{سورة التوبة مدنية، الآية : 23}

بسم الله الرحمن الرحيم

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان. ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون}.

ملخص معاني الآية:

ينبغي للمؤمنين أن لا يفضّلوا الأقارب على أمر الله وولايته، فإن أصرّوا على الكفر فلا يرتبطوا معهم بالمودة والمحبة، فمن فعل ذلك وتخلّى عن الهجرة والجهاد في حب الأقارب فأولئك هم الظالمون.

المناسبة بين الآيات ومضامين الجهاد

رباط القرابة لا يعيق طريق الجهاد:

لا يمكن لرباط دنيوي أو نسبي إعاقة طريق الجهاد. (أي لا يمكن أن تشكّل أعذاراً للتخلف عن الجهاد) (حاشية اللاهوري).

الصلات التي تعرقل طريق الجهاد:

«في الآيات السابقة أشار إلى أن الجهاد والهجرة من أفضل الأعمال وأعظمها. لكن روابط القرابة والعشيرة قد تعيقهما، لذلك أشار إلى أن ذلك لا يفعل إلا من استحب الكفر على الإيمان، إذ المؤمن لا يمكن له أن يفعل ذلك. لأنه لا يليق بحال المسلم أن يقيم روابط المودة والمحبة مع الكفار بحيث تمنع من الهجرة والجهاد، فمن فعل ذلك فقد ظلم نفسه». (التفسير العثماني)

لا يقصر من محاربة الأقرباء في الجهاد:

«فيها أمر المسلمين بإيذان الحرب مع المشركين، فكان الرجل يضطر إلى محاربة أولاده وعشيرته، فقد يسلم الرجل ويبقى أهله وعشيرته على الكفر، ثم قد يؤمر بالهجرة، فيتفرق الأهل والأولاد والإخوان والعشيرة، وتفسد تجارته، ويعاني من الفقر والجوع، وهي أمور تمنع المرء عادة من الجهاد والهجرة، لكن الذي تقرر عند الله هو اجتماع المسلمين في المدينة لإشاعة نور الحق والتوحيد في العالم بمحو سواد الكفر والوثنية بالسيف، لذلك أكّد عليه بلفظ {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان. ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون}.

فائدة:

هذا الذي ذكرناه يتعلق بما حققه الإمام الرازي، فهو يربط هذه الآية بالإيذان بالبراءة، لأن هذه الآية نزلت لتهيئة الأجواء بعد الإيذان بالبراءة عن المشركين وعهودهم ومواثيقهم وببدء القتال معهم، فمن فضّل الأقارب على ما أمر الله به، فقد ضل وغوى، وظلم نفسه.
قال الرازي:
«اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أن يكون جوابا عن شبهة أخرى ذكروها في أن البراءة من الكفار غير ممكنة، وتلك الشبهة أن قالوا إن الرجل المسلم قد يكون أبوه كافرا أو الرجل الكافر قد يكون أبوه أو أخوه مسلما، وحصول المقاطعة التامة بين الرجل وأبيه وأخيه كالمتعذر الممتنع، وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك البراءة التي أمر الله بها، كالشاق الممتنع المتعذر، فذكر الله تعالى هذه الآية ليزيل هذه الشبهة». (التفسير الكبير)

تنديد المبالغة في مودة ذوي القرابة

«فيها بيان فضائل الهجرة والجهاد، والمرء كان يضطر إلى هجر الوطن وذوي القرابة والأحبة والأصدقاء والأموال. ولاشك أنها من الأمور الشاقة على النفس، لذلك ذم المبالغة في حبها ومودتها في الآية التالية إعداداً لنفوسهم للهجرة والجهاد، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم...} الآية. لقد أكثر القرآن من أمر تقوية الصلات مع ذوي القرابة والإحسان إليهم، لكن هنا أشار إلى أن لكل رابطة حدودها ومقاديرها، وكل رابطة سواء كانت رابطة الأمومة أو الأخوة أو البنوة فإنها تقل أهمية مقارنة بالرابطة التي بين العبد وربه ورسوله، وما من موضع تتعارض فيه الرابطتان إلا تفوق رابطة العبد مع ربه على غيرها، ويجب عدم تولّي الأخيرة أيّ اهتمام يُذكر. (بيان ومعارف القرآن)

