{سورة محمد مدنية، الآيات 22، 23}


{بسم الله الرحمن الرحيم}
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}.
ملخص معاني الآية:
(الخلاصة: 1) إن تركتم الجهاد، انتشر الفساد والقتل والدمار في الأرض.
(الخلاصة: 2) يا أيها المنافقون.. إن أعرضتم عن الجهاد، فإننا لا نتوقع منكم إلا الإفساد في الأرض معتمدين على نفاقكم وخُبث باطنكم، ولا ترقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، بحيث تنصرون الكفار علناً.
(الخلاصة: 3) تتمنون الجهاد الآن، فإن مكّنكم الله في الأرض بفضل الجهاد، فلا تُفسدوا فيها، ولا تقطعوا الأرحام.
(الخلاصة: 4) إن تركتم الجهاد، ما وجدتم لكم أميرا، ولا حماية من شرور الأعداء، ففي عصر الفوضى هذا تتصارعون فيما بينكم على أمور تافهة، تُفسدون في الأرض، ولا ترقبون إلاًّ ولا ذمة.
والواقع، إن ترك الجهاد ينعكس في اللامركزية واللاأميرية، فيبتلون في سلسلة من المصائب والآلام التي لا تكاد تنتهي.
(الخلاصة: 5) إن أعرضتم عن الدين والقرآن، عُدتم إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الفوضى والقتل والنهب والسلب.
الخلاصة:
الآية 23: أولئك الذين لعنهم الله، فأصمهم، فلا يسمعون فوائد الجهاد، وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون منافعه.
ليس بعد التخلي عن الجهاد إلا الفساد:
دلّت الآية الكريمة على أن الأمن والاستقرار لا يستتبّان بدون الجهاد، وبه تنشأ أواصر التلاحم والتواحد، ويترتب على عدمه الفساد والقتل وشق عصا المسلمين.
فلو راجع حكّام المسلمين اليوم أوضاعهم الداخلية، لوجدوا المشهد كما وصفت الآية.
حكام منافقون:
يظهر من أحد أقوال المفسرين، والذي رجّحه الإمام ابن حبّان أن الفارّين من الجهاد إن مكّنهم الله تعالى في الأرض، عثوا في الأرض فسادا، يريقون دماء الناس، ونصروا الكفار على المسلمين. حكّام البلاد الإسلامية اليوم يعادون الجهاد عداءً شديداً، أما شعبهم المضطهد على أيديهم فإنهم يتعرضون يوميا لحوادث الضرب والتنكيل، لاحظوا دقّة تصوير القرآن للمشهد ووضوحه.
ولاستيعاب جميع مطالب ومعاني الآية الكريمة، لاحظوا النصوص التالية:
استتباب الأمن والاستقرار والعدل بالجهاد:
«الآية الكريمة تناولت التأكيد على الجهاد، وأرادت أن ترشد الذين تخلوا عنه أن فيه خسارة دنيوية ظاهرة لهم، فقد خاطبت المنافقين، وأكّدت على أن فرارهم من الجهاد لا يترتب عليه إلا مضرة دنيوية واضحة، فلو تنحى جميعهم عن الجهاد لأدّى ذلك إلى انتشار الفساد في الأرض وقطيعة الرحم. ومن هنا عرفنا أن الجهاد من أهم أسباب الاستقرار في المجتمع وفرض العدالة والإنصاف بين الناس، وترك الجهاد يؤدّى إلى هيمنة المفسدين، وفقد نظام يحمي المصالح الجماعية والفردية، ويترتب عليه انتشار الفساد وضياع الحقوق. رغم ما يقول بعض الجهلة : لا نرى مشاهد الأمن والاستقرار في البلاد إلا بفضل عدم الحروب، إذ الواقع أن الأمن والاستقرار لا يمكن أن يسودا على المجتمع مادام هناك ضياعا للحقوق الأساسية، فدل على أن الجهاد لا يخلو من منفعة دنيوية إضافة إلى الكثير من المصالح الدينية،  والتخلي عنه يستدعي الاستغراب والحيرة. (مفهوم بيان القرآن)
عدم تأييد المسلمين في الجهاد «فساد»:
قال الإمام أبو حيان رحمه الله:
والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال، وهو الذي سبقت الآيات فيه، أي: إن أعرضتم عن امتثال أمر الله في القتال، وأن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم صلة الرحم. (البحر المحيط)
المنافقون يساعدون الكافرين:
قال الشاه عبد القادر رحمه الله:
«تتمنون الجهاد بعد المضايقات التي تلقيتموها، فإن مكّنكم الله في الأرض فلا تعثوا مفسدين». (موضح القرآن)
(أي الآية تنصح المجاهدين بعدم إساءة استخدام السلطة إن حصلوا عليها بفضل الجهاد في سبيل الله)
«أي إن الناس عادة لا يستقيمون على الحق والعدل والطريق الوسط إن توصلوا إلى السلطة والقوة، بل يزدادون طمعا في جمع المال كل يوم، والتنافس غير الشريف على الجاه والمال وتحقيق الأطماع، وينتج عليه النزاع والفساد وقطيعة الرحم وتسوية الطريق للفتن.
