاف مسلمين. (أي زاد عددهم وقوتهم) (القرطبي)
(8) قال مجمع بن جارية رضي الله عنه:
قال النبي ·: "والذي نفس محمد بيده، إنه لفتح". (القرطبي، المستدرك)

ملحوظة:

قال البيضاوي:
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } وعد بفتح مكة ، والتعبير عنه بالماضي لتحققه أو بما اتفق له في تلك السنة كفتح خيبر وفدك ، أو إخبار عن صلح الحديبية وإنما سماه فتحاً لأنه كان بعد ظهوره على المشركين حتى سألوا الصلح وتسبب لفتح مكة ، وفرغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم لسائر العرب فغزاهم وفتح مواضع وأدخل في الإِسلام خلقاً عظيماً.
(10) أخرج ابن كثير وأبو داود وغيره من أهل العلم في هذا الموضع الحديث التالي:
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا مُجَمِّعُ بن يعقوب، قال: سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن أبي يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري - وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن - قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } ، قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله، وفتح هو؟ قال: "إي والذي نفس محمد بيده، إنه لفتح". فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهما.
رواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى، عن مجمع بن يعقوب، به.
وقال ابن كثير:
فقوله: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } أي: بينا ظاهرا، والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان.

القول الثاني

بيعة الرضوان وفتح مبين:

أخرج الإمام البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:
قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر. فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم تمضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا. (صحيح البخاري)

القول الثالث

فتح مكة فتح مبين:

قال عدد من أهل العلم: أراد بالفتح المبين فتح مكة، قال الإمام أبو بكر الجصاص:
والأظهر أنه فتح مكة بالغلبة والقهر.
وقال القرطبي: وقيل إن قوله تعالى {فتحا} يدل على أن مكة فتحت عنوة، لأن اسم الفتح لا يقع مطلقا إلا على فتح عنوةً. (القرطبي)
وفي التفسير المظهري:
أخرج أبو جعفر الرازي عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أنه أراد به فتح مكة، أي وعدهم بفتح مكة، فقد كان فتحها مؤكّدا لذلك استخدم صيغة الماضي، لتأكّد وقوعه، فكأنّ الله فتح عليهم مكة. وعلى هذا القول تُعد هذه الآية من المعجزات.  (المظهري)
وقال الرازي:
في الفتح وجوه : أحدها : فتح مكة وهو ظاهر - والمختار من كل الوجوه - أحدها : فتح مكة ، والثاني : فتح الحديبية ، والثالث : فتح الإسلام بالآية والبيان والحجة والبرهان . والأول مناسب لآخر ما قبلها من وجوه.
وهذا الذي رجّحه النسفي على غيره من الأقوال:
«ثم قيل هو فتح مكة وقد نزلت فرجع رسول الله · عن مكة عام الحديبية عدة له بالفتح، وجنى به على لفظ الماضي لأنها في تحققها بمنزلة الكائنة». (المدارك)

أقوال أخرى

ولمعرفة بقية الأقوال في تحديد الفتح المبين يُرجى مراجعة تفسير القرطبي والتفسير الكبير، والبحر المحيط وروح المعاني.

وقعة الحديبية باب الفتوح:

