{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}.
ملخص معاني الآية:
وفي بيان القرآن:
«(أيها المخاطب) لا تحسب أولئك الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا، (مثل عامة
الموتى)، بل هم أحياء (بحياة خاصة) مقربون من ربهم (أي مقبولون) ويُرزقون».
سبب النزول:
(1) وهل سبب ذلك قول من استشهد، وقد دخل الجنة، فأكل من ثمارها من يبلغ عنا
إخواننا أنّا في الجنة، نرزق، لا تزهدوا في الجهاد، فقال الله: أنا أبلغ عنكم،
فنزلت.
(2) أو قول من لم يستشهد من أولياء الشهداء إذا أصابتهم نعمة نحن في النعمة
والسرور، وآباؤنا وإخواننا في القبور، فنزلت. (القرطبي، والبحر المحيط، واللفظ له)
شهداء اُحد أم بدر أم بئر معونة:
وقال أبو الضحي: نزلت هذه الآية في أهل اُحد خاصة. (القرطبي)
وقال بعضهم: نزلت في شهداء بدر. (القرطبي)
وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة. (القرطبي)
تقرير الرازي الرائع:
هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد ، لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من
الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين ، والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين
عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين ، والله تعالى
بين مناقب من قتل في اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين الى التشبه بمن جاهد فيهما وقتل
.
وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل الى نعيم الدنيا وربما لم يصل ، وبتقدير
أن يصل اليه فهو حقير وقليل ، ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم
عظيم ، ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم ، واذا كان الأمر كذلك ظهر أن الإقبال على الجهاد
أفضل من تركه . (التفسير الكبير)
وجه الارتباط بين الآيات:
قال الإمام الرازي في وجه الارتباط بالآية السابقة:
اعلم أن القول لما ثبطوا الراغبين في الجهاد بأن قالوا : الجهاد يفضي إلى القتل
، كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد ، والقتل شيء مكروه ، فوجب الحذر عن الجهاد
، ثم إن الله تعالى بين أن قولهم : الجهاد يفضي إلى القتل باطل ، بأن القتل إنما يحصل
بقضاء الله وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء الله وقدره ، فمن قدر الله له القتل لا يمكنه
الاحتراز عنه ، ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل ، ثم أجاب عن تلك الشبهة
في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم ان القتل في سبيل الله شيء مكروه ، وكيف يقال
ذلك والمقتول في سبيل الله أحياه الله بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة ، وأعطاه
أفضل أنواع الرزق وأوصله الى أجل مراتب الفرح والسرور؟ فأي عاقل يقول إن مثل هذا القتل
يكون مكروها ، فهذا وجه النظم. (التفسير الكبير)
(2) لإزالة آثار ومخلفات الهزيمة يُشار إلى المكانة العالية للشهيد،
ولتشجيعهم على النهوض مرة ثانية، كما هو مضمون العديد من الآيات التي سبقت. (والله
أعلم بالصواب)
حديثان:
لقد ذكر الآلوسي حديثين في سبب نزول الآية الكريمة مما أخرجه أحمد في مسنده
والترمذي في جامعه، وهما:
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا } أخرج الإمام
أحمد وجماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أصيب إخوانكم
بأحد جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي
إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا
: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله تعالى لنا.
وفي لفظ «قالوا من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد
ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل هؤلاء الآيات2 .
(2) وأخرج الترمذي وحسنه . والحاكم وصححه ، وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال
: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا جابر مالي أراك منكسراً فقلت يا رسول الله استشهد
أبي وترك عيالاً وديناً فقال : ألا أبشرك بما لقي الله تعالى به أباك؟ قلت : بلى قال
: ما كلم الله تعالى أحداً قط إلا من وراء حجاب وأحيا أباك فكلمه كفاحاً وقال : يا
عبدي تمن عليَّ أعطك قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال الرب تعالى : قد سبق مني
أنهم لا يرجعون قال : أي ربي فأبلغ من ورائي فأنزل الله تعالى هذه الآية ولا تنافي
بين الروايتين لجواز أن يكون كلا الأمرين قد وقع ، وأنزل الله تعالى الآية لهما.
(روح المعاني)
{بل أحياء}...
كلام بركة:
اختص الله تعالى الشهيد بعد الممات بحياة تختلف عن بقية الموتى، من الأكل
والشرب والتلذذ والاستمتاع، التي تحصل لغيرهم بعد القيامة.