مناسبة غريبة أخرى:

الآيات السابقة تناولت البشائر العظيمة لكل من هاجر وجاهد في سبيل الله، وهنا إشارة إلى أنهما ليسا من الأعمال الهيّنة، فقد يتصادم المرء مع ذوي قرابته، لذلك أمر لكل واحد منهما بجوائز عظيمة.
وفي تفسير المدارك أن هذه الآية نزلت بشأن الهجرة من مكة المكرمة، لمّا نزل بعدم العبرة بإيمان أحد ما لم يهاجر في سبيل الله، فقد توجّه البعض إلى المدينة، والبعض الآخر تعلّق به أهله وعياله، وقالوا: نضيع دونك. وهؤلاء ارتكبوا خطأ فادحا، فقد كانت قلوبهم ليّنة، وبقوا بمكة ولم يهاجروا، ولم يُوفّقوا للهجرة. فهؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بالظالمين. وعلى كل حال، فالهجرة والجهاد من الأعمال الشاقة، وفي الآيات السابقة بشائر لصاحبهما، وهنا وعيد لمن تركهما. وقد أورد الإمام الرازي هنا شبهة، وقال: نزلت هذه السورة بعد فتح مكة، فكيف يمكن حمل هذه الآيات على الهجرة من مكة؟ وقد أجاب عنه الآلوسي في روح المعاني، وقال معنى نزول سورة التوبة بعد فتح مكة أن أكثرها نزلت بعد الفتح، فلا ينافيه نزول بعض الآيات قبل الفتح. (والله أعلم بالصواب)

وعيد شديد:

لقد اتضح معنى قوله {فأولئك هم الظالمون} من خلال العبارات التي سردناها. لكن القرطبي أخرج عن ابن عباس رضي الله عنهما أن «ظالم» بمعنى المشرك في هذه الآية، والمعنى: كل من والاهم فهو ظالم، أي مشرك بالله.
قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم، لأن من رضي بالشرك فهو مشرك. (القرطبي)

درس مهم:

لقد أرسل الله تعالى المسلم لغرض عظيم، يستعد للهجرة والجهاد سعيا إلى نشر الدعوة الإسلامية في ربوع الأرض ورفعة كلمته، فكان من الواجب عليه أن تكون اهتماماته بالشئون المنزلية أقل، كي لا يصير «إنسانا منزليا» فيتغافل عن مسئولياته الجماعية، لا يُغلَِّب على نفسه حب الوالدين والأولاد والأهل وذوي القرابة بحيث لا يصعب عليه فراقهم للجهاد، لا مفر من الموت، فقد رحل من الدنيا من كان قد هاجر إلى المدينة بعدما ترك كل ما كان يملكه، وقد سبق في الآية التي قبل هذه أن لهم عند الله الرحمة والقرب والرضا، كما مات أولئك الذين كان قد تعلق بهم أهلهم وعيالهم، ومنعوهم من الهجرة والجهاد، ومثل هؤلاء استقبلوا العذاب فور موتهم. والكل هنا يفترق عن الآخر، والسعداء من يفترق عن أحبته لرضا الله سبحانه، فيجازيهم الله تعالى في الدنيا والآخرة. (والله أعلم بالصواب)

رباط الإيمان أقوى من رباط النسب والوطن وفداءٌ عليه

دلت الآية الكريمة على مسألة مهمة، وهي أن رابطة الإيمان والإسلام أولى من رابطة القرابة والصداقة، فما تعارضت معها تساقطت، وعمل الصحابة الذي بفضله صاروا أفضل أمته أنهم كانوا يوثرون علاقتهم مع الله ورسوله على جميع العلائق الأخرى.
بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وقريش مكة وأنصار المدينة كلهم صاروا إخوانا، (رغم انتساب كل واحد منهم إلى عشيرة مختلفة) ويوم بدر واُحد واجه الوالد ابنه، والأخ أخاه، وشهدوا بأن اتجاههم هو هذا:
اللهم ارزقنا اتباعهم واجعل حبك أحب الأشياء إلينا، وخشيتك أخوف الأشياء عندنا. (معارف القرآن)