تنبيه:
لقد ترجم الشاه عبد القادر وشيخ الهند رحمهما الله كلمة «توليتم» بالحصول على السلطة، وفق رأي كثير من أهل العلم. أما عند غيرهم من أهل العلم فإنهم أرادوا من لفظ «توليتم» الإعراض وعدم الالتفات. وقالوا: المعنى: إن أعرضتم عن الجهاد، ضيّعتم الأمن والاستقرار في العالم، واستشرى الفساد وعدم الاستقرار وتجاهل حقوق الآخرين في المجتمع. وقيل: إن أعرضتم عن الإيمان عادت تقاليد العصر الجاهلي مع عيوبها وقبائحها إضافة إلى قطيعة الرحم على أمور تافهة.
وإن قلنا إن الخطاب موجّه إلى المنافقين خاصة فأحد معنييه : إن أعرضتم عن الجهاد فإننا لا نتوقع من عاداتكم القبيحة إلا الفساد في الأرض، ولا ترقبون في المؤمنين إلاًّ ولا ذمة، وتقدمون إلى المشركين كافة المساعدات. (العثماني بتسهيل يسير)
إنذار قوي:
ومعنى الآية وفق ما رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قول: تفرون الآن من الجهاد في سبيل الله، فقد يسلّط الله عليكم من الحكام الظالمين الذين يأمرونكم بالقتال بنية الفساد في الأرض.
بالتأمل في الأوضاع الحالية نتوصل إلى أن الأمور كما ذكرها القرآن، فقد نجد أولئك الذين نسبوا الجهاد إلى الخطأ، ظلوا يحاربون إلى صفوف الكافرين والظالمين، ويضيّعون حياتهم ويهدرون كراماتهم.
وقيل: المعنى تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لواءهم وأفسدتم بإفسادهم. (روح المعاني)
فقد الجهاد والأمير يستجلب كثيرا من الويلات:
أدرج صاحب التفسير الحقاني ما حققه الإمام الرازي، وزاد عليه قولاً، لاحظوا نص تقريره التالي الذي يزخر بالعبر والنصيحة:
«ومن أحد أعذار المنافقين أنهم كانوا يقولون: كيف نقاتل العرب وبيننا وبينهم قرابات، وقطع القرابات والخوض في الحرب ليس من المستحسنات، لذلك نعتذر إليكم، ولا نخرج معكم. فرد الله عليهم وقال: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتُقطّعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} وكلمة «توليتم» لها معنيان، الأول: من الولاية، والمعنى إن آلت الولاية إليكم، والثاني: من التولّي وهو الفرار، والمعنى: إن أنتم توليتم عن الجهاد وتخلّيتم عنه، فلم يبق لكم حاكم، ولا طريق لحماية أنفسكم من الأعداء، فهذا الوضع يحثكم على التكابر، فتتنازعون فيما بينكم على أمور تافهة، وتفسدون في الأرض، ولا تراقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، مثل عادة العرب في الجاهلية، يسلتون السيوف على الخلافات البسيطة، وتشتعل نيران الحرب بينهم، فيريقون الدماء، والواقع إن عدم قيام المسلمين بواجب الجهاد في سبيل الله تعالى أدّى إلى حرمانهم من الأمير (الخليفة)، وذاقوا صنوفا من الويلات والمآسي». (الحقاني بتسهيل)
لُعن المنافقون لعدم إدراكهم أبعاد الجهاد:
وفي التفسير الحقاني عن الآية 23:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ} لا يسمعون منافع الجهاد {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } فلا يلاحظون فوائده. (الحقاني بتسهيل)
وليتأمّلوا..
أرجو من عامة الإخوة المسلمين مراجعة الآيتين والتأمل فيهما بقلب واع هادي، ليدركوا مدى ما تلحق الأمة من خسائر بسبب ترك الجهاد، وليدركوا أهمية الجهاد لتنعم الدنيا بنعمة الأمن والاستقرار والفلاح. (والله أعلم بالصواب)