{سورة التوبة مدنية، الآية : 28}

بسم الله الرحمن الرحيم

{يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شآء. إن الله عليم حكيم}.

ملخص معاني الآية:

لمّا كسر الله تعالى قوة الكفر وشوكتها، وفتح على المسلمين عاصمة الجزيرة العربية مكة المكرمة، وطفقت القبائل العربية تدخل في دين الله أفواجا، جاء الإيذان بعدم دخول مشرك (أو كافر) المسجد الحرام، بل لا يقتربوا من حدوده، لأنهم بقلوبهم النجسة بدنس الكفر والشرك لا يقدرون على الدخول في مركز التوحيد والإيمان وأقدس بقاع الأرض، وقد ثبت في أحاديث صحيحة أن النبي · أمر فيما بعد بإخراج جميع المشركين واليهود والنصارى من الجزيرة العربية. وقد تم تطبيق آخر وصية وصّى بها النبي · في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلا يجوز موافقة المسلمين على بقاء المشركين فيها كمواطنين أو مسيطرين عليها، بل من واجبهم الديني السعي إلى إخراج المشركين والكفار من جزيرة العرب.
وعند منع المشركين من القدوم إلى الحرم قد يخشى البعض على التجارات والمعاملات، وأن البضائع التي كانوا يحملونها إلى الحرم تتوقف عنه، لذلك أراد الله تطمينهم، لا تجزعوا، لأنكم لا تنعمون بنعمة الرخاء إلا بفضل الله وبإرادته، وهكذا صار، فقد دخل في الإسلام الجزيرة العربية بكاملها، وتوافدت البضائع عليها من الأقطار كلها، ونزل الماء من السماء، وزادت الزروع والثمار، وفتح الله عليهم أبواب الانتصارات والغنائم، وتحصلوا على الجزية من أهل الكتاب، حتى جمع الله عليهم أسباب الغناء والرخاء من الوجوه كلها، إن الله عليم بكل شيء، وحكيم لا يخلو فعله عن حكمة. (التفسير العثماني مع تسهيل)

موضوع الآية الكريمة:

لا يمكن التخلّي عن الجهاد بحجة احتمال عدم توفّر بعض الضروريات الدنيوية، لأن الضرورة إن كانت مهمة، فإن الله سوف يوفّرها من جهة أخرى، فلا يجوز الامتناع عن الجهاد رعاية للمخاطر الاقتصادية. (حاشية اللاهوري)
ومثله ما كتبه الإمام الرازي، أن البعض كانوا يخشون من تعرض المسلمين لمخاطر اقتصادية بعد إيذان الحرب والبراءة من المشركين علناً، فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليهم، لاحظوا التفسير الكبير.
والعبارة التالية تُساعد في استيعاب معنى الآية الكريمة:
المسلمون ارتبطوا بالمشركين بالمعاملات التجارية، مصادر دخل المسلمين بأيدي أعداءهم، ويستلمون منهم مبالغ، فإن طولبوا بالقتال في سبيل الله قالوا: إن فعلنا ذلك حُرمنا من مصادر دخلنا، ولا نجد المال، ويحيط بنا الفقر والبطالة، فمن المصلحة عدم محاربتهم، وإلا لتضرر به الجميع، فردّ الله تعالى على هذه المزاعم بقوله: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس} الآية.
في موسم الحج كانت مكة تكتظ بالضائع التجارية، ويتسوق الناس في أسواقها، وكانت أشهر أسواقها في الجاهلية ذو المجاز وعكاظ، تقام فيها معارض تجارية، ويفتح التجار الكبار متاجرهم للزبائن، إلى جانب ذلك كانت أسواقا لترويج الأشعار والقصائد والأبيات والمفاخر، فلما أمروا بمنع دخول المشركين بمكة، راودتهم شكوك حول إمكانية استمرار توفر مستلزمات حياتهم، لانسداد مصادر الدخل كلها بعد منع المشركين من الدخول، حتى قال قائل: من أين نعيش؟ فرد الله عليهم، وقال: إنما المشركون نجس، تسربت فيهم جرثومة المرض، فقد جُبلوا على الشرك والكفر وعبادة الأوثان، لا يتحولون إلى مكان إلا ورافقتهم، ثم تنتشر فيها بشكل الأوبئة، وذلك يستلزم منعهم من الاقتراب من المسجد الحرام، أما إن تخشون كساد أسواقكم لمنعهم من دخول الحرم، فتلك مزاعم فاسدة، لا تتخلوا عن الجهاد بسببها. أما ما وعد الله تعالى المسلمين في هذه الآيات من غنائهم وثراءهم، فقد تحقق ذلك في فترة قياسية، فقد استولوا على خزائن قيصر وكسرى خلال مدة يسيرة، وخضعت لهم كافة الأمم المتحضرة. (تفسير الفرقان)