(2) { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا } هؤلاء
يسمّون شهداء، ولا مانع من إطلاق كلمة الميت عليهم، لكن لا يجوز تسويتهم ببقية
الموتى، ووجهه أن ما من ميت إلا ولروحه حياة برزخية، بها يُدرك الثواب والعقاب،
أما الشهيد فقد خصّه الله تعالى بمرتبة هي أعلى من مرتبة عامة الموتى، باعتبار قوة
الآثار. فأقوى الحياة هي حياة الأنبياء، ثم الشهداء ثم عامة الموتى. (بيان القرآن)
(3) {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}. هذه الحياة ليست حياة افتراضية،
كما يقول الناس لمن كان حسن السُمعة إنه حي من باب المجاز، لبقاء اسمه في قلوب
الناس. إنما حياة الشهداء حياة أبدية حقيقية. {يُرزَقُون} أي يُطعمهم الله
ويسقيهم. أراد أبو القاسم المعتزلي وغيره من حياة الشهداء إحياءهم يوم القيامة،
وهو لا يصح عند أهل السنة والجماعة، لأن الله أحياءهم فعلاً، ولِمَا بلغت حد
التواتر تلك الأحاديث التي تصرّح بحياة الشهيد فعلاً، تزخر بها كتب الصحاح وغيرها.
وبعض الأغبياء أراد بالحياة الحياة المجازية، من بقاء أسماءهم في الناس، لأنهم
ضحّوا بأنفسهم وأرواحهم لأجل الشعب والملة. ولاشك أنه من اللغو، لأنه يخالف سياق
وسباق كلام الله تعالى والأحاديث الصريحة الصحيحة وإجماع الأمة، لذلك تقرر أنه
تأويل باطل. (التفسير العثماني)
نكتة:
إن قلنا بمجرد حياة روح الشهيد قالوا كذلك الحال بالنسبة لبقية الموتى، فما
وجه تفضيل الشهيد على غيره؟ وإن قلنا : للشهيد حياة برزخية، قالوا هي حاصلة لغيره
من الموتى. فما وجه تفضيله على غيره؟ لذلك يعيد القرآن هذه القضية مرارا وتكرارا،
ويوضّحها بأساليب متنوعة، ويؤكّد على أن بين حياة الشهيد وغيره فرقا جوهريا، إن
كان المراد من الحياة حياة روحه، فتلك حاصلة للجميع. نريد أن نعرف تلك الحياة
الخاصة (التي تبتدئ بمجرد قتله، كأنّ حياته الدنيوية لم تفارقه) وما حقيقة هذه
الحياة وكنهها؟ إن الإحاطة بجميع جوانب هذه الحياة خارجة عن طاقة البشر، لكن
المفسرين وأهل العلم تناولوا هذه الحياة ببسط وشرح في كتبهم. وقد اكتفينا هنا بذكر
بعض نصوصهم التي تحمل إشارات بليغة. وقد ردّ صاحب التفسير الحقاني على عقيدة
المعتزلة في هذه المسألة، الذين يرفضون حياة الشهداء. (والله أعلم بالصواب)
قال الشيخ أحمد علي اللاهوري:
الذين قُتلوا في سبيل الله يستمتعون بنعيم الله تعالى مثل استمتاع الرجل من
النعيم في الدنيا. (حاشية اللاهوري)
فائدة:
الشهداء أحياء مقربون عند الله يرزقهم. هذه أمور أساسية يجب الإيمان بها،
وهي بعض المناقب التي تكفي لترغيب المسلم في الجهاد والشهادة، كما أنها رد لتلك
الوساوس التي يبثها المنافقون عبدة الدنيا ضد الجهاد في العالم كله. فالشهادة في
نظرهم موت، إذ لا يهمهم إلا حياة الدنيا ونعيمها. (والله أعلم بالصواب)
{عند ربهم} عند هنا تقتضي غاية القرب. (القرطبي)
مقربون عنده ذو و زلفى. (كشاف)
{يرزقون} مثل ما يرزق سائر الأحياء، يأكلون ويشربون. (كشاف)
وأما عن كيفية إرزاقهم فكما وردت في الأحاديث المرفوعة أن قلوبهم توضع في
قناديل معلقة بالعرش، تشرب من أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها. رواه أحمد وأبو داود
والحاكم عن ابن عباس مرفوعا، كذا في لباب النقول.
أقول إن هذا الجانب من الأنهار والثمار قد يكون ببعض المواقع بحيث يتحصلون
عليها منها، حتى لا يقول قائل: كيف يحشرهم الله يوم المحشر بعد دخولهم الجنة.
(بيان القرآن)