ففي التفسير العثماني:
في الظاهر يبدو صلح الحديبية صلح الذل والهوان، وبقراءة بنود الصلح يظهر أن المشركين كسبوا المعركة، وأن المسلمين خسروها، حتى ثار عمر بن الخطاب وغيره بما لاحظوا فيها من ذل وعار لهم، كانوا يزعمون أن جماعة المشركين وأنصارهم أمام جحافل المسلمين المكونة من ألف وأربعمائة مسلم ليسوا إلا هدفا سهلا، فلماذا لا يُعمل النبي · السيف لحسم النزاعات كلها؟ لكن عيون النبي · كانت تنظر تلك النتائج الباهرة التي خفيت على كثير منهم، وقد فتح الله تعالى صدره لمواجهة أحلك الملحمات، فقد كان يقبل منهم كافة الشروط بصدر رحب وقلب واع متوكلا على الله ومستغنيا عن غيره، وظلّ يطمّن أصحابه بقوله: الله ورسوله أعلم. حتى نزلت هذه السورة، وسمّى الله فيها الصلح بالفتح المبين، وكان الناس يستغربونها، يقولون: أهذا فتح؟ فأجابهم إي نعم هو أعظم الفتوح، والواقع إن مبايعة الصحابة على الموت، والمناوشات الطفيفة التي حصلت بين الطرفين من تراشق الحجارة أدخلت الرُعب في قلوب المشركين، حتى مالوا إلى الصلح، كما تعامل النبي · بالعفو والتغاضي رغم قدرته على الحرب والانتقام، وعدم ثورانه على هفواتهم رعاية لحرمة الكعبة بيت الله الحرام، كل هذه وتلك إن كانت تستنزل رحمة الله ورضوانه، فإنها في جانب آخر كانت ترسخ في قلوب المشركين دعائم أخلاق الإسلام العالية وقوّته الروحية ونبوة محمد · العظيمة. إن كانت بنود الصلح تبدو للسطحيين هزيمة للمسلمين، فإن من تأملها بقلب واع في حالة نفسية مستقرة هادئة أدرك أنها كانت في صالح رسول الله · والمؤمنين. وقد نبّه الله تعالى بتسميته بالفتح المبين على أنه فتح وقت عقده، وفتح فيما بعده، إذ هو باب لفتوح كثيرة ظاهرة وباطنة فيما تأتي من الأيام. وقد كسر الصلح حاجز التباعد والتفارق فقد تيسر لهم بفضله التحاور والتحدث والاطلاع على محاسن الإسلام ودعوته، كان المشركون يستمعون إلى المسلمين وهم يشرحون لهم الإسلام، ويشاهدون أحوال المسلمين وأعمالهم، فتميل قلوبهم إليه، حتى دخلوا في دين الله أفواجا، ودخل من الناس في الإسلام خلال سنتين من الحديبية إلى فتح مكة ما لم يدخل قبلها قط، فقد أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، فكان فتحا للقلوب. ومن بركاتها أنها مهّدت الطريق لفتح مكة وتطهيرها من براثن الكفر والشرك إلى الأبد، لم يكن مع النبي · يوم الحديبية أكثر من ألف وأربعمائة مسلم، أما يوم فتح مكة فقد كانوا أكثر من عشرة آلاف مسلم. والواقع إن صلح الحديبية لم يكن يمثّل أساساً ومرجعا لفتح مكة وخيبر فحسب، بل لسائر الفتوح التي تحققت لهم على مرّ الدهور. (التفسير العثماني)

أدلة على صدق الإسلام:

وفي التفسير الحقاني:
قال ابن جرير الطبري في تفسيره:
توجه النبي · إلى مكة سنة ست من الهجرة لأداء مناسك العمرة، فصده المشركون بالحديبية، واتفقوا على أنه يعتمر من العام القابل، فنحر النبي · هديه، وقد حزن بذلك العديد من أصحابه، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما قفل عائدا إلى المدينة، نزلت سورة الفتح، التي حملت البشائر إلى المهمومين المغمومين من المسلمين بأن الصلح المبرم في الحديبية ليس إلا فتحاً لكم، كما أخرج البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: كنتم تعدّون فتح مكة فتحا، ونحن نعد بيعة الرضوان فتحا.
وقد تعددت أقوال أهل العلم في «الفتح المبين» الذي ذكرته الآية، قالوا: لاشك أن فتح مكة لم يتحقق وقت النزول، لكن القرآن يذكر الأمور اليقينية بلفظ الماضي عادة. وقيل: هو فتح بلاد الروم وغيرها التي تحققت للمسلمين بعد نزول هذه السورة على التوالي، كما فُتحت خيبر، وسقطت بلاد شاسعة على أيدي المسلمين، منها اليمن، وتتالى الخراج على المدينة. وقيل: هو البراهين والحجج الإسلامية، وقيل: صلح الحديبية الذي مهّد الطريق لكثير من الفتوح، ولا تعارض بين هذه الأقوال، فكلها صحيحة وتشملها الآية.
لاشك أن المسلمين اُصيبوا بغمّ بصلح الحديبية، فقد صدّ المشركون رسول الله · والمسلمين من دخول مكة، وتمكن المشركون من تأجيل العمرة للقادم، وكل هذه تشير إلى أن المسلمين وقعوا تحت ضغوط، أما النبي · فقد اختار اللين والرفق على القتال والنضال، ففتح الله عليهم أبواب الفتوح، فقد فُتحت خيبر بعد أيام، والذي أزال الفقر والجوع عن أهل المدينة، ثم تتالت الفتوح عليهم، وتفاصيلها في كتب التاريخ. فهذه الانتصارات المتتالية التي تحققت للمسلمين لهي أكبر دليل على أن الدين عند الله الإسلام، وأن محمداً من أنبياء الله المقربين، لأنه إن كان كاذبا، لما تحققت له الانتصارات، كما ورد في التوراة، سفر استثناء. (التفسير الحقاني)

