{سورة التوبة مدنية، الآية : 19}

بسم الله الرحمن الرحيم

{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين}.

ملخص معاني الآية:

لا يستوي الذين يسقون الحجاج ويعمرون المسجد الحرام بمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، فالذين لم يؤمنوا لا يستوون بالمؤمنين المجاهدين، مهما بلغت خدماتهم للحجاج وعمارتهم للمسجد الحرام، أما الذين آمنوا فالذين جاهدوا منهم أولى ممن يسقون الحجيج ويعمرون المسجد الحرام، أي «الجهاد في سبيل الله» من أحب الأعمال عند الله، ولا يهدي القوم الظالمين إلى ما ذكرنا من الأعمال.

الأقوال ومراجعها

رفض العذر الثاني عن الجهاد:

قال اللاهوري رحمه الله:
لا يمكن للمسلمين أن يعتذروا عن المشاركة في الجهاد لاشتغالهم بالذكر والفكر في المساجد. (حاشية اللاهوري)

فضل الإيمان والجهاد:

«الإيمان والجهاد أفضل من السقاية وعمارة المسجد الحرام، وفيه رد على المشركين لابتعادهم عن الإيمان، وكذلك الجهاد أفضل من السقاية والعمارة، وفيه رد على بعض المؤمنين الذين يعتبرونهما أفضل من الجهاد. (بيان القرآن بتسهيل).

الجهاد أفضل من تولي شئون الحرم:

«فعلمنا أن الإيمان لا شك أنه أفضل الأعمال، لكن الجهاد في سبيل الله كذلك أفضل من السقاية وتولي شئون الحرم وتنظيمها».
فقد قال الله تعالى: {لا يستون عند الله} (التفسير العثماني).

الجهاد أفضل من تولي شئون الحرم:

لقد لخّص شيخ الإسلام جميع ما ذكره المفسرون تحت هذه الآية الكريمة، ونسرده فيما يلي:
«كان المشركون يعتزون بما يقدمون إلى الحجيج من السقاية والرفادة وعمارة المسجد الحرام وترميمه وكسوته وإنارته، فكانوا يقولون: إن كان المسلمون يعتزون بجهادهم وهجرتهم فإن لدينا جانباً من الطاعات نعتز بها، وكان العباس قد جادل مع علي بن أبي طالب فيها، كما أخرجه مسلم في صحيحه، أن بعض المسلمين كانوا يتنازعون فيما بينهم، فقال أحدهم: لا شيء أفضل عندي بعد الإيمان بالله من السقاية، فقال الثاني: خدمة الكعبة أفضل عندي من السقاية والإنارة والكناسة، وقال الثالث: الجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال وأعلاها بعد الإيمان. فوبخهم عمر رضي الله عنه على ما يتكلمون يوم الجمعة عند منبر رسول الله ·، وقال اصبروا حتى يخرج النبي · فنسأله عنها. فلما سألوه عقب الجمعة نزل قوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام} أي لا تستوي السقاية وعمارة المسجد الحرام بالإيمان بالله والجهاد في سبيله، ناهيك عن أفضليتها لها. ذكر الجهاد مع الإيمان بالله إما للرد على اعتزاز المشركين وفخرهم، فقد أكّد على أن الإيمان بالله روح الطاعات كلها، ولا روح في السقاية والعمارة بدون الإيمان، فالعمل الذي لا روح فيه كيف يتساوي مع العمل الحي؟ {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} (فاطر ركوع 3).
وإن كان الغرض التقابل بين أعمال المؤمنين المتنوعة، فالإيمان بالله تعالى يكون بمثابة التمهيد للجهاد في سبيل الله، إذ الغرض الحقيقي بيان أفضلية عزائم الأعمال من الجهاد وغيره، وبذكر الإيمان أكّد على أن بدون الإيمان بالله لا عبرة بالعمل سواء كان جهادا في سبيل الله أو غيره من الأعمال، وتقوُّم عزائم الأعمال لا يتم إلا بالجهاد، ولا يفهم هذا إلاّ من رزقه الله فهما سالما، أما الظالمون فلا يتوصلون إلى تلك الحقائق». (التفسير العثماني «تسهيل»).