الاقتصاد.. أكبر صنم في العصر الحاضر

لم يكن نظر أولئك الذين كانوا حديث عهد بالإسلام إلا على الرزق الحاضر بين يديهم، وكان يصل إليهم بعد المرور على المشركين، فأكد لهم القرآن على أن لا تذهب عقولهم على الظاهر، بل عليهم أن يطيعوا الله العليم الحكيم، وليعلموا أن رزقهم تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء جعل لهم قناطير الطعام والشراب. ولمّا سمعوا هذه الآية آمنوا بنصر الله، ولم يتخلفوا عن الجهاد خشية انهيار الاقتصاد، لذلك فتح الله عليهم أبواب الرزق والمعاش، فلم يبق مشكلة يجب معالجتها. وصاروا أغنياء بحيث لم يبق للمال طالب. لاحظوا المشركين اليوم جعلوا البلاد الإسلامية من فئة العالم الثالث بعد ما سيطروا على جميع مصادر الرزق الظاهرة، ولجأوا إلى وسائل الإعلام المتنوعة لتعظيم الاقتصاد حتى ألّهوه، وبات الناس يعبدونه، وسعوا إلى ترسيخ دعائم الفكر الحديث الذي يعتمد على أصل واحد، وهو: التقدم في المجال الاقتصادي هو التقدم الحقيقي في كافة مجالات الحياة، وأن الجهاد سبب في تخلف المسلمين اقتصاديا ومعيشيا، بل هو السبب الحقيقي لتدمير اقتصادهم.
فهذه الآية القرآنية قضت على الصنم الاقتصادي، وأرشدت المسلمين إلى ضرورة تطهير الرزق من جميع أشكال الدنس، ومنها مرور الرزق على المشركين الذين هم نجس.
فالرزق بيد الله تعالى، توكّلوا عليه وجاهدوا في سبيله، تتوصلون إلى خزائن رزقه المخفية، فلا تحتاجون إلى المشركين، فثقوا بالله وبعلمه، لا بعلمكم.. واذعنوا لحكمة الله، وليس لعقولكم. (والله أعلم بالصواب)
{إنما المشركون نجس}
«نجس» مصدر نَجِسَ يَنْجَسُ بمعنى الدنس، فيها مبالغة للإشارة إلى أن المشركين من رأسهم إلى رجلهم نجس، لا فرق بين ظاهرهم وباطنهم. فهذه الجملة تعطي المسلمين أصلا قويا لا يتأثرون بفضلها من المشركين الغارقين في أنجاس الكفر والشرك والمهمكين في ملذات الدنيا ورونقها وجمالها والفواحش، فقد أرشدهم الله تعالى إلى أن المشركين نجس كلهم.
وفي التفسير الماجدي:
كلمة «نجس» مصدر، وبابه سمع، بمعنى الدنس، يأتي للمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، والغرض هنا التأكيد على دنس المشركين، بأنهم عين النجاسة.
أخبر عنهم المصدر للمبالغة كأنهم عين النجاسة أو المراد ذوو نجس (روح) أي ذوو نجس وهو مصدر (مدارك). (التفسير الماجدي)
وقال المفتي محمد شفيع بعد الإشارة إلى أنواع النجاسة الثلاث:
كلمة «إنما» تدل على الحصر، فمعنى قوله {إنما المشركون نجس} إن المشركين عين النجاسة، والواقع أن المشركين لا يخلون عن أنواع النجاسة الثلاث، لأن كثيراً من النجاسات الظاهرة لا يعتبرونها نجاسة، فلا يبتعدون عنها، مثل الخمر ومشتقاتها، أما النجاسة المعنوية من الاغتسال من الجنابة وغيرها، فلا يؤمنون بها، كما أنهم لا يتعافون عن الأخلاق الرذيلة والعقائد الفاسدة. (معارف القرآن)