جديرون بالفتوح:

بالتأمل في قصة الحديبية يتضح أن المسلمين كانوا أهلا للفتوح، وأن من حقهم أن يحكموا على مكة وسائر بلاد العرب والروم وفارس. في وقعة الحديبية اُبتلي المؤمنون ابتلاء شديداً، لكنهم ثبتوا مع الحق ولم تتزلزل أقدامهم، وما حصلت منهم غير احتجاجات طفيفة التي لم تتجاوز حد الكلام، وكل هذه مؤشرات على أنهم تكوّنوا جماعة صالحة كاملة ومنتظمة، كما قال الله تعالى:
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء 105).
وفي التفسير العثماني: لقد وعد الله بعباده الأوفياء أنهم يرثون الأرض ويسعدون في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى:
{إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف الآية 128).
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ}. (النور الآية 55).
وعد مقطوع ومحسوم، أخبر عنه في كتبه الشرعية والقدرية، كتبه في «اللوح المحفوظ» و«أم الكتاب» ، وأعلن به على لسان الأنبياء والمرسلين، فقد جاء في الزبور الذي أنزله الله على داود عليه السلام: «إن الأرض يرثها الصادقون».
فقد آل الحكم إلى الكاملين الصادقين الأوفياء من هذه الأمة، وحكموا عليها قرونا، وأقاموا عليها ملكوتا سماوية، تنعم بالرخاء والعدل والإنصاف، وانتشر دين الحق في العالم كله. وهكذا تحققت النبوءات المحمدية على أيدي أمته.
فقد قال ·: «إن الله تعالى زوّى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها».
وسوف تتحقق مثل هذه التنبّؤات في عهد الإمام المهدي والمسيح عليهما السلام. (التفسير العثماني)
ويوم الحديبية أثبت أصحاب رسول الله · أنهم الأجدر لتولي حكم العالم، وأنهم الصادقون الأوفياء، فقال تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا}. (والله أعلم بالصواب)

من الحديبية إلى الفتح:

