{سورة الممتحنة مدنية، الآية 1}


{بسم الله الرحمن الرحيم}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)}.

ملخص معاني الآية:

(1) أولياء الله (المسلمون) لا يتخذون أعداء الله الكفار أولياء.
(2) لا يجوز موالاة الكفار والمشركين وإقامة روابط المحبة والمودة وإطلاعهم على أسرار المسلمين وخباياهم بنية المحافظة على المال والأهل.
(3) لا يتولى أحد أعداء الإسلام إلا ضلّ وغوى.

موضوع السورة المباركة:

موضوع هذه السورة الرئيسي هو مقاطعة الكفار. قال القرطبي رحمه الله : «السورة أصل في النهي عن موالاة الكفار». (القرطبي)
قال اللاهوري: موضوع هذه السورة الرئيسي هو مقاطعة الكفار. (حاشية اللاهوري)
لقد سعى القرطبي وابن كثير إلى حشد تلك الآيات التي تنهى عن موالاة الكفار ضمن تفسير هذه الآية، مثلاً:
الآية 28 من سورة آل عمران، والآية 118 من سورة آل عمران، والآية 51 من سورة المائدة، والآية 57 من سورة المائدة، والآية 144 من سورة النساء. (القرطبي وابن كثير)
قد يبتلي الله المؤمن في إيمانه بتلك الروابط والعلائق، إن كان مسلما كامل الإيمان، لن يوالى أعداءه، بل يقاتلهم، وبجهادهم يُبرهن على صدقه في إسلامه وإيمانه، فهذا موضوع مهم من موضوعات القرآن الكريم، وقد ساعد في تقدم المسلمين ورفع مكانتهم بين الأمم. وما أن تخلفوا عنه إلا وأحاطت بهم ليالي العبودية الحالكة. (والله أعلم بالصواب)

نزّهوا سلوكياتكم عن النفاق:

وفي التفسير الحقاني:
في سورة الحشر أشار الله تعالى إلى وتيرة المنافقين الوقحة، التي يجب الحذر منها، وفي هذه السورة يذم الله تعالى نهجهم ويقبّحه. (أي موالاة أعداء الإسلام سلوك نفاقي) (معنى ما ذكره الحقاني)

سبب النزول:

أشار الإمام البخاري ومسلم وغيره من علماء الحديث إلى قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى تحت سبب نزول هذه الآية، فيما يلي لاحظوها من ابن كثير:
كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن حاطبًا هذا كان رجلا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضًا، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفًا لعثمان. فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: "اللهم، عَمِّ عليهم خبرنا". فعمد حاطب هذا فكتب كتابًا، وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة، يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم [من غزوهم] ، ليتخذ بذلك عندهم يدًا، فأطلع الله رسوله على ذلك استجابة لدعائه. فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها، وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته. قال الإمام أحمد:
حدثنا سفيان، عن عَمْرو، أخبرني حَسَن بن محمد بن علي، أخبرني عُبَيد الله بن أبي رافع -وقال مرة: إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره: أنه سمع عليًا، رضي الله عنه، يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظَعِينة معها كتاب، فخذوه منها". فانطلقنا تَعَادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب. قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنُلقين الثياب. قال: فأخرجت الكتاب من عِقَاصها، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب، ما هذا؟". قال: لا تعجل علي، إني كنت امرأ مُلصَقًا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه صَدَقكم". فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "إنه قد شهد بدرًا، ما يدريك لَعَلّ الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجة، من غير وجه، عن سفيان بن عُيَينة، به. وزاد البخاري في كتاب "المغازي": فأنزل الله السورة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ }.
وهناك تفاصيل أخرى عن القصة، ذكرها البغوي والقرطبي وابن كثير، ومنها:
(1) من كانت هذه المرأة التي كانت تحمل الكتاب إلى المشركين، هي سارة أو امرأة من مزينة قبيلة عربية شهيرة.
(2) أكانت تلك المرأة التي استُثنيت يوم فتح مكة من عامة من شملهم العفو؟
(3) التعريف بحاطب بن أبي بلتعة أنه لم يكن من أهل مكة في الأصل، كان يمانيا، حليفا لعثمان بن عفان، كان يزعم أن المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهلهم ومالهم من المشركين، ولم يكن له أحد، إذ كان ملصقا فيهم، وعند نشوب الحرب يُستهدفون أهله أول ما يستهدفون.
(4) أسماء الصحابة  الفرسان الذين بعثهم لملاحقتها.
(5) حماس عمر بن الخطاب الإيماني، واستئذانه بضرب عنقه، ومنع النبي · له، وإشادته بكونه بدريا.
(6) أحاديث مغفرة البدريين، وقد أوضح الإمام أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن معنى هذا الحديث، وحدّد معنى مغفرة البدريين.
هذا وغيره كثير من التفاصيل لاحظوها عند القرطبي والبغوي وابن كثير وروح المعاني والتفسير المظهري باللغة الأردوية.
أما مرجع القصة فحديث البخاري الذي أخرجه عامة أهل الحديث، ونُقل إلى الأردوية في أنوار البيان، أما صاحب روح المعاني فقد ذكر نص كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين.

أربعة أسباب مقاطعة أعداء الإسلام:

قال الشيخ أحمد علي اللاهوري رحمه الله: هذه الآية أشارت إلى أربعة أسباب مقاطعة المشركين:
(1) لأنهم أعداء الله. (ولفظ «عدوّي» يشير إليه، إذ الكفار يعادون دين الله، ومن يعادي دين الله فهو عدو الله).
(2) لأنهم أعداء الرسول ·. (ولفظ «يُخرجون الرسول» يشير إليه).
(3) لأنهم أعداء القرآن. (ولفظ «وقد كفروا بما جاءكم من الحق» يشير إليه).
(4) لأنهم أعداءكم أنتم المسلمون. (ولفظ «عدوكم» يشير إليه).
ولهذه الأسباب الأربعة لا يجوز موالاتهم ظاهرا و باطنا. (معنى ما ذكره اللاهوري)

موطن العبرة والنصيحة:

تدبروا هذه الآية الكريمة، فهي سارية المفعول إلى يوم القيامة، ثم لاحظوا ولاء المسلمين للكفار..
(1) اتفاقيات تعاون عسكري بينهم.
(2) اتفاقيات تبادل المعلومات الاستخبارية عن المجاهدين.
(3) اتفاقيات تقديم تسهيلات عسكرية للكفار.
رحمنا الله، رغم ما أكّد القرآن على عداءهم لله وللرسول والقرآن ولكم، ثم ولاءهم وودادهم ليس إلا خسران الدنيا والآخرة. (والله أعلم بالصواب)

إن كنتم مجاهدون مخلصون:

قال الله تعالى: {إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي}..
وفي روح المعاني: «لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي».
وفي التفسير العثماني:
«إن كان خروجكم من بيتكم، لابتغاء مرضاتي والجهاد في سبيلي، مخلصين الدين لي، بحيث ما عاديتم هؤلاء إلا طلبا لمرضاتي، فما معنى ارتباطكم برباط المودة والولاء معهم؟ هل أردتم إرضاء من عاديتموهم طلبا لمرضاتي بسخطي؟ نسأل الله العافية.

ومن شروط الإيمان التبرّي من أعداء الإسلام:

قال الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله:
إن كان حب الله ورسوله والمؤمنين من مستلزمات الإيمان، كذلك التبرّي من أعداء الله ورسوله والنفور وعداءهم من مستلزمات الإيمان. (البداية والنهاية 4/3)
«لا يصدق أحد في التودد إن لم يكن يعادي الأعداء، وللتفصيل ارجعوا إلى مكتوبات الشيخ العارف الرباني مجدد الألفية الثانية، فمجرد التصديق لا يكفي للإيمان، بدون التبرّي من الكفر والكفار. وهذا هو المنقول عن الإمام محمد «التبرّي من الكفر والكفار من مستلزمات الإيمان». (سيرة المصطفى 2/170).

حكم الجواسيس:

لقد تناول بعض المفسرين مسألة قتل الجواسيس ومعاقبتهم تحت هذه الآية الكريمة، كما أدرج الإمام أبو داود قصة سبب النزول في كتاب الجهاد، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما.
والفقهاء قسّموا الجواسيس على ثلاثة أصناف:
(1) جاسوس حربي.. إن كان كافر حربي يتجسس للكفار، فعقوبته القتل.
(2) جاسوس مستأمن.. أي ذمي كافر يتجسس لحساب المشركين، فعند مالك والأوزاعي انفسخ عهده بتجسسه، فيجوز لإمام المسلمين أن يسترقه أو يقتله، وعند الجمهور لا ينفسخ عهده، إلا إذا كان ذلك الشرط مندرجا ضمن بنود العهد.
(3) جاسوس مسلم.. لا يجوز قتله عند أكثر الأئمة، ويجوز تعزيره، وعند الإمام مالك أمره بيد أمير المؤمنين، إن رأى من المصلحة قتله، قتله.
وفي روح المعاني أن بعض أهل العلم استدلوا بالآية الكريمة على جواز قتل الجاسوس المسلم، لأن النبي · لم يمنع من قتل حاطب بن أبي بلتعة إلا لأنه كان ممن شهد بدرا، فقال الآلوسي: هذا الاستدلال جدير بالبحث. (أي ليس بالقوي). (روح المعاني)
وللتوسع في هذه المسألة يرجى مراجعة تفسير القرطبي وأنوار البيان وكتب الفقه.

درس مهم للمجاهدين:

قد يضطر المجاهدون للخضوع أمام الكفار ولمد يد المودة بسب ظروف أحاطت بهم، وفي مثل هذه الظروف يقول: قلبي مطمئن بالإيمان، فلا مانع من موالاتهم للمحافظة على كذا وكذا. هذه كلها وساوس شيطانية، إن استسلم المجاهد لمثل تلك الوساوس، وصار يراسل الأعداء، أو استعان بهم، أو اتصل بهم لرغبته في المصالحة معهم، فإنه يتهاوى في هاوية الضلال رويدا رويدا، حتى يصل إلى قعرها. وهنا سورة الممتحنة تلقن درسا مهما، وترشدهم إلى أنكم أيها المجاهدون: توكلوا على الله، لا تتطرقوا إلى النفاق بموالاة الكفار، فإن الله قادر على حماية أهلكم ومالكم، وقادر على إنقاذكم من جميع بلايا الدنيا ومصائب الآخرة، وليس أحد غيره من يقدر على نفعكم أو ضرركم، لا تقطعوا روابطكم مع الله لأجل منفعة دنيوية آنية، توكلوا عليه في الأحوال كلها، وقوّوا صلتكم به. (والله أعلم بالصواب)