أحكام الآية المباركة:

تأمّل أهل العلم في معاني هذه الآية المباركة، واستنبطوا منها المسائل الكثيرة، ومن أبرزها:
(1) المراد من المسجد الحرام: حدود الحرم كلها، وليس المراد الكعبة والمسجد الذي حولها.
(2) والمراد من نجس المشركين: النجس القلبي والروحي والمعنوي، وليس الجسدي.
(3) حكم دخول المشركين في حدود الحرم، ودخولهم في المسجد الحرام وبقية المساجد.. لا شك أن سيطرتهم عليهم محرّم عند جميع الائمة، لكنهم اختلفوا في مرورهم عليها.
وللتوسع فيها ولمعرفة أحكامها وتفاصيلها راجعوا: تفسير المدارك، والقرطبي، وأحكام القرآن للجصاص، وروح المعاني، وبيان القرآن وغيرها.

والحكم يشمل اليهود والنصارى:

«هذا ما ثبت عن رسول الله ·، أن الحكم يشمل اليهود والنصارى والمشركين، وقد تم تطبيق الحكم المذكور في عهد عمر بن الخطاب في كافة مناطق الجزيرة العربية، والغرض من الحكم عند الحنفية بقاءهم كمواطنين أو مسيطرين عليها، أما المرور عليها كسافرين بإذن الإمام فلا مانع فيه إن كان فيه مصلحة للمسلمين. (التفسير الماجدي)

فهذا جهاد عظيم..

«لم يكن قطر من الأقطار العربية ينبت المواد الزراعية، كانت التجارة عماد حياة قريش، لذلك كان خوف حديثي العهد بالإسلام طبيعيا، فمن أين يأكلون إن قطعوا العلاقات التجارية مع المشركين؟
وقد طمّنهم الله تعالى عليها، وبما أن قريش كانت مسيطرة على تجارات الجزيرة العربية وعلى أسواقها ومعارضها التجارية، بل كانت قد رسخت أقدامهم في التجارة الدولية بين آسيا وأوروبا، لذلك لم يكن من السهل قطع الروابط التجارية معها.

مفاتيح الرزق عند الله:

ذكر العلامة التهانوي رحمه الله نكتة مهمة، جمعها الماجدي في نصه الآتي:
{إن شآء} الغرض منه الإشارة إلى حقيقة واضحة، وهي أن الله ليس في حاجة إلى أسباب كبيرة لإنجاز وعده، إنما تكفيه إرادته، فقد تحولت الجزيرة العربية بكاملها إلى الإسلام بعدما شاء الله تعالى لها ذلك، تنهال اليضائع التجارية عليها من كل صوب وحدب، هطلت أمطار غزيرة فتضاعفت الثمار والزروع، فتح الله عليهم أبواب الفتوحات والمغانم، وهطلت أمطار غزيرة فتضاعفت الثمار والزروع، فتح الله عليهم أبواب الفتوحات والمغانم، وحصلوا على أموال الجزية من أهل الكتاب، فباختصار إن إرادة الرب جمعت خزائن الأرض وغناها من كل صوب وحدب. (التفسير الماجدي)