(1) أثبتت وقعة الحديبية أن جماعة النبي · هي جماعة قوية متلاحمة ومتماسكة، كما ظهر شقاق المشركين ونزاعهم في كل مناسبة.
(2) لم تتحقق - في الظاهر - الرؤيا التي رآها النبي · رغم شقة السفر وطوله، وكان من الممكن أن يُدخل الريب في قلوبهم، لكنهم لم يترددوا في التصديق. ولمّا قيل لهم إن الرؤياء صادقة، ولم يأت وقتها بعدُ، صدّقوه، وبرهنوا على كمال إيمانهم.
(3) أمرهم النبي · بالدفاع عن أنفسهم رداً على المناوشات التي تعرضوا لها من المشركين، ومن الصعب التمييز بين الدفاع والهجوم في الحرب، لكن الصحابة أثبتوا بعملهم أنهم أوفياء طايعون، فقد كانوا يقبضون على المهاجمين من المشركين، لكن حماسهم لم يحملهم على قتلهم.
(4) إن من الصعب القتال بعيدا عن الوطن والمعقل وقريبا من بلاد العدو، خاصة لم يكن خروجهم بنية القتال، كانوا مُحرمين، لا يحملون معهم عُدّة الحرب، لكنهم لمّا نودوا للبيعة على الجهاد والموت، اندفعوا إليها مستميتين، مبايعين على الموت متسابقين إليها، فهي إن دلت على شيء فإنها تدل على كمال شجاعتهم، وأنهم لا يخافون أحداً إلا الله، وأنهم يشتاقون إلى الشهادة.
(5) عرض المشركون على عثمان أن يطوف بالبيت ويعتمر، وكان محرما، فكانت الفرصة سانحة له ليستفيد من أنوار الحرم وبركاته، وتأدية واجب الإحرام، لكنه رفض، وقال: لن أعتمر ما لم يعتمر رسول الله · مع أصحابه، فهذا إن دل على شيء فإنه يدل على كمالهم في التلاحم والتوافق وجمع الكلمة ونبذ الفُرقة، يُفضّلون المصلحة الجماعية على المصالح الشخصية.
(6) بلغ المسلمين أن عثمان قُتل، فدعاهم النبي · للبيعة، فاندفعوا إليها بكل حماس ورغبة، واستعدت هذه الجماعة المقدسة المكونة بألف وأربعمائة شخص للثأر لدم مسلم واحد. فهذا إن دل على شيء فإنه يدل على كمالهم في التوحّد والتكاتف ونبذ الفرقة.
(7) وبعد بلوغ الحماس أوج صعوده، يصعب عادة إرجاعه إلى ما كان عليه، كانوا قد بايعوا على الموت، واستعدوا استعدادا كاملا للموت، فقيل لهم: ارجعوا وعودوا إلى ما كنتم عليه، فسمعوا وأطاعوا. وهذا دليل على أن عقولهم وقلوبهم وحماسهم وانفعالاتهم كانت تابعة للشريعة، واختلطت بدمهم ولحمهم فكانت طبيعتهم ومزاجهم. إن كانوا قادرين على المُضي قُدما للتنفيذ، فقد كانوا قادرين على التوقف عن التنفيذ عند المنع، ومن هنا عرفنا أن المؤمن الكامل من كان قادرا على التقدم والتراجع. أما الغبي فمن لم يتحكم على نفسه أمام تيّار الحماس والانفعال. فصحابة رسول الله · لمّا تلقوا الأوامر بالقتال بايعوا على الموت واستماتوا، ثم لما أمرهم بالتوقف لم يتخذوه قضية الذات والأنانية، بل توقفوا فوراً إذعانا للأمر، كأنهم ما استعدوا للقتال قطّ. رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه.
(8) كان أبو جندل من المسلمين المستضعفين، وقد استطاع أن ينفلت من أيدي المشركين الذين كانوا يعذّبونه وينكّلون به، ووصل إلى الحديبية، فاستجار المسلمين. فكان من الصعب عليهم رده، إذ كانوا يسعون إلى إطلاق أسرى المسلمين ويقلقون لمستقبلهم، يدعون لهم بالمسجد النبوي الشريف أدعية خاصة، والآن وقد وجدوا أحد أسراهم بين أيديهم، فجاشت في قلوبهم مشاعر الحمية والإيثار الزكية، لكن المشركين أصرّوا على أن من بنود الصلح رد من يصل إلى المسلمين من مكة بدون إذن أهله، فأمر النبي · برده، فأذعن أبو جندل لأمره، وسلمه المسلمون إلى المشركين بعيون مبتلة.
فيه دلالة على أن المسلمين بلغوا غاية النُضج والكمال في المحافظة على العهود والمواثيق، كما وصلوا منتهى الكمال في الاهتمام بالانتظام والانضباط، فكانت فيهم الكفاءة الكاملة لتولّي قيادة العالم وخلافة الله في الأرض، إذ كل من يركع لضغطة بسيطة وانفعالات لا يجد من الكفاءة ما تؤهّله لحمل أعباء القيادة.
(9) وبعد إبرام الصلح كانوا يئنّون تحت وطأة الابتلاءات والمحن التي تعرضوا لها، كأنهم فقدوا وعيهم، حتى لما قيل: انحروا هديكم واحلقوا رؤوسكم كأنهم ما سمعوها، فقد هيمنت على أذهانهم ونفوسهم هزيمة المسلمين الظاهرة وانتصار المشركين البادية، لكن الله منع عيونهم من تلك الانعكاسات، حتى لمّا رأوا رسول الله · ينحر هديه ويحلق رأسه، أدركوا غرض رسول الله وحبيبه، وانتشرت تيارات السمع والطاعة في كيانهم ووجدانهم، فتسارعوا إلى النحر، وتساقطوا على شعره الذي كان يحلقه ليظفروا بنصيبهم. فهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أنهم بلغوا غاية النضج والكمال في استعادة النفس وإعادة الاعتبار بأنفسهم، إذ أقدام المرء تنزلق مرارا في محك الحياة، فالبعض لا يقدر على استعادة النفس وإصلاح الحال، فيلاحقه الفشل حتى يفارق حياته. أما المؤمنون فإنهم يتثبتّون بفضل من الله وتوفيقه، فإن سقطوا قاموا، وما بقوا عليه، وصحابة رسول الله · برهنوا بعملهم أنهم كانوا كذلك. لقد أخطأ آدم عليه السلام، فهبط على الأرض، لكنه لم يضيّع الوقت ما بين الخطأ والاستغفار، فسارع إلى التوبة وإصلاح الحال وإعادة الاعتبار، فتأهّل للجنة مرة ثانية، وهذا ما يحصل مع أولاده، فمن كان منهم على نهج أبيهم لم يتأخر في التوبة واستعادة الأحوال، وكان صحابة رسول الله · بلغوا مرتبة الكمال بين بقية أولاد آدم، إذ منزلتهم بعد منزلة الأنبياء والمرسلين.
(10) قد ينجح المرء في الامتحان الصعب والابتلاء، لكن آثاره لا تفارقه مدى الحياة، ولا تتسارع إليه مشاعر الفرح والسرور إلا بعد مدة، لكن صحابة رسول الله · قد نجحوا في التحكم على انفعالاتهم وأحاسيسهم، فعادوا إلى المدينة ونفوسهم لا تزال تتأوّه بأعباء العديد من البليات والمِحَن، حتى نزلت سورة الفتح في الطريق، وأخبرتهم أنه فتح وليس بهزيمة، رغم عدم تواجد معالم الفتح وآثاره حسب الظاهر، لكنهم أذعنوا لها وصدّقوها، وسرت أسارير المسرة في محيّاهم حتى بادروا إلى تهنئة النبي · وتبريكه بما غفر الله له من ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر. (والله أعلم بالصواب)

