{سورة محمد مدنية، الآية 20}



{بسم الله الرحمن الرحيم}
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)}.
ملخص معانى الآية:
(1) الفرق بين المؤمنين والمنافقين أن المؤمنين يشتاقون إلى الجهاد كثيرا، أما المنافقون فيُغشى عليهم كلّما سمعوا الجهاد والاستنفار له.
(2) ما من سورة تنزل من القرآن فيها أمر بالجهاد إلا وتسمى سورة محكمة، لأن حكم الجهاد قطعي، فلا إمكانية نسخه. (قتادة)
(3) المصاحبون للنبي · يشتاقون إلى الجهاد، لأن فيه إعلاء كلمة الله والأجر الجزيل.
المسلمون يشتاقون إلى الجهاد:
وفي التفسير المظهري:
كان المسلمون من فرط اشتياقهم إلى الجهاد يقولون: لو لا نُزّلت سورة ذُكر فيها القتال.
قيل: معنى {سورة محكمة} هي ما لا تحتمل غير الجهاد. (أي لا يمكن إرادة معنى آخر غير الجهاد مهما استخدموا من التأويلات الصحيحة).
قال قتادة: سورة محكمة هي ما أمرت بالجهاد، فإن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، ما من سورة بأمر بالجهاد إلا وكانت شاقة على المنافقين من غيرها من السور. (المظهري)
الحرص على الجهاد:
قال الإمام القرطبي رحمه الله:
«{ويقول الذين آمنوا} أي المؤمنون المخلصون {لو لا نُزّلت سورة} اشتياقا للوحي وحرصا على الجهاد وثوابه. ومعنى «لولا» هلاّ {فإذا أنزلت سورة محكمة} لا نسخ فيها قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين {ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت} وذلك لجبنهم عن القتال جزعا وهلعا ولميلهم في السرّ إلى الكفار. (القرطبي).
المسلمون ينتظرون الأمر بالجهاد:
{وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ} حرصاً على الجهاد لما فيه من الثواب الجزيل فالمراد بهم المؤمنون الصادقون { لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ } أي هلا أنزلت سورة يؤمر فيها بالجهاد فلولا تحضيضية ، وعن ابن مالك أن { لا } زائدة والتقدير لو أنزلت سورة وليس بشيء . { فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال } أي بطريق الأمر به ، والمراد بمحكمة مبنية لا تشابه ولا احتمال فيها لوجه آخر سوى وجوب القتال ، وفسرها الزمخشري بغير منسوخة الأحكام . وعن قتادة كل سورة فيها القتال فهي محكمة وهو أشد القرآن على المنافقين وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن لا بخصوصية هذه الآية والمتحقق أن آيات القتال غير منسوخة وحكمها باق إلى يوم القيامة .
المنافقون لا مساغ لهم للتأويل في حكم القتال:
قال الإمام الرازي رحمه الله:
{فإذا اُنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال} محكمة فيها زائدة من حيث انهم لا يمكنهم أن يقولوا المراد غير ما يظهر منه، أو يقولوا: هذه آية قد نسخت فلا نقاتل. (التفسير الكبير)
هلع المنافقين عند سماع نداء الجهاد:
وفي أنوار البيان:
«هذه الآيات تناولت بيان هلع المنافقين وجزعهم عند الأمر بالقتال وفرح المسلمين واشتياقهم إليه، قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} لا يقولون ذلك إلا لفرط مسرتهم عند نزول أحكام جديدة والعمل بها، فهم يفرحون عند نزول سورة، لكن المنافقين يخافون منها، خاصة إذا كانت السورة تضم بيانا بالقتال، فإنهم يجزعون ويهلعون، في قلوبهم مرض النفاق، لم يؤمنوا بصدق الرسول  ·، ولا بالقرآن، ولا بالساعة، وكلما سمعوا سورة فيها ذكر القتال زاد هلعهم وخوفهم، يبدو ذلك على وجوههم، ينظرون إلى الرسول · نظر المغشي عليه من الموت، يقولون: لا مفر لنا الآن من الخروج للقتال من باب المروءة، لا يخرجون بطيب خاطرهم، فيشاركون فيه رغما عن إرادتهم، والمشاركة بدون طيب خاطر لا تقل عذابا، وزد عليه القتل الذي يتعرضون له فإنه يزيدهم عذابا إلى عذاب. لذلك قال الله تعالى: {فأولى لهم}. (أنوار البيان)
الجهاد شاق على المنافقين:
وفي التفسير العثماني:
