بسم الله الرحمن الرحيم
{الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في
سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون. يبشرهم ربهم
برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم. خالدين فيها أبداً، إن الله عنده أجر
عظيم}.
ملخص معاني الآيات:
فيها إشارة إلى الدرجة العالية لكل من آمن
وهاجر وجاهد بالنفس والمال، وهؤلاء هم الفائزون، وقد بشرهم الله تعالى بالرحمة
والرضوان وجنات فيها نعيم مقيم، وأن الله عنده أجر عظيم.
بشائر:
إن أعظم الأعمال درجة عند الله بعد الإيمان
بالله والهجرة: الجهاد في سبيل الله، لهم بشائر من الرحمة والرضوان وجنات مقيم لا
يلحقها الفناء. (حاشية اللاهوري)
لهم الفوز الكامل:
وهؤلاء لهم الفوز الكامل، والمشركون الذين في
مقابلتهم، لم يحصل لهم فوز أصلاً، أما المسلمون فلاشك الفوز يشملهم، لكن فوز
المهاجرين والمجاهدين أعلى مرتبة منهم، لذلك المعتبر نجاح هؤلاء. (بيان ومعارف
تسهيل)
أربع خصال تعلو بالبشرية إلى أسمى المنازل
أشار الإمام الرازي إلى الملاحظة المهمة
التالية:
فقال: إن من كان موصوفا بهذه الصفات الأربعة كان
أعظم درجة عند الله الخ.
وهي: (1) الإيمان (2) الهجرة (3) الجهاد بالمال
في سبيل الله (4) الجهاد بالنفس في سبيل الله.
والدليل على أن هذه الخصال الأربعة تعلو بالبشر
إلى أسمى المنازل، فهو أن أغلى شيء لدى الإنسان ثلاثة أشياء، وهي : (1) الروح (2)
الجسم (3) المال.
فالروح بعدما ابتعد عنه الكفر، وحل الإيمان
محله، صار في منزلة عالية من السعادة.
وأما الجسم والمال فقد تعرّضا للخطر والهلاك
بسبب الهجرة والجهاد، لاشك أن الروح والمال من أحب الأشياء إلى النفس، ولا
يُعرّضها للهلاك قط، إلا إذا كان يتوقع شيئا أغلى منهما، فلو لم يكن رضا الله
سبحانه وتعالى أغلى عند المجاهد منهما، لما ضحّى بهما في سبيل الله تعالى، فتحقق
أن ما من مسلم يتحلى بهذه الخصال الأربعة إلا وصار بأعلى مرتبة من مراتب البشرية،
وبالمرتبة الأولى من المراتب الملائكة. (ومرتبة الأنبياء فوق هذه المرتبة بكثير)
(التفسير الكبير).
وهذا الذي ذكره صاحب التفسير الحقاني بفرق
بسيط، فليعد إليه طلاب العلم، وهنا نستعرض بعض جمله، لتتعمقوا فيها.
إن أهم الأشياء بالنسبة للإنسان ثلاثة أشياء،
وهي: الروح والبدن والمال. ولن ينال السعادة ما لم يصلحها ويوجّها إلى الخير،
فتزكية الروح بالإيمان بالله واليوم الآخر، وعند إنارة الروح يندفع إلى حيّزه
الطبيعي وهو عالم النور والسرور تلقائيا. أما المال فيُصرف لنفع النوع البشري
ولإنقاذه من هاوية الهلاك ليتمتع بالسعادة الأبدية، ولإضاءة اسم المحبوب الحقيقي
على الأرض الطاهرة، وللإطاحة بكافة العوائق والعراقيل في طريقه، وهذا ما يسمى
بالجهاد.