انتصار عظيم للنبي   ·:

دلت الأمور العشرة التي أسلفناها آنفا على نضج الصحابة واكتمالهم، والفضل في ذلك عائد إلى رسول الله ·، الذي استطاع أن يُعدّ جماعة متكاملة متزنة. لم يكن لينجح في إعدادها لو لا فضل الله عليه ثم جهوده التي بذلها، والتربية الناجحة التي أسداها إليهم، فقد عادت هذه الجماعة إلى المدينة بعد أن أرضت ربها بالحديبية، ونجحت فيها، حتى بشّر الله تعالى إمامها ومربيها محمداً · بقوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} بأن فتحنا لك أبواب الفتوح والانتصارات من اليوم، فلا يقدر أحد على عرقلة طريق هذا الدين بعد اليوم، وكان هذا من أعظم النداءات وأبهرها حتى قال النبي ·: لقد أنزلت اليوم عليّ سورة هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها. (والله أعلم بالصواب)

قريش تضطر إلى المصالحة:

قال الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله:
لقد أدركت قريش بوتيرة عمل الإسلام وسلوكياته أنه لن يركن للباطل، وأن الجيش الذي يرافق النبي · ليس كعامة جيوش الملوك والقادة، بل هو جيش الفدائيين المستميتين المحبين، بلغ حبهم بالنبي · لدرجة أنهم كانوا يتسارعون إلى ما يتساقط من وضوئه ليجعلوه على وجوههم وأجسادهم، وإذا تكلم أنصتوا كأن على رؤوسهم الطير، فلما رأت قريش تلك أدركت أنه ليس بملك، إنما هو رسول الله المبجّل الذي لا محبوب بعده، وأن جماعة الصحابة التي أحاطت به لا محب بعدها، وأدركت أنه لا طاقة لها بقتالها، حتى بادرت إلى الصلح، وفتر جنون العداء الذي سيطر على عقولهم ونفوسهم منذ عشرين سنة. والصلح بمعنى الاستسلام في مصطلح اليوم، فقد كانت قريش تتكابر في العلن، وتتخوّف من المسلمين في الباطن، أما النبي · فكان قلبه هادئا مطمئنا، لذلك كان يتجاوب مع كافة شروطهم وبنودهم، إذ كان يعلم أنها قضية آنية ثم تزول. (معارف القرآن للكاندهلوي)

مأساة:

إن العديد من المثقفين اليوم يستدلون بصلح الحديبية لمنع المسلمين عن الجهاد، ويشيرون على المسلمين بالخنوع للكفار، ألا يدركون أن وقعة الحديبية ليست إلا نجما متلالئا في سماء الجهاد، إذ سبقت صلح الحديبية بيعة الرضوان التي تعاهدوا فيها على الجهاد طيلة حياتهم، تعاقبها جهاد خيبر وفتح مكة بالجهاد، فكيف يستدل هؤلاء الذين نسوا الجهاد بصلح الحديبية، لم يكن صلح الحديبية إلا صلح عزة الإسلام وشهامته، أما هؤلاء فإنهم يشبهون اتفاقيات الذل والعار بصلح الحديبية، أرجو منهم أن يتقوا الله في أنفسهم. (والله أعلم بالصواب)

فيها بشارة بفتح مكة بالجهاد:

وفي تفسير الجلالين:
{إنا فتحنا لك} قضينا بفتح مكة وغيرها عنوةً بجهادك {فتحا مبينا} بيّنا ظاهراً. (تفسير الجلالين)