قال الشاه عبد العزيز رحمه الله في «موضح القرآن»:
«المسلمون كانوا يطالبون بالسورة، كانوا يتمنون نزول الأمر بالجهاد لما كانوا يعانون من جهود ومتاعب على أيدي المشركين، فلما جاء الأمر بالجهاد، شق ذلك على المنافقين والضعفاء، وباتوا ينظرون إلى النبي · نظر المغشي عليه من الموت، حتى يعذّرهم عنه، والخوف المفرط قد يفنّد نور العيون، شأنه شأن الميت يزول نور بصره». (التفسير العثماني)
المسلمون يحرصون على الجهاد لنصر الإسلام:
قال الإمام أبو حيان رحمه الله:
كان المؤمنون حريصين على ظهور الإسلام وعلو كلمته وتمني قتل العدو ، وكانوا يستأنسون بالوحي ، ويستوحشون إذا أبطأ . والله تعالى قد جعل ذلك باباً ومضروبة لا يتعدى . فمدح تعالى المؤمنين بطلبهم إنزال سورة ، والمعنى تتضمن أمرنا بمجاهدة العدو ، وفضح أمر المنافقين . (البحر المحيط)
المسلمون يتمنون الجهاد في سبيل الله:
في الآيات السابقة ذكر السعداء من المؤمنين وقبول أعمالهم عند الله، وأن المجرمين مصيرهم الدمار والخزي في الدين والدنيا، والآن يشير في هذه الآيات إلى مدى نزاهة مشاعر المخلصين من المؤمنين، واشتياقهم للجهاد في سبيل الله، والمنافقون في قلوبهم مرض، يلجأون إلى حيل كاذبة فراراً عن الجهاد، وبعد بيان قبائح أعمالهم وفسادهم في الأرض أعاد عليهم الحقيقة الواقعية بأن سعادة البشرية ونجاحها كامن في اتباع أحكام الله ورسوله ·، كما قال الله تعالى:
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ } خاصة تأذن بالجهاد، وفُصلت فيها أحكامه، وكان صحابة رسول الله · يتمنون الجهاد ويشتاقون إليه قبل نزول حكمه، فكان أول ما نزل قوله تعالى: {اُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} فهذه هي مشاعر المؤمنين، لكن { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} مثل الميت عند الوفاة يزول نور عيونه. {فَأَوْلَى لَهُمْ (20)} لنفاقهم وضعف إيمانهم. (معارف القرآن للكاندهلوي)
تفسير سهل لطلاب العلم:
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} فيها ذكر الجهاد {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} في معنى الجهاد، محكمة مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجها إلا وجوب القتال. وعن قتادة: كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة، لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال نسخ ما كان من الصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} أي أمر فيها بالجهاد {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} نفاق أي رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي تشخص أبصارهم جبنا وجزعا، كما ينظر من أصابه الغشية عند الموت. {فأولى لهم} وعيد بمعنى فويل لهم وهو أفعل من الولي وهو القرب ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه. (المدارك)
{ فَأَوْلَى لَهُمْ } أحد معنييه عرفناه، وقال الأصمعي {فأولى لهم} قاربه ما يهلكه. (القرطبي)
المرآة:
دلّ تفسير الآية الكريمة على أمور منها:
(1) المؤمنون يشتاقون إلى الجهاد.
(2) المؤمنون يسرّون بالآيات التي تأمر بالجهاد.
(3) المنافقون يصابون بالهلع والجزع إذا سمعوا آيات الجهاد، يبدو ذلك على وجوههم.
(4) الوعيد لمن يتنفر من الجهاد ويبتعد عنه.
(5) جاء لفظ القتال في الآية، والذي دلّ على إرادة فريضة الجهاد، المترادف للقتال.
فأرجو من كل مسلم أن يتخذ هذه الآية نبراساً ومرآة له لينظر فيها وجهه وقلبه، فإن كان يتمنى للجهاد ويشتاق إليه، ويفرح بسماع آيات الجهاد، فتلك علامات الإيمان، فليشكر الله عليها وليحمده. وإن لم يجد قلبه يشتاق إلى الجهاد، بل تساوره الهموم والغموم كلما سمع آيات الجهاد، فليستعذ بالله من شر النفاق. ولِيَبْكِ على حالته كثيرا، لأن النفاق جريمة كبرى، اللهم احفظنا جميعا منه. آمين (والله أعلم بالصواب)