ما الجهاد؟ ليس الجهاد إلا إنقاذ من يصطلى
بالنار، وتخليص الغرقى، تُبذل فيه النفس والمال والجسم، وفيه تزكيتها وتزيينها،
كأنّهم يتركون آثارهم الخالدة على الأرض من التوحيد واتباع الحق، وعوضاً عنها
يفوزون بالسعادة العظمى والحياة الأبدية، لذلك أشار الله تعالى إلى مساعيهم
الجميلة أولاً بلفظ {آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله} فهذه الأمور الثلاثة
الإيمان والهجرة والجهاد، ثم أشار إلى النتائج التي ترتبت عليها بلفظ {أولئك أعظم
درجة عند الله} ثم أتبعه بقوله {وأولئك هم الفائزون} ثم قال: {يبشرهم ربهم برحمة
منه} وهذه البشارة بالرحمة ومنزلة الحب لا يمكن وصفها، فهذا هو الأمر الثالث، ثم
هذا الأخير يشتمل على ثلاثة أمور : الأول: الرضوان، أي البشارة برضا الله الأبدية،
فلا يسخط عليهم قط. والثاني: الجنة، أي الحدائق والبساتين، لا تنفك من النعم
والفخر. والثالث: يخلدون فيها، فهذه النِعم الثلاثة كانت عوضا عن مساعيهم الجميلة،
وهي (الإيمان والهجرة والجهاد) إضافة إلى ذلك فإن الله سبحانه تعالى يبشرهم من
عنده ببشارة عظيمة، وهي الأجر العظيم، وما هو الأجر العظيم؟ تنوعت فيه آراء أهل
العلم، ومنها أن المراد منه: رؤية الله تعالى يوم القيامة، ولا أجر فوقه. (التفسير
الحقاني بتسهيل)
الرحمة والجنة والرضوان عوضا عن الإيمان والهجرة والجهاد
أشار الإمام ابن حبان في البحر المحيط إلى
ملاحظة إيمانية، وفيما يلي لاحظوا نص ما كتبه:
«ولما كانت الأوصاف التي تحلّوا بها وصاروا بها
عبيده حقيقة هي ثلاثة، الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس، قوبلوا في التبشير
بثلاثةٍ: الرحمة والرضوان والجنات، فبدأ بالرحمة لأنها الوصف الأعم الناشيء عنها
تيسير الإيمان لهم، وثنى بالرضوان، لأنه الغاية من إحسان الرب لعبده، وهو مقابل
الجهاد، إذ هو بذل النفس والمال، وقدم على الجنات، لأن رضا الله بالعبد أفضل من
إسكانهم الجنة، وفي الحديث الصحيح «أن الله تعالى يقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟
فيقولون يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا نارك، وأدخلتنا جنتك، فيقول: لكم عندي
أفضل من ذلك فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضائي، فلا أسخط عليكم
بعدها، وأتى ثالثا بقوله {وجنت لهم فيها نعيم مقيم} أي لا دائم لا ينقطع، وهذا
مقابل لقوله وهاجروا، لأنهم تركوا أوطانهم التي نشؤوا فيها وكانوا فيها منعمين فآثروا
الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة، فقوبلوا ذلك بالجنات ذوات
النعيم الدائم» (البحر المحيط).
فال شيخ الإسلام رحمه الله:
في الآية السابقة ذكر ثلاثة أشياء، وهي الإيمان
والجهاد والهجرة، وبشّر عليها بثلاثة أشياء، وهي: الرحمة والرضوان والخلود في
الجنة. قال أبو حيان: الرحمة تترتب على الإيمان، ولا نصيب من رحمة الله في الآخرة
بدون الإيمان، والرضوان منزلة من أعلى المنازل عوضاً عن الجهاد في سبيل الله،
فالمجاهد يضحى بالنفس والمال بإفناء جميع العلائق والحظوظ النفسية، سعيا إلى مرضاة
الله تعالى بفداء أغلى ما يملكه، وهذا يتوجب عوضاً عاليا، فذلك هو رضا الله سبحانه
وتعالى. أما الهجرة فهي ترك وطنه المألوف لله تعالى، لذلك بشّر المجاهد بأن لك داراً
خيراً من دارك ووطناً خيرا من وطنك، تخلد فيها بالهنا والسعادة، ولن تضطر إلى
الهجرة منها. (التفسير العثماني)
الفائزون:
وفي التفسير الفرقان:
جاء في الحديث: «أنا آمركم بخمس، الله أمرني
بهن. الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله.
ولا يتحقق الفوز لأحد ما لم يتقدم خطوات إلى
هذه التوجيهات النبوية، ووقف حياته للجهاد في سبيل الله، وبه تمحو ذنوبه كلها:
«إن السيف محاءٌ للخطايا» (أحمد).
«إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف» (مسلم).
(تفسير الفرقان)
نعيم الجنة مقيم:
لقد أوضحت كلمة {مقيم} أن نعيم الجنة يبقى ويدوم
ولا يزول، لا كزاد المسافر وقتي وآني.
استعارة للدائم (روح) دائم (بيضاوي)
ونكّر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم (بحر)
وأكّد الخلود بالتأبيد لأنه قد يستعمل للمكث
الطويل (بيضاوي)
وبه اتضحت هذه الحقيقة ثانية أن نعيم الجنة
عظيم ومقيم لا يزول ولا يفني ولا ينقطع. (الماجدي).
{أعظم درجة عند الله} اعترضوا على صيغة اسم
التفضيل في «أعظم» ثلاثة اعتراضات، ذكرها الإمام الرازي ثم رد عليها، فمن شاء
فليعد إلى التفسير الكبير للرازي.