تحذير من يستثني نفسه من الجهاد:

«في الآيات السابقة أكّد على التعليمات الأوّلية للإسلام من الصلاة والزكاة وغيرهما، فإن اتخذها أحد غاية حياته، وادعى أن الإسلام ليس إلا أداء الصلاة وإلزام الناس ببعض أحكامه، ويزعمها مكملة للدين، ويستثني نفسه من الجهاد في سبيل الله، فإن مثل هذه المزاعم يردها قوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج...} الخ
ثم قال:
لقد أشار القرآن في موضع آخر إلى أن الجهاد في سبيل الله من أحب الأعمال إلى الله، فقال: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنّهم بُنيان مرصوص} (61: 4).
ثم قال:
فاعلموا أنه لا مقارنة بين عمارة المسجد والجهاد في سبيل الله، ومن زعم ذلك فقد عدَّهُ القرآنُ من ضمن الظالمين، لأنه جهل بسرّ حياة الأمم ومماتها، فإن كنتم تزعمون أن الصلاة جعلها النبي · أفضل الأعمال، فلا شك أنه صحيح في حد ذاته، إذ الصلاة من أفضل الأعمال في ذاتها، لكن السؤال إن كان يتعلق بحياة الأمم ومماتها فالجواب الصحيح عنه أنه الجهاد في سبيل الله. (تفسير الفرقان)

ملحوظة:

لقد استخلصنا من الآية السابقة لزوم بناء المساجد على المجاهدين، وإعمارها بالمصلين، والمحافظة عليها، وتطهيرها من وجود المشركين الآثم، وفي هذه الآية تلقين لدرس جديد، وهو أن عمارة المساجد وبناءها سواء كانت عموم المساجد أو المسجد الحرام فإنه لا يساوي الجهاد في سبيل الله، لاشك أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وسدانته من الأعمال الروحية الجذّابة، لكن قد يحسبها المؤمن غاية، فيشتغل بها ويتولى عن الجهاد، فهذه الأعمال من مسئوليات المسلم، لكن عليه القيام بها إلى جانب الجهاد في سبيل الله، لأن الجهاد أفضل منها. لعل هذا هو المعنى الذي لاحظه عبد الله بن المبارك، حتى كتب الأبيات التالية لفضيل بن عياض، ولقيت إعجاب الدنيا:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا          لعلمت أنك بالعبادة تلعب
وهذا ما صدّقه فضيل بن عياض نفسه، وأقر الجهاد أفضل من عمارة المسجد. (والله أعلم بالصواب)
فالواجب على الإخوة المجاهدين في سبيل الله الاهتمام بعمارة المساجد وتشغيلها بالمصلين والمحافظة عليها.
{والله لا يهدي القوم الظالمين} هذه الجملة الأخيرة في الآية، وأشار بها إلى أن ذلك أمر بسيط ويسير، فالإيمان أساس الأعمال كلها وأفضلها، وأن الجهاد أفضل من السقاية وعمارة المسجد، لكن الله لا يوفّق الظالمين لإدراك الحق، لذلك يتعنتون في مثل هذه الأحكام الواضحة ويبغونها عوجاً. (معارف القرآن)

تأمّلوا قليلاً:

تصوروا .. كم يكون سعيدا ذلك المسلم الذي وفّقه الله تعالى لعمارة المسجد الحرام بماله الخاص وسقاية الحاج وسدانة الكعبة، ولاشك أنه كذلك، لكن الجهاد في سبيل الله أولى وأفضل من عمله، فتصوروا سعادة المجاهد وقدّروا مكانته. والله أعلم بالصواب.

السعادة الحقيقية في التضحية بالنفس والمال:

وفي التفسير الحقاني: «أما السقاية التي كان يعتز بها عباس بن عبد المطلب، والتي كان يعتبرها مثل الجهاد والهجرة، فقد أكّد الله هنا أنها لا تساوي الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، كلا وحاشا لا يتوصلون بالسقاية والعمارة إلى السعادة، إذ هي تحصل بالتضحية بالنفس والمال جهاداً في سبيل الله. (تفسير حقاني)