{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)}.
ملخص معاني الآيات:
أي تذكّروا الوقت الذي قال فيه موسى لقومه من
باب التمهيد قبل دعوتهم إلى الجهاد: يا قومِ اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم
أنبياء وملوكا، وأكرمكم بالحرية والحكم، وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين، (كفلق
البحر، وإغراق العدو بطريق غريب) يا قومِ (إن من مقتضيات تلك النِعَم أن تقاتلوا
العمالقة، ولا تعصوا أمر الله) وياقومِ ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم،
(أي ما أن دخلتم فيها حتى تحقق لكم الفتح) ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا
خاسرين. (تُحرمون من هذه الأرض المقدسة المباركة أرض الشام في الدنيا، وفي الآخرة
تؤاخذون على ترك فريضة الجهاد). (مفهوم بيان القرآن)
وجه الارتباط بين الآيات:
وفي السابق ذكر نقض اليهود والنصارى للمواثيق،
والآن يتناول قصة خاصة تتعلق باليهود من قصص غدرهم وخيانتهم وإنكارهم فريضة
الجهاد. (بيان القرآن)
كلام بركة:
لقد أحاط الشاه عبد القادر رحمه الله بالقصة
بأكملها في تعبيره الجامع التالي:
لقد خرج في سبيل الله نبي الله إبراهيم عليه
السلام من أرض أبيه، وأقام في بلاد الشام مدة، لكنه لم يُرزق بمولود، ثم بشّره
الله تعالى أنه يبسط أولاده في الأرض ويوسعهم، ويمنحهم أرض الشام، ويجعل فيهم
الدين والكتاب والحكم، تحقق ذلك في عهد موسى عليه السلام. فقد أنقذ بني إسرائيل من
العبودية والرق بيد فرعون، ثم أغرق فرعون في البحر، ثم أمر بني إسرائيل بمحاربة
العمالقة، وإنقاذ أرض الشام من أيديهم، فإنها تبقى دولتكم إلى الأبد. فاختار موسى
اثني عشر نقيبا من قومه للاطلاع على أحوال العدو، فذهبوا ثم رجعوا بأخبار أرض
الشام وخيراتها، وأخبر عن العمالقة وقوتهم، وكان موسى عليه السلام أمرهم أن
يبيّنوا للناس خيرات أرض الشام، ويمتنعوا عن ذكر قوة العمالقة، فتقيّد رجلان بما
أمرهم موسى، والبقية أخبروهم عن قوة القوم، فخافوا وضعفوا واستكانوا وأرادوا
العودة إلى مصر. فأجّل الله فتح الشام مدة أربعين سنة، وكانوا يتيهون في البرّية،
حتى مات جميع من كانوا في ذلك القرن، ثم فتح الله عليهم أرض الشام بأيدي الرجلين
اللذين أطاعا موسى، وآلت الخلافة إليهما بعد وفاة موسى عليه السلام.
فائدة:
لقد ذكر أهل العلم العديد من المباحث تحت الآية
الكريمة:
(1) {وجعلكم ملوكا} ما معناه؟ ذكروا أقوالا
كثيرة، وخلاصتها أنكم يا بني إسرائيل يكرمكم الله بالحرية والاستقلال والحكم في
الأيام القادمة.
(2) {وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} وما
هي؟ وهل هي تدل على زيادة فضلهم على أمة محمد ·؟ فالجواب باختصار: إنها لا تدل على
زيادة فضلهم على أمة محمد ·، إذ هو أمر متفق عليه.
(3) {الأرض المقدسة} وما هي؟ ذكروا فيها أقوالا
كثيرة متقاربة، وخلاصتها أنها أرض الشام أو كنعان أو فلسطين. وللتوسع في المباحث
الرائعة الثلاثة ارجعوا إلى تفسير القرطبي والتفسير الكبير وغيرهما.
الدعوة إلى الجهاد:
لقد أنقذ الله بني إسرائيل من ظلم وبطش فرعون
بدون قتال، لكنه سبحانه وتعالى لم يعطهم أرض الشام بدون جهاد. فقد دعاهم موسى إلى
القتال بتذكير نِعَم الله عليهم، وبتذكير فضائلهم وما خصهم الله بمنح أشياء لم يعط
أحداً من العالمين، ثم أبلغهم عن الوعيد عند ترك الجهاد، وقال: {ولا ترتدوا على
أدباركم فتنقلبوا خاسرين}.
أي لا ترتدوا إلى العبودية والرق بالضعف والجبن
في الجهاد. (التفسير العثماني)
فالآيتان شملتا الدعوة إلى الجهاد بأكملها، بأن
مقتضى نِعَمِ الله تعالى على الإنسان أن يخرج للجهاد في سبيله، ويطهر الأرض من دنس
الكفر والشرك. وكل من كانت نِعَمُ الله عليه كثيرة، كان ألزم عليه أن يجتهد في
القتال أكثر. لكن بني إسرائيل تولّت عن الجهاد رغم قوّة الدعوة وتأثيرها، فظلوا
يتيهون في الأرض ويفارقون حياتهم فيها، وخَلَفَهُم جيل جديد، فجاهدوا في سبيل الله
مع نبي الله في عصرهم، ففتح الله عليهم أرض الشام. (والله أعلم بالصواب)
نفسية العبودية:
إذا عانت أمة من الذل والعبودية لفترة، فقدت
كفاءتها للسعي إلى المهمات العالية، وقنعت بما لديها من أمن مع الذل والخيبة
والعبودية، تتخوّف من السعي للمهام، رُغم السعادة والنجاح الذي كُتب لهم فيها،
وهذا ما كانت عليه بنو إسرائيل. فقد فقدوا العزيمة والهمة للمعالي، وطوّق بهم
الضعف والجبن، وكان قد أمرهم نبي الله موسى عليه السلام بدخول أرض كنعان التي كتب
الله لهم، فقالوا إن فيها قوما جبارين وإنّا لن ندخلها ما داموا فيها. وقد جاء في
التوراة أنهم من فرط جبنهم كانوا يبكون ويقولون: يا رب لِمَ أخرجتنا من أرض مصر؟
هل أخرجتنا منها ليقتلنا الكنعانيون بسيوفهم. وكانوا قد عزموا على العودة إلى مصر،
ويتركوا موسى. (العدد 13-14) فرد الله عليهم بتركهم في سيناء يتيهون في الأرض
أربعين سنة، وكانت الحكمة فيها أن خلال هذه المدة يموت الجيل الأول الذي أهملته
حياة العبودية في مصر، ويخلفه جيل جديد، نشأ في برّ الحرية والاستقلال، بعيدا عن
الرق وسمومه، وبعد أربعين سنة ظهر جيل جديد وتقدّم نحو الأرض المقدسة التي كتب الله
لهم، وجاهدوا في سبيل الله، ففتحها الله عليهم. (ترجمان القرآن)
ولتهيج الغيرة فيهم..
أراد موسى عليه السلام أن يثير غيرتهم فقال:
أنتم أبناء الأنبياء وأبناء الملوك، فلتهج غيرتكم، أنقذوا بلد آباءكم من أيدي
الأعداء. وبما أنهم قد لُعنوا بما نقضوا الميثاق من قبل، وأدّت إلى جبنهم وضُعفهم،
لذلك لم ينفعلوا بمقولة موسى عليه السلام. (حاشية اللاهوري